التداوليات

التداوليات وعلاقتها بتراثنا العربي والإسلامي

لأن اللغويين العرب في الزمن المعاصر يغلب عليهم الاستهلاك، فإن النظرية التداولية انتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم بحجة مواكبة العصر الحديث.


المهتم بعالم اللغويات يستطيع دون عناء أن يشاهد ظاهرة جديدة اليوم تتمثل في غزو (النظرية التداولية) للتراث العربي والإسلامي. فما عليك إلا إلقاء نظرة سريعة على الكم الكبير من الدراسات والمقاربات التداولية التي أجريت في جامعات عربية وإسلامية.


والتي تتناول كثيراً من مجالات البحث في التراث العربي والإسلامي، التي شملت سورا وآيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية ودواوين شعر. والبعض منها حاول إيجاد أصل للتداوليات في تراث اللغويات العربية.


وقبل التطرق إلى ظاهرة التواجد المبالغ فيه للتداوليات، فإنه من الطبيعي أن نتطرق لمنشأ مصطلح التداوليات، فهذا المصطلح هو مشكلة بحد ذاته، ويعد المفكر المغربي طه عبدالرحمن أول من أدخل مصطلح (التداولية) إلى الثقافة العربية.


وقد اختار مصطلح التداوليات ليكون مقابلا للمصطلح الغربي (Pragmatics) أي البراغماتية التي تُرجمت قبل ذلك بالذرائعية أو النفعية. فلماذا لم يبق طه عبدالرحمن مصطلح الذرائعية واستبدله بالتداولية؟.


إن مصطلح البراغماتية أو الذرائعية عرفناه من خلال الفلسفة البراغماتية الأميركية، وكلنا نعرف العلاقة الوطيدة بين علم اللغة البراغماتي وبين المذهب الفلسفي الأميركي (البراغماتية)، فعلم اللغة البراغماتي الذي ترجمه طه عبدالرحمن بالتداولية ليس إلا امتدادا إلى تأثير العقيدة الفلسفية الأميركية.


لذلك نستطيع القول بأن النظرية التداولية هي مجرد دراسة لسانية ولكن بمنظور أميركي، لأن البراغماتية تعبر بشكل أو بآخر عن القومية الأميركية ورؤيتها للعالم.


فعندما ترى رسالة ماجستير تحمل عنوان (مقاربة تداولية لشعر أبي الطيب المتنبي) على سبيل المثال، فإنها تعني مقاربة براغماتية، أو مقاربة ذرائعية أو دراسة من منظور أميركي لشعر أبي الطيب المتنبي، فللأسف أن مصطلح التداولية يحمل كثيراً من التضليل.


لأنه خفف كثيرا من وطأة الأمركة في المصطلح، وأبعد أنظارنا كثيرا عن مذهب البراغماتية النفعي، وجعل القارئ يعتقد بأن التداولية مجرد نظرية حديثة شاملة تتناول اللغة من منظور علمي محض وليس لها أي علاقة بأي قومية كانت.


ولأن اللغويين العرب في الزمن المعاصر يغلب عليهم الاستهلاك، فإن النظرية التداولية انتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم بحجة مواكبة العصر الحديث، مع أن المذهب البراغماتي لا يعد حديثا حيث تعود جذوره لزمن سابق لزمن الآباء المؤسسين للقارة الأميركية.


ويعود الفضل أولاً وأخيراً للولايات المتحدة في انتشار هذه المذاهب بما تملكه من أدوات غزو ثقافي من الصعب مقاومتها، فالبراغماتية هي فلسفة العولمة ذات الطابع الأميركي التي تقدم لنا نمطا واحدا للقيم والأخلاق والسلوكيات وهو النمط الأميركي.


إن ما يسمى بالتداولية، حقل لساني ملتبس غير واضح المعالم، حيث يصعب على المتتبع لتطور اللسانيات أن يعرف الحدود الفاصلة بين المجالات اللسانية المعروفة وبين التداولية، واللسانيون أنفسهم عجزوا عن تحديد ميدان للتداولية في مقابل فروع اللسانيات الأخرى.


ولا أجد فرقا كبيرا بين علم الدلالة وبين ما تطرحه التداوليات، فهذه الأخيرة ليست إلا علم الدلالة أو جزءا منه، ولكن ارتباطها بالفلسفة البراغماتية الأميركية أعطاها كل هذا الزخم غير المبرر.


كان من الأجدر باللغويين العرب المعاصرين إعادة قراءة تراثهم اللغوي، فإنهم سيجدون كل ما تطرحه التداوليات، قد أشبع طرحا في كتب التراث العربي، فدراسة اللغة على مستوى الاستعمال أو العلاقة الضمنية بين اللغة وعلم الاجتماع هي علاقة قديمة تناولها كثير من اللغويين العرب.


وقولنا بأن ما تطرحه التداولية ليس بجديد عند اللغويين العرب القدامى، لا يغضب اللغويين الغربيين بقدر ما يغضب اللغويين العرب أنفسهم، فبعض هؤلاء العرب لديه تعصب لتخصصه يجعله يصل حد التشكيك في قدرة علماء اللغة العرب أو العقل العربي على صياغة نظرية لغوية علمية متماسكة.


إن انتشار مثل هذه النظريات في أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات العربية يعد ظاهرة غير صحية، لأننا طرحناها بصفتها نظريات علمية وجعلنا دراستها وفرضها على طلابنا هو عنوان التقدم والتحديث ومواكبة العصر، وهذا يطرح كثيرا من علامات الاستفهام حول أقسام اللغة العربية في العالم العربي.

محمد السعد

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى