تربية وتعليم

“دانيال ولينغام” العقل لم يُخلق للتفكير !

 

  • ما سبب نفور المتعلمين من المدرسة؟

أعرف كثيرا من المدرسين ولجوا مهنة التدريس من حبهم وشغفهم بالمدرسة والمتعلمين. وكانت رغبتهم جعلَ هؤلاء المتعلمين يشعرون بالإحساس ذاتِه في تعلمهم. ولا غرو أن يأسا يصيبهم عندما يجدون بعض متعلميهم لا يطمئن إلى المدرسة كثيرا، مما يجعلهم في مواجهة عراقيل لاستمالتهم. ومن هذا المنطلق، نتساءل: لِـمَ يصعب جعل المدرسة فضاءً ممتعا للتلاميذ؟

خلافا للاعتقاد الشائع، فالعقل لم يخلق للتفكير إنما خلق ليغني صاحبه عن التفكير؛ إذ العقل في حقيقة الأمر ليس فعالا في ذلك، لأن التفكير عمليةٌ بطيئةٌ وغير فعال. وعلى الرُّغم من ذلك، يتمتع الناس بالعمل الذهني إذا كان ناجحا موفَّقا، فالناس يحبذون حل المشاكل، ولكن ليس تلك المشاكل غير قابلة للحل. فإذا كان العمل المدرسي دائما صعبا جدا على المتعلم، فلا غرابة في عدم إعجابه بالمدرسة.

ويستنير هذا المقال بمبدإ معرفي مُفاده:  مِن طبع الناس  محبةُ الاستطلاع، ولكنهم ليسوا مفكرين سويين، بل يجتنبون التفكير ما لم تكن الظروف المعرفية سوية. ومضمون هذا المبدإ أنه ينبغي على المدرسين إعادة النظر في كيفية تشجيع المتعلمين على التفكير للرفع من إمكانية حصولهم الإقبالَ الممتعَ وليدَ التفكيرِ الناجح.

ما  جوهر كينونة الإنسان؟ وما الذي يميزه عن باقي الكائنات؟ يجيب كثيرون بقدرتنا على تسويغ طيران الطيور، وسباحة السمك، وتفكير الإنسان (نعني: القدرة على حل مشكلات/ قراءة أمر معقد/ القيام بأي عمل ذهني يتطلب مجهودا/ … إلخ). ونقتبس كلاما لـشيكسبير Shakespeare  حين أشاد في “هاملتبهذه القدرة: “يا له من نموذج عمل رجل! كم هو نبيل في سداد الرأي!” غير أنه وبعد فترة من الزمن بنحو ثلاثة قرون، طرح هنري فورد Henry FORD   تصورا حول التفكير بشكل هزلي قائلا: “ليس ثمة أصعبُ عمل من التفكير، ويرجح أن تكون هذه الصعوبة الدافع وراء عدم مشاركة  بعض الناس فيه”، ولكل منهما رأيه.

ويجيد الإنسان بعض أنماط التفكير، سيما بالمقارنة مع باقي المخلوقات، غير أننا لا نمارس هذه القدرة بشكل منتظم. وسيضيف الباحثون في علوم المعرفة تصورا مغايرا، فلا يفكر الإنسان كثيرا؛ إذ لم تخلق أدمغتنا للتفكير، إنما خلقت لتغنينا عن هذه العملية. ثم إن التفكير – كما أشرنا مع فورد – ليس عملية مجهدةً فحسب، ولكنه عملية بطيئة وغير فعال أيضا.

يخدم الدماغ البشري غاياتٍ عدة، وليس التفكير أمثلها، ثم إنه (نعني الدماغ) يدير جملة من العمليات من قبيل الرؤية، والحركة وغيرها، وهي وظائف تتم بآليات أكثر فاعلية وكفاءة من قدرتنا على التفكير. وليس من قبيل المصادفة أن يكرس معظمُ حالات الدماغ لهذه الوظائف. وثمة حاجة للقوة الذهنية الإضافية لأن الرؤية في حقيقة الأمر أكثر صعوبة من لعبة الشطرنج أو حل عمليات حسابية معقدة.

وإذا قورن التفكير بالقدرة على الرؤية والحركة، يبدو التفكير بطيئا، ومجهدا، وغامضا. ولإدراك مرد هذا القول، يمكن الوقوف بالوضعية- المشكلة الآتية:

في غرفة فارغة شمعةٌ، وبعضُ عيدان الكبريت، وعلبةُ مسامير، الهدف حصولُ شمعة موقَدة على نحو خمسة أقدام عن الأرض. ستحاول تذويب قاعدة الشمعة وتلصقها بالجدار، ولكنها عملية غير فعالة، فما السبيل لحصول هذه الشمعة الموقدة على هذا النحو من دون الإمساك بها؟[1]   

عشرون دقيقة هي المدة القصوى المعتادة الممنوحة لحل هذه الوضعية- المشكلة، وقليل مَن استطاع حلها خلال هذا  الغلاف الزمني، إلا أنه بمجرد سماع طريقة حلها، تبدو مشكلةً غير عويصة بشكل كبير. إذا يمكن تفريغ المسامير من الصندوق، وإلصاقه بالجدار، واستخدامه كمنصة للشمعة.

توضح هذه الوضعية- المشكلة ثلاثَ خصائصَ يتسم بها التفكير: أولها، البطء؛ فالنظام البصري يطرد بشكل فوري في مشهد مركب، ومثال ذلك عندما يتم ولوج فناء بيت أحد الأصدقاء؛ حيث بؤرة التفكير: “هنالك شيء ما أخضر، قد يكون عشبا، وقد يكون غطاءً معينا أو غيره، وما ذاك الشيء البني العتيق المثبت هناك؟ لعله سياج”؛ ففي المشهد كله، نعاين عناصر عدة متباينة: فضاء أخضر، وسياج، ومشتل أزهار، وشرفة المعاينة، … بلمحة واحدة. أما نظام التفكير فلا يقوم بحل مشكلة ما على النحو الذي يأخذ به النظام البصري مشهدًا مرئيًا .

وثاني سمات التفكير الإجهادُ؛ ويكفي القول إنه عملية تتطلب تركيزا. ثم إنه يمكن القيام بمهام أخرى أثناء مشاهدة شيء ما، ولكن لا يمكن التفكير في شيء آخر أثناء العمل على حل مشكلة معينة.

أما الخاصية الثالثة للتفكير فهي الالتباس والتشويش؛ ذلك أن النظام البصري يصيب، وقلما يخطئ، وإذا حدث أنه لم يصب، فعادةً ما يعتقد الناظر أنه يرى شيئًا مشابهًا لما هو موجود فعلاً، ومنه فهو أقرب إلى الصواب إن لم يكن عليه تماما. أما نظام التفكير فقد لا يجعل صاحبه قريبا إلى الصواب، وقد يكون حله مشكلةً ما بعيدا عن الصواب. وقد لا يهتدي نظام التفكير هذا إلى حل  البتة، وهو ما حصل فعلا مع كثيرين عندما حاولوا حل الوضعية المشكلة المشار إليها آنفا.

إذا كان جميعنا لا يجيد عملية التفكير، فكيف يمكن لكل فرد إدامة عمله أو تدبير ماله؟ وكيف يمكن للمدرس (ة) اتخاذ مئات القرارات اللازمة طيلة يومه؟ والإجابة: عندما نعتمد الذاكرة وتغنينا عن عملية التفكير. فمعظم المشكلات التي تواجهنا هي المشكلات عينُها التي واجهتنا من قبل، لذا يقترن حل هذه المشكلات بحلول سابقاتها.


[1] . انظر:
Karl DUNCKER, «On Problem-Solving » Psychological Monographs 58, no.5 (1945) : 113. 

 

عبد السّلام أُبـُّـو

كاتب وباحث أكاديمي من المغرب، أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي شعبة اللغة العربية. حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في لسانيات النص وتحليل الخطاب مِن جامعة ابن زهر - أكاديــر. باحث مشارك في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية الوطنية والدولية. مهتم بالخط العربي والتشكيل والزخرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى