الدراسات الثقافية

من أشكال المسرح الشعبي المغربي.. “الحلقة” كفُرجة حميمية

ينهل مسرح التراث الشعبي (العربي) مادته الأساسية في العادة من الحكايات الأسطورية، والخرافات والمعتقدات الدينية، والحكايات الشعبية القديمة، والسير الشعبية، ليس فقط المحلية (وهي هنا المغربية)، بل وكذلك العربية المتمثلة في فن المقامات، وغير ذلك مما برع فيه العرب من أدب وفنون، بل وحتى التراث العالمي باعتبار الفرجة تراثا إنسانيا قبل كل شيء.

لكن تبقى تلك الأشكال شبه المسرحية أو (ما قبل المسرحية)، هي أهم روافد هذا النوع المسرحي بالمغرب، ويمكن أن نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر مظاهر أخرى كالفرجات الأمازيغية، وفرجات اليوهود، عدا الفرجات التي لم تصلنا.

  • الحلقة.. المصطلح والدلالـة

تعني الحلقة في اللغة وحسب المعجم الوسيط، كل شيء استدار، كحلقة الباب والذهب والفضة، ويقال: حلقة القوم، دائرتهم، وتلقى العلم في حلقة فلان، في مجلس علمه.[i]

والحلقة في “لسان العرب” تعني: كل شيء استدار كحلقة الحديد والفضة والذهب وكذلك هو في الناس، والجمع حلاق على الغالب، وحلق على النادر كهضبة وهضب.[ii]

والحلق، بكسر الحاء، وفتح اللام: جمع الحلقة مثل قصعة وقصع، وهي الجماعة من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيرها. والتحلق. تفعل منها: وهو أن يتعمدوا ذلك. وتحلق القوم: جلسوا حلقة حلقة. وفي الحديث: لا تصلوا خلف النيام ولا المتحلقين أي الجلوس حلقا حلقا.[iii]

ويعتبر فن الحلقة شكلا مسرحيا يرتبط في تسميته بالحيز المكاني، الذي يشغله كدائرة (حلقة)، حيث تعني الحلقة كل ما هو دائري ويقصد بها كذلك مجلس العلم إذ يكون دور فن الحلقة تثقيفيا أو تعليميا في بعض الأحيان، وهذا الشكل غالبا ما يكون بالأسواق أو قريبا منها حتى تستقطب الناس، ليتحلقوا حول راو أو راو ومساعده، حيث يرويان على الجمهور الدائر بهما القصص والحكايات الخاصة بالأساطير والبطولات الشعبية وقصص الأنبياء، وينشدون القصائد ويغنون ويرقصون.

كما يرفقون كل هذا بحركات أدائية مصاحبة تشخص وتفسر ما يروى.. تعتمد هذه الحركات وطريقة الحكي لدى القائمين على الحلقة عناصر مسرحية، لأن المرويات تقدم لجمهور الحلقة بلوازم من الديكور والملابس الخاصة وبعض الآلات الموسيقية التي تتحول في لحظة إلى شخصياتها تلعب أدوارًا متخيلة يستنطقها الراوي أو مساعده في أصوات شبيهة… أو معنى الحوار المتولد في المونودراما.

وإذا كان المسرح في بدايته قد نشأ على شكل حلقة، فما ذلك إلا لأن الطبيعة الأولى للفرجة كانت حميمية، تتطلب مشاركة الجميع وتهمهم، “حيث لا تتحرك الشخصيات الوهمية داخل هذه الفرجات، وإنما داخل الجمهور.[iv]“، بل ويشير الحسن المنيعي: “كان يستدعي صاحب الحلقة (الحلايقي) أحد الحاضرين ليمسك له إكسسوارا يصلح للعرض، أو ليكون بصفة نهائية.. أو أداة في المشهد المقمص[v].” وتأكيدا منه على المشاركة الفعلية للجمهور في العرض يقول: “كانت الدعوى المتكررة إلى الجمهور للصلاة على النبي أو التبرك بأحد الأولياء سبيلا إلى تحقيق تآلف فعلي بين الممثلين وجمهورهم،

وبالتالي فإن التشخيص ينفلت من قبضة التقنيين، ولا يخضع لأي ضغط  في الحوار سابقا[vi].”
وهكذا فمسرح الحلقة يعتبر، كما جاء في رأي الدكتور عباس الجراري، “في طليعة الفنون[vii]. كما عرفت بعض الساحات، وبانتظام، مسرح الحلقة كمسرح جامع الفناء بمراكش، ساحة بوالجلود بفاس، الباب الجديد بالبيضاء، باب الأحد بالرباط، باب عبد الوهاب بوجدة، وساحة الهديم بمكناس والقائمة طويلة…
أما أنواع مسرح الحلقة فهي كثيرة ومتنوعة حسب القائمين عليها، والأهداف التي تتوخى منها. ويحددها الأستاذ حسن البحراوي حسب أهدافها بما يلي:[viii]

– الحلقة التي تسعى إلى إحياء التقاليد الرعوية المرتبطة بالمجتمع الزراعي.

– الحلقة التي تعتمد سرد الحكايات الشعبية والمرويات التراثية.

– الحلقة التي تقوم على إنشاد الطقطوقات والسراريب وأشكال العيطة والحصبة المرساوية.

– الحلقة الشاملة التي تتداخل فيها أنماط متعددة للخرجة.

– الحلقة المرتبطة بأصحاب الكرامات، ومروضي الثعابين، وشاربي الماء المغلي.

وتجدر الإشارة إلى أنه استثنى طائفة الحلقات الخاصة بالحرافة والمتاجر كما أكد على وجود أنماط أخرى لم تصلنا.

  • الـفرجوي.. المصطلح والدلالة

مثلما أن التراجيدي ليس هو التراجيديا، والكوميدي ليس هو الكوميديا، والدرامي ليس هو الدراما بالضرورة، فإن الفرجوي لا يتميز، لغة واصطلاحا، بالفرجة spectacle، رغم العلاقة الوطيدة القائمة بينهما، لذا فلا عجب أن نقف أحيانا في سياق المفارقة، على الفرجة التي لا أثر فيها للفرجوي![ix].

والفرجوي لغة استعمل باعتباره صفة وموصوفا في آن واحد. واستعماله بالصيغة الأولى أقدم بكثير من استعماله بالصيغة الثانية كما يدل على ذلك تطور دلالته في المعاجم الفرنسية، على الأقل[x]. يعود استعمال الفرجوي باعتباره صفة إلى بداية القرن العشرين، حيث عوض صيغة أخرى، أقدم منه، تعود إلى القرن الثامن عشر هي Spectaculeux حيث أضفى عليها نوعا من الحياد والموضوعية بتغييره اللاحق « eux » ب« aire »  ذلك اللاحق الذي كان على قوة حضور خاصية الفرجة في الشيء الموصوف بهذه الصفة.[xi]
وقد استعمل الفرجوي، بمعنى ما يعرض أو يقدم للمشاهدة، بكيفية مثيرة وغير عادية وبهذا المعنى استغل في المدونة اليومية حيث غالبا ما أسندت صفة فرجوي لحادثة، أو عملية تحقيق، أو ندوة صحافية، أو مقابلة رياضية، أو غيرها.

وقد اتخذ، في هذا السياق اليومي، دلالتين متعارضتين: “إحداهما قدحية وتعتبر أن الفرجوي هو ما يثير دون أن تكون له أية فائدة، والثانية تلميحية وتربطه بما يثير المفاجأة والإعجاب نظرا لأهميته، أو سرعته أو اتساعه، أو غير ذلك من الخصائص الإيجابية، هذا علاوة على كون الفرجوي قد تحول إلى صيغة تقنية في بعض السياقات الدقيقة، كالسياق الطبي حيث يعبر الأطباء عن الجرح البارز أو الخارجي بالجرح الفرجوي كمقابل للجرح الداخلي[xii].”

وإذا كانت الدلالة اللغوية للفرجوي، باعتباره صفة، قد جعلته مفتوحا على مدونات مختلفة فإن استعماله كموصوف، والذي يعود- حسب البعض- إلى بداية الأربعينيات، كان فاتحة لإدخاله في المجال الاصطلاحي، وبالتالي ربطه بمجاله الطبيعي الذي هو الفرجة، وضمنها المسرح.

والفرجوي، سواء استعمل كصفة أو كموصوف، غالبا “يوجد في بيته، عندما يكون في المسرح[xiii] لكن قبل الوقوف على هذه العلاقة بين الفرجوي والمسرحي، لا مناص أولا من تحديد ماذا نعني بمصطلح الفرجوي في سياق هذه الدراسة.

نقصد بالفرجوي هنا “ما يثير الحواس، وما يثير اهتمام ذاك الذي يشاهد أو يسمع، بسبب خاصية لا يومية، أو مظهر خارق، غير منتظر، وبسبب تجاوز معيار مقبول[xiv] من ثم، يمكن القول “إن الفرجوي، في المسرح، هو كل لحظة تنتج أثر صدمة بصرية، مسموعة، أو عاطفية، تستغرق المتفرج أو تبتلعه، ليس بواسطة ما يقوله وإنما بواسطة الطريقة التي يقال أو يعرض أو يتم إخراجه، بها.”[xv]

نحن إذًا، أمام خاصية عامة ليس المسرح سوى أحد مجالات تمظهرها الخاصة. لكن الجدير بالذكر هنا هو أن هذه الخاصية، أو هذا المكون، سرعان ما يصبح بمثابة مبرر وجود وصانع هوية الفرجة، ولا سيما منها ذلك النوع المعروف بفرجة التمثيل Spectacle de représentation[xvi] وضمنها في سياقنا هذا، الحلقة.
إن الفرجوي يجد في الحلقة إطاره الطبيعي ما دام رهان التأثير في المتفرج هو هاجسها الأساس، في حين يعتبر إضافة نوعية في المسرح ما دام يؤطر بخصوصية أخرى هي التمسرح.

وبالتالي، فالفرجوي يشكل نقطة تقاطع الحلقة أو المسرح، وثمة خصائص مشتركة تلازمه، سواء ظهر هنا أو هناك، نذكر منها ما يلي:[xvii]

  • الفرجوي يتميز ببعده التاريخي، فمحتوياته وأشكاله تتغير بتغير العصور ذلك لأن له علاقة بالمعيش، بالسياق السياسي والاجتماعي، بتاريخ الذوق والحساسيات والأيديولوجيات.
  • الفرجوي غالبا ما يكون مرئيا، لكنه قد يكون مسموعا أيضا، ويرتبط هذا التمييز بطبيعة المبادئ النظرية التي تؤطره. فالنظرية الكلاسيكية مثلا، لا تتصور الفرجوي إلا في إطار مقولتي الاحتمال واللياقة”[xviii]. Vraisemblance et Bienséance . فهي تميل نحو الفرجوي الذي يعتمد وساطة اللغة والحكي، وهي تستعيد هنا الحل الذي يقترحه أرسطو لمشكلة المرعب Monstrueux في المسرح، لا سيما وأن الحكي يمتلك، مقارنة مع العرض (ويتعلق الأمر هنا بعرض الفرجوي)، ميزتين، أولاهما تتمثل في كونه غير خاضع لإكراهات الخشبة، وثانيهما كونه يسمح بقبول ما لا يمكن مشاهدته معروضا. وهذا النوع من الفرجوي المحكي موجود، سواء في الحلقة أو في المسرح، وهو ما يسميه البعض بالفرجوي المعتمد على الوسيط Spectaculaire médiatise .
  • الفرجوي نقيض المعرفي أو العقلاني[xix]، فهو ليس لحظة تأمل لأن أثره يجمد الوعي والفكر، ولا يسمح في لحظة التنفيس décharge بوقت للتفكير، لذا، فإن شروط تلقيه متجانسة، من هذه الزاوية، سواء في الحلقة أو في المسرح.
  • الفرجوي متعدد، فليس ثمة فرجوي واحد وإنما أنماط من الفرجوي تختلف باختلاف طبيعة المكون الجمالي والأخلاقي المستثمر فيها. فالفرجوي قد يستغل المرعب أو العظيم أو الضخم أو الفوق الطبيعي أو السحري أو العجيب، أي كل ما يبدو غير قابل للعرض Irreprésentable. ومن هذه الزاوية، يلاحظ أن المسرح عندما يقرر استثمار الفرجوي في درجاته القصوى، يضطر إلى تجاوز إمكاناته الذاتية الخاصة، واستحضار مكونات فنون أخرى كالسيرك أو السينما أو الألعاب السحرية، مثلا.[xx]
  • فضــــاء الحلقـــة

إذا كان الفضاء في أغلب الفرجات هو إما فضاء احتفال دنيوي أو فضاء احتفال مقدس، وإذا كان هذا الفضاء يجمع في الغالب بين الجمهور وصانعي الفرجة، ويجمع أيضا بين علامات الفرجة الواقعية والعلامات الافتراضية، وإذا كان هذا الفضاء يساعدنا على تكوين صورة عن البنية الدرامية للفرجة، وإذا كان فضاء الفرجة هو بشكل أو بآخر فضاء تخييل، فإن فضاء “الحلقة” يلعب دورا مهما في خلق تواصل مباشر بين الجمهور والحكواتي لخلق الأنس الذي يؤدي إلى الانصهار الفكري والوجداني لنصل إلى مرحلة التأثر والتأثير، ونحقق بذلك ما نصبو إليه.

والحلقة، هذا الشكل ما قبل المسرحي، له معماره الخاص وأدبه المخزون في الذاكرة الشعبية والمترقرق على ألسنة رواة الحلقة، ومثلما للنصوص المكتوبة نصوصها الغائبة فإن للنصوص الشفوية الحلقية هي أيضا نصوصها الغائبة، وحلقة الرواة لسان حاضر يمتص بطريقته نصوصا غائبة، وعندما يمل من ذلك ينبع نصه الخاص من خيال مدهش، يتحدى عتو الواقع مؤسسا خطابه العجائبي، مثلما يتلولب هذا الخطاب وسط اللغط والضجيج يحفر معمار الحلقة أسسه في المكان في هذه الساحة التي يصطخب فيها جدل العدم والوجود، الفناء والبقاء.[xxi] ما قبل الخطاب، وما قبل المكان، هناك الكائن، أعني الحلايقي.

أي صراع يخوضه هذا الكائن الراوي أو السارد، بتعبير عبد الرفيع جواهري، من أجل أن ينبني معمار الحلقة؟ كيف يخلق دائرة حية تتنفس، تصغي، وتشاركه لذة الحكي، تصفق وتصلي على النبي؟ وكيف يمارس عليها غواية تستطيع أن تنتزع منها بضعة قروش تستقر في قعر طاقيته المراكشية؟

شيء في منتهى الصعوبة أن تستجمع الناس من حولك وتكون “حلقة”، لأن لا أحد يستطيع ذلك غير بارونات الحلقة المتمرسين.
كيف يستطيع كائن مثقل ببؤس المعيش اليومي أن يخرج يوميا من حجره الإنساني متعة السرد القادرة وحدها على إغراء العابرين الذين تمسك بتلابيبهم إغراءات أخرى تعج بها الساحة؟.
لنتصور هذا الكائن الذي لا يلفت شكله الانتباه يتسلل إلى جامع الفناء، باحثا في زحمة الساحة عن مكان فارغ يؤطره بدائرة بشرية وسط ضجيج أبواق بائعي الأدوية الشعبية، وصيحات أولاد أحماد أو مس ودقات طبول كناوة وتداخل غناء أحواش والحوزي. يقف هذا الكائن “الحلايقي” أعزل إلا من لسانه وحكاياته مواجها عزلته الوجودية الحادة، هذه الصعوبة هي التي أصابت أعدادًا من الرواة، غير الموهوبين، فانتهوا إلى متفرجين تلامذة يستكملون بناء خيالهم وتعلم مهارات بناء الحلقة.

لكن هذه الصعوبة ذاتها هي التي جعلت الموهوبين من الرواة الشاربين من معين شيوخ رواة الحلقة، يستطيعون أن يكتسبوا جمهورهم الخاص، الذي يلازمهم يوميا لتتبع أطوار السير والغزوات والقصص، ولذلك فإن عدد المسنين منهم لا يتعدى سبعة رواة وعدد الشباب لا يتجاوز الأربعة.[xxii] مثل هؤلاء الرواة اكتسبوا خبرة ونقلوا عن شيوخهم فقه الحلقة وتقلباتها، فأثثوا بمهاراتهم فضاء الحلقة.

وفضاء حلقة الرواة فضاء خاص لا يشبه فضاء الحلقات الأخرى في جامع الفناء، إن الحلقة العادية عبارة عن دائرة مكتملة، لكن حلقة الراوي ذات دائرة مخرومة، فالراوي يحتاج إلى ممر يستعمله للحركة أثناء السرد ويكون على شكل ثغرة في دائرة الحلقة، ويسمى “الخلخال” ويقع دائما خلف الراوي حيث يسمح له بالقهقرى والاندفاع إلى الأمام، ولضمان مشاهدة مريحة يبدأ الراوي بترتيب الحاضرين في حلقته، الصف الأمامي للأطفال والمسنين، حيث يفترشون الكارتون جلوسا، والصف الثاني للقادرين على الوقوف وأصحاب الدراجات الهوائية والنارية، ويستعمل صاحب الحلقة لباقة ملحوظة مع الجمهور لضمان هذا الترتيب.[xxiii]

عدة الراوي زربية صغيرة وكشكول وكتاب ألف ليلة وليلة وأحد كتب السيرة، أما الزربية فهي العلامة والرمز مع الكشكول حيث يميز بها المواظبون على الحلقة بين الراوي وغيره من الرواة، فلكل راو زربيته الصغيرة وكشكوله المميزان. وأما الكتاب فإنه مجرد ديكور من جهة، كما أن له وظيفة من جهة أخرى، وتلك الوظيفة هي تنبيه العابرين من غير المداومين على ارتياد حلقات الرواة أن الأمر لا علاقة له بالضرب ولا بالأعمال البهلوانية أو السحرية، ومع ذلك فلا بد لمثل هذا الراوي من مجهود قبل بناء الحلقة لاجتذاب جمهوره، ينتصب الراوي في المكان ويرفع صوته بادئا بالصلاة على النبي بشكل منغم لاطما كفا بكف بعد كل فقرة إلى أن يلتئم الجمهور.

على سبيل المثال يبدأ مولاي أحمد الفطن من مواليد 1926 بهذا الاستهلال:

“باسم الله الفتاح، ربي هو الفتاح، مولانا خير ودايم

خلق الشمس والقمر وأعطانا كل نعايم

باسم الكريم هي مفتاح الربح حات في كتابو

خيار من نقول فنظمي تبدا باسم الله

ننهي بالصلاة على طه قد الضيا وغيهابو

عدد ما خلق ربي في أرضو وساكن سماه[xxiv]

أما مولاي أحمد الجابري من مواليد 1935 فيبدأ بهذا الاستهلال:
“باسم الله والصلاة عليك أرسول الله أمير المؤمنين مفتاح الجنة، اللهم صلي على النبي قد ما نهرت العيون، اللهم صلي على النبي ضركا للخواف… أنا خواف على الله والنبي اسندت كتافي، اللي ما يصلي على النبي يروح بقلبو جافي، اللهم صلي على النبي عدد الجراد يلا سخن وطلع لسماه، سبحان مبدل السوايع مولانا، تبات واكحة وتصبح رويانة ويجري ماها على المصارف والبلادي ولا قنضة من رحمة ربي يا ذاتي…[xxv].”

  • قواعد الحلقة

ما لفت انتباهي في “ساحة جامع الفناء”، أن أصحاب الحلقة وضعوا قواعد للراوي أجملوها في:

1-   الجيم: وترمز “للجبهة” أي الجرأة.

2-   التاء: وترمز إلى الثبات أي لا يسقط الحلايقي في الاستفزاز.

3-   الميم: وترمز إلى ما يسميه أصحاب الحلقة في معجمهم بـ”المركة” أي انعدام الخجل وهم يقولون:” نيكس المركة” أي لا مجال للخجل.

4-   القاف: وترمز إلى “القباحة” أي الوقاحة.

ذلك هو القاموس الأعظم لفرسان الحلقة، تلي هذه القاعدة الحروفية الرباعية عدة قواعد هي بمثابة تقنيات الحلقة الخاصة بالرواة وأهمها: 

  • اعتماد الحكي على مقدمة وعقدة، لكن هذه العقدة سرمدية تظل على لسان الراوي إلى ما شاء الله حيث يعيش رواد الحلقة كل يوم على أصل حل تلك العقدة. هكذا تظل الحكاية معقدة وبدون نهاية، وعندما تستنفد هذه الحكاية المتأزمة وظيفتها في اجتذاب الجمهور، ينتقل الراوي إلى حكاية أخرى بنفس التكتيك، ولكي لا يحصل الملل، يقطع الراوي الحكاية في أحد مقاطعها ليروي للجمهور قصة قصيرة غالبا ما تكون ذات بعد فكاهي أو تتضمن موعظة ما، ثم يواصل بعد ذلك تأزيم لحظة الراوية.
  • حلاوة اللسان باستعمال اللباقة في استدراك كرم المتفرجين.
  • تحريك الجمهور وتوظيفه بدعوته لرفع الأيادي وعدم خفضها: “اللي هز يديه الله يهز علامو“.

وكذلك بدعوته لترديد عبارة “آمين” بعد دعوات صاحب الحلقة لأحد المتفرجين الكرماء.[xxvi]

  • معجــم الحلقــة

يستعمل “الحلايقية” لغة مرموزة للتواصل فيما بينهم تسمى “الغوص” لينبهوا بعضهم بطريقة لا يفهمها رواد الحلقة، وعلى سبيل المثال في حالة تسرب لصوص إلى الحلقة، يستعملون كلمة “أولاد علي“، ويرمزون للشرطة السرية بـ”السراسر“، وللقمار بـ”البرايخي“، وللكذب بـ”سيدي منصور“، وللجمهور بـ”النبور“، ولأخذ الحيطة والحذر يستعملون: “تشكر وغبر“. ولجمع الجمهور: “كبت الفرك“. ومن أجل سرد حكاية قصيرة يقول الحلايقي لصاحبه: “ديرشي فتيقية“. وللمشاركة في التدخين “أتكنبب معايا” أي دخن معي. ولتمجيد وشكر المتفرج الكريم يقول الحلايقي لصاحبه “زوهر” ويسمون الفاتحة الصغرى “التشليلة” والفاتحة الكبرى” الجهمة“.
ويرمزون إلى أنواع النقود كما يلي:

طاوزنة” = عشرة دراهم

السنبوك أو الهنبوك“= 5 سنتيمات

” حجرة“= 50 درهم

” عين موكة“= 100 درهم[xxvii]

  •  مقهى الحلايقي

يرتاد “الحلايقية” مقهى خاصة بهم هو مقهى “أبا مادان” ويطلقون عليه بلغتهم الجوقة. يقع مقهى “أبا مادان” في مدخل درب ضاباشي بالمدينة العتيقة، حيث يتم تهيئة الشاي بالطريقة التقليدية ويتناوله الحلايقية وهم جلوس على الحصيرة البلدية، لا يقدم المقهى لزبائنه سوى الشاي أساسا والقهوة لمن طلبها. لكن يسمح للحلايقية بتهيئة طعامهم في مقهاه ويكفي الحلايقي أن يقول بلغته لـ”أبا مادان“: “غادي نكني” ليهيئ له مكانا يطبخ فيه “كاملته” عندما يستبد به الهيمر أي الجوع بلغتهم.

في مقهى “الجوقة” يلتقي الحلايقية من جميع أنحاء المغرب حيث تعتبر ساحة جامع الفناء المحك لاختيار قدرة أصحاب الحلقة، ويقول شيوخ الحلقة: من لم يتعلم في جامع الفناء ومن لم يعمر حلقته في جامع الفناء “ماشي حلايقي“، وفي “الجوقة” أيضا يتبادل أصحاب الحلقة التجارب والخبرات ويتعرفون على غيرهم من الحلايقية، القادمين من مختلف أنحاء المغرب، وفيها ينظمون جدول جولاتهم في فصل الربيع، حيث يغادرون مراكش باتجاه تارودانت، أكادير، أكولميم، بني ملال، فاس، الفقيه بن صالح، الصويرة، الدار البيضاء وهي مناطق لها فضاءات حلقية، ويسمي “الحلايقية” هذه الجولات الربيعية بـ”الغيبة“.[xxviii]

[يتبع]

——–
  • المصادر 

[i] – إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبد القادر، محمد علي النجار، المعجم الوسيط، ج1، مكتبة إحياء التراث، بيروت، ص 192

[ii] – ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، ج 10، ص 61.

[iii] – نفس المصدر، ص 62.

[iv] – محمد أديب السلاوي، المسرح المغربي: البداية والامتداد، دار وليلي للطباعة والنشر مراكش المغرب، 1996، ص 25.

[v] – حسن المنيعي، أبحاث في المسرح المغربي، منشورات الزمن مطبعة النجاح الجديدة، 200 ط.، ص 21

[vi] – نفس المصدر، ص 21.

[vii] – عباس الجراري، الأدب المغربي (من خلال ظواهره وقضاياه)، مكتبة المعارف الرباط ط2،ج1 ،ص 265

[viii]  حسن البحراوي، المسرح المغربي بحث في الأصول السوسيوثقافية، المركز الثقافي العربي، ط1/1994، ص25،26،27، بتصرف

[ix] – حسن يوسف، الفرجوي بين الحلقة والمسرح، الفرجة بين المسرح والأنثروبولوجيا، كتاب جماعي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان سلسلة أعمال الندوات (رقم 8)، 2002، ص 64.

[x] – Spectaculaire , Histoire d’un mot (in) le Spectaculaire, op-cit- P9 –Philippe Royer

[xi] – حسن يوسف، الفرجوي بين الحلقة والمسرح، الفرجة بين المسرح والأنثروبولوجيا، ص 65. بتصرف

[xii] – نفس المصدر، ص 65.

[xiii] -Spectaculaire, histoire d’un mot (in) le spectaculaire. Op. cit- P 14 Philippe Royer.

[xiv]  نفس المصدر، ص 65.

[xv] – Spectaculaire, histoire d’un mot (in) le spectaculaire p 65

[xvi] – نفس المصدر، ص 66.

[xvii] – حسن يوسف، الفرجوي بين الحلقة والمسرح، الفرجة بين المسرح والأنثروبولوجيا، ص 66.

[xviii] – Spectaculaire dans le théâtre classique (in) le spectaculaire- château- amne –op-cit- P55..

[xix] – Spectaculaire, histoire d’un mot (in) le spectaculaire p63 بتصرف

[xx] – حسن يوسف، الفرجوي بين الحلقة والمسرح، الفرجة بين المسرح والأنثروبولوجيا، ص 67. بتصرف

[xxi] – عبد الرفيع جواهري، جامع الفنا الصورة وظلالها، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، ط الأولى يونيو2001، ص 21، بتصرف

[xxii] – نفس المصدر، ص 22. بتصرف

[xxiii] – نفس المصدر، ص 22.

[xxiv] – نفس المصدر، ص 23.

[xxv] – نفس المصدر، ص 23.

[xxvi] – نفس المصدر، ص 24

[xxvii] – نفس المصدر، ص 24، بتصرف

[xxviii] – نفس المصدر، ص 25


 أسامة خضراوي : باحث في الأدب؛ تخصص الإثنوغرافيا والموروث الثقافي، جامعة محمد الخامس ـ الرباط / المغرب.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى