التداوليات

تأصيل التداولية عند العرب

إن مبادئ التداولية الحديثة حاضر في تراثنا العربي، ولو بمصطلحات مختلفة، وذلك من بداية طلائع الدرس اللغوي، وصولا إلى النقاد والبلاغيين المتأخرين. فإذا بحثنا عن “مبدأ القصدية” لوجدنا له أثرا بينا عند سيبويه.


ففي حديثه عن الأفعال التي تقتدي مفعولين، يكشف عن أن التأليف النحوي يخضع في المقام الأول لمراد المتكلم، فمثلا أصل (ظننت) أن يتعدى إلى مفعولين صريحين، نحو ظننت الجو صحوا، أو غير صريحين حيث يكونان في صورة الجملة المصدرية، وذلك عندما يكون قصد المتكلم ومراده أن يبين ما وقر عنده من حال المفعول الأول يقينا أو شكا.


ويتضح ذلك ضمن نظرية الأمام الجرجاني، في إلحاقه الألفاظ للمعاني، وربطهما بمقاصد المتكلمين، وفي حديثه عن ذكر المفعول وحذفه، العائدين إلى مراد المتكلم قال: “فاعلم أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية، فهم يذكرونها تارة، ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتفت منها للقاعلين، من غير يتعرضوا لذكر المفعولين.”.

ومرة أخرى نجد إنه يذكر القصدية عند المتكلم تحت تسمية “معاني النفس”، ويربطها بغرض الناطق، فقد يوجب تقديما أو تأخيرا، أو حذفا أو ذكرا، أو وصلا أو فصلا.

ومن جهة فإن القصدية ترتبط بالمخاطب أي الطرف المستمع، لا بوصفه طرفا منتجا أساسيا، بل مراعى في العملية التواصلية، لأننا إذ نتكلم لا ننظر إلى الآخرين باعتبارهم طرفا مستهلكا، مفعولا سلبيا بل طرفا فاعلا، وهذا ما أشار إليه سيبويه في باب الإخبار عن الذكر بالنكرة.

باعتبار الحال مخاطب، قال:”وإنما حسن الإخبار ههنا- أي عبارة: ما أحد مثلك- عن النكرة حيث أردت أن تنفي أن يكون في مثل حاله شئ فوقه؛ لأن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا. ولو قلت. كان الرجل ذاهبا، فليس في هذا شيء تعلمه كان يجهله.”

ولكن في قالب التقعيد لآلة البلاغة، نجده عند الجاحظ كتب لما نقله أبو الأشعث عن الهنود، جاعلا من شروط التواصل الناجح أن يراعي المتكلم مخاطبه، “فلا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة.”. ويوضح أيضا أنه ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينهما وبين أقدار السامعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما.

فلا عبرة أن يعمد المتكلم إلى ألفاظه، فينتقيها انتقاء، ثم ينظمها على ما يقتضيه أو مخالطته لفنون القول وأضرب الكلام، فلا بد أن ينتقي من ذخيرة التواصل ما كان من الألفاظ سهلا معتادا. وهو ما نص عليه الجاحظ والجرجاني، بل إن السامع هو معيار الكلام أحيانا، ودرجته تتحدد بناء على ردة فعله حياله فبلاغة اللفظ وشرف المعنى والبعد عن الشذوذ كان له التأثير المرغوب في السامع.

كما يرى حازم القرطاجني أن التأثير يعد الغاية في كل موقف، وقد تنتهك بعض خصوصيات الخطاب بقدر ما تحقق الغاية المرجوة، وقد ذكر لذلك الانتهاك نموذجين؛ أولهما استعمال الإقناعات وهي خاصية ملازمة للحجاج في فن الخطابة وفي الشعر، وأما ثانيهما فاستعمال التخييل الذي هو قوام الشعر في مقولات الخطابة.

لأن الغرض في القولين واحد وهو “إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول للتأثر لمقتضاه. وأيضا قد أشار إليها ابن سينا عندما اعتبر أن العرب إنما تقول الشعر لأحد غرضين، أولهما لتؤثر في النفس أمرا من الأمور تهيأ به لفعل أو انفعال، والثاني للعجب، والمقصود به التخييل المستعمل كأحد وسائل تقريب المعنى.

وتعني التداولية أيضا بـ”العقد اللغوي” الذي يجب مراعاته لصالح عملية الخطاب بقصد التأثير؛ فالعقد هو القاسم المشترك بين طرفي الخطاب، انطلاقا من القاموس، أي الألفاظ وتواضعات ارتباطاتها بمدلولاتها وفق سنن الجماعة وصولا إلى قوانين التأليف، وهي قوانين تركيبية محضة، ثم قوانين التأويل وهي ذات مسارات دلالية عالية أبعد من تعيين الملفوظات لمسمياتها في عالم الأشياء.

وقد نبه سيبويه أثناء تقعيده ضاما الأشباه لنظيراتها، إلى المرجعية اللغوية المحكمة الضابطة لكل استعمال، قال عن (ليس ولات) “واما أهل الحجاز فيشبهونها ب(ليس)؛ إذا كان معناها كمعناها، كما شبهوا بها (لات) في بعض المواضع”؛ ومعنى هذا أن مستعمل اللغة في بيئة ما.

ومن أجل أن يحقق مقصده من عملية القول، لا بد أن يراعي عرف البيئة التي يوجد فيها، وقد قدم صورا للمقبول من القول مع التعليل، عندما حصر أضرب الكلام في باب (الاستقامة من الكلام والإحالة) فالمحال نحو أتـيتك غدا، أو سأتيك أمس، وما ذلك إلا لعدم اصوليتها في نظام التأليف العربي.

فنجد الإشارات إلى المقام وضرورة مطابقة الكلام لملابساته وفي علاقة الموقف بالكلام تتولد فكرة الكفاءة، وقد أشار الجاحظ إلى هذه الفكرة وهو يتحدث عن النوكي عندما لم يستخدم الكلام في الموقف الذي يستدعيه.

ومن أهم الجوانب التي يجب مراعاتها في التحليل التداولي، هو الجانب الغير اللغوي في التخاطب، فإننا نجد الجاحظ يكاد يحوز السبق في الإشارة إليه، عندما ينتبه إلى مختلف الوسائط التعبيرية ودورها في الإفهام والتعبير عن المعنى المراد إيصاله؛ وقد أرجع بيان الدلالة إلى خمسة أنماط أهمها الإشارة والنصبة، ومن أنواع الإشارة؛ الإشارة باليد، والرأس، وبالحاجب، والمنكب إذا تباعد الشخصان، وبالسوط والسيف فيكونا ذلك مانعا رادعا.

ويكون وعيدا وتحذيرا، وهي من أدوات البيان التي يستعين بها المتكلم لزيادة الدلالة على معنى قد يقصر عنه الكلام؛ وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح يوضح بعض الأمور التي يسترها بعض الناس من بعض، وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام البيان باللسان.

أما النوع الثاني من أنواع ما قد يؤدي دور الكلام في الدلالة، ما أسماه الجاحظ النصبة، وهي الحال المعبرة عن نفسها من غير واسطة اللفظ، والتي تشير إلى ذاتها بلا يد. ودلالة هنا قائمة من جهة الربط بينها وبين الحال أو النصبة؛ والنصبة قد تضم توسعا واضحا فيما يكون التعبير به عن طريق الربط بين ما يبدو وبين ما هو خاف.

ومن بعد الجاحظ نجد ابن جني الذي وضح أن طريقة الأداء الصوتي في التعبير قد تقوم وحدها في بيان المقصد والغاية مقام الكلام التام، فالصفة المحذوفة في (كان والله رجلا) غامضة، وغموضها الدلالي نابع من وجود الحتمالين مدح أو ذم، ولكان رأى ابن جني أن أداء لفظ اسم الجلالة (الله) يؤدي دور الإفصاح عن معنى المدح، وقد تقوم حركة الوجه مقام الإدلاء والتعبير.

ونلاحظ إن ما كان للأصوليين الفقهاء من فضل في العناية بأطراف العملية التخاطبية أكثر من عناية اللغويين والنحاة والبلاغيين، ولا يعود ذلك إلى قصور هؤلاء عن بلوغ الغاية وبراعة أولئك، بقدر ما يعود إلى اهتمام كل فريق فالنحاة صبوا اهتمامهم على وصف الطريقة الأسلم للقول، أما الأصوليين فكان اهتمامهم في فهم التعبير الشرعي، قرآنا أو حديثا أو سنة عملية أو تقريرية أو إجماعا أو قياسا أو اجتهادا.

وذلك لتعلقهم بالأحكام الشرعية، التي تؤثر في حياة الناس. فنجد أنهم اهتموا بأطراف الحكم الشرعي وهي أولا الحاكم وهو الله تعالى، وثانيا الحكم وهو مضمون خطاب الله تعالى للعباد المكلفين، ثالثا المحكوم فيه وهو الشأن المتعلق به الحكم، ورابعا المحكوم عليه وهم المكلفون، مع المراعاة لحال المخاطب ومراعاة سياق الموقف الذي قيل فيه والقصد منه.

وبهذا نجد أن التداولية بمفاهيمها الأساسية كالسياق، وغرض المتكلم، وإفادة السامع، ومراعاة العلاقة بين أطراف الخطاب، ومفهوم الأفعال الكلامية يمكن أن تكون أداة من أدوات قراءة التراث العربي، وأن استخدام المنهج التداولي وتطبيقه في دراسة الظواهر المبنوية التركيبية يساعدنا في إثبات وجود أصول للتداولية في تراثنا العربي.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى