فكر وفلسفة

سقراط يموت مرتين: هل هي نهاية الفلسفة؟

بقلم: فريد الزاهي

كان هيغل وهو يمارس حياته الفلسفية في وقت شلينغ وهولدرلين، يسمى “الرجل العجوز”. وهو نعت ينطبق عليه تماما كما على فكره. ففي كتاباته عن تاريخ الفلسفة تحدث عن نهايتها Ende. فلقد كان هذا الفيلسوف بشكل ضمني وغامض أيضا يعتبر أن الفلسفة لا يمكن أن تمارس في الصبا بل في نهاية الحياة ومنتهاها. التفكير الفلسفي إذن حسب هيغل لا يتم إلا في الأصيل، وهو ما يعني، بشكل ما، أن هيغل هو منتهى الفلسفة ونهايتها.

وبشكل ما أيضا يمكن أن نعتبر هذا أمرا صحيحا. فكل الفلسفات التي جاءت بعد هيغل سعت بصورة أو بأخرى إلى تفكيك هذه الفلسفة الشامخة المؤمنة بالتاريخ أكثر من إيمانها بالمستقبل. فكانت مطرقة نيتشه بدايتها. ولذلك اعتبره هايدغر آخر الفلاسفة الميتافيزيقيين، بمقابل هيغل الذي يمكن أن نعتبره آخر الفلاسفة العقلانيين في الحداثة.

كان تفكيك هايدغر للفلسفة الميتافيزيقية مجهودا حثيثا أعاد للفلسفة وهجها، غير أنه أيضا كان بداية إعلان عن هشاشتها: فلقد “جرؤ” على فتح الفلسفة على الشعر ضدا على العقل، مستعيدا الفلاسفة الإيليين ماقبل السقراطيين الذين أسسوا أصل الفلسفة في الشعر. كما أنه استعاد بشكل ضمني طبعا علاقة الفلسفة بالألوهة وببعد صوفي دفين سوف يكون في أصل تيار لاهوتي جديد لدى بعض من تلامذته…

هذا الانفتاح حرر التفكير الفلسفي (منذ نيتشه) من النسقية وربطه بالأدب، وبالحياة اليومية. وهو ما استعاده بشكل مغاير من اعتبرهم آخر الفلاسفة، أعني جاك دريدا ومشيل فوكو وجيل دولوز. أما الفلاسفة الجدد الذين جاؤوا بعدهم وبالموازاة معهم، فإن برنار هنري ليفي، رمزهم “الأقوى”، يفصح لنا عن الجانب المظلم من تلك الهشاشة. لقد تحولت الفلسفة على أيدي هؤلاء إلى إيديولوجيا وسياسة تفكر في الاتجاهات ومن غير أي هدف معلن.

في عصر الصورة والتواصل الإعلامي، تحولت الفلسفة إلى شذرات وحكم ومواعظ يتم تداولها في غير سياقها. لقد صار الخلط واضحا بين الحكمة الشعبية و”الأفوريزم” والقول الفلسفي. وصار الذكاء الفلسفي يستهدف “التطهير” النفسي في الحياة الاجتماعية. وأضحى الدرس الفلسفي في الجامعات أشبه بالتلاخيص والحواشي والتذييلات التي مارسها الفقهاء المسلمون على المصادر الفقهية الكبرى.

بل إن بعض الفلاسفة الشباب (ولعل أبرزهم فانسان سيسبيديس) اليوم في فرنسا حولوا الفكر الفلسفي إلى مقاولة تشتغل كمقاولة إرشاد و”كوتشينغ”. ولا أدل على ذلك من كتاباته عن السعادة ؟؟؟ وغيرها، التي تشبه رواية موجهة إلى المكتئبين والباحثين عن إكسير الحياة. وهذا ما لاحظه بشكل كبير فانسان ديكومب بقوله: “إن المعالجة الفلسفية لأنماط الوجود يتكفل بها اليوم كَتَبَةٌ للسعادة الجاهلة للوجود، والتي ليست “الفلسفة” فيها سوى اسم خاطئ، وقطاع من النشاط والاتجار، وهو فسحة زمنية يتم اغتصابها تحت “عنوان زائف” يكون على الفلسفة القاصرة بالمقابل فضحها من خلال الاستطلاعات والتحقيقات والمقالات تكون خصوصية بحيث عن شكل من الفكر الخاص وحده يمكن أن يجعل وجاهتها ممكنة”.

بيد أن هذا المصير ليس سلبيا ولا إيجابيا في حد ذاته. ذلك أن انفتاح الفلسفة على غيرها، كان ديدن فلاسفة القرن الماضي. فلقد حول والتر بنيامين وحنا أرندت، الفلسفة إلى فكر اجتماعي وسياسي وثقافي، كما أن عالم الاجتماع الألماني جورج سيمل منح للعديد من كتاباته منحى فلسفيا. لقد تحولت الفلسفة تدريجيا، وبفضل التواصلات والتقاطعات بين السياسي والنفسي والاجتماعي، إلى علم اجتماعي مركب. إنها وضعية تبدو لي متماشية مع التكوين الجامعي نفسه في الغرب كما في بلداننا العربية. فالدعوة إلى التفاعل بين العلوم والمباحث صارت موضة نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، وصار الباحث الفيلسوف المتخصص في موضوعه شأنا نادرا.

وصرنا نلفي الفيلسوف يتحول إلى عالم اجتماع وأنثربولوجي وهذين الأخيرين يمارسان التنظير الفلسفي… إنه مسير نجد أصوله في الفكر الفلسفي الكلاسيكي نفسه. غير أن الفيلسوف اليوم لم يعد يبحث عن الحقيقة بل عن تنسيبها، ولا في الفضيلة والخير والشر وإنما عن القيم الاجتماعية الجديدة التي صارت تستعصي على الإمساك، حتى بالطريقة الفلسفية التقليدية (الموسوعية والعميقة جدا) التي مارسها بها الفيلسوف الفرنسي جانكلفيتش… فحين تقرأ دريدا مثلا تجده يتحدث عن الدين والغفران بالنبرة نفسها التي يتحدث عن صيدلية أفلاطون أو قصائد مالارمي. كما أن كتابات الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري لا تترك مجالا لم تطرقه، كالسياسة الدولية والأخلاق والصورة وغيرها.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى