فكر وفلسفة

الوباء في ضوء فلسفة “أوغست كونت”

عندما تكون حياة الإنسان على المحك، تثير الأحداث، الكثير من الأسئلة الفلسفية. وهكذا، تذكرنا جائحة فيروس كورونا بأهمية وإلحاح الأسئلة التي طالما كرّس لها الفلاسفة مناقشات حية، تلك العلاقات بين الأفراد والمجتمع، بين العلم والسياسة، وأخيرا بين الشعارات والممارسات.


كانت هذه الأسئلة مشتعلة تحت الرماد. لقد أيقظهم الفيروس وأعطونا، على وجه الخصوص، الفرصة لاستيعاب مدى ملاءمة وتوقيت تحليلات عالم الاجتماع والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي أوغست كونت (1798/1854)، الأب الشرعي والمؤسس للفلسفة الوضعية.


  • لا يوجد فرد بدون مجتمع

غالبا ما ينظر إلى المجتمع سلبا، على أنه النظام القائم الذي يميل إلى خنق الحريات الفردية، المجسدة في دولة يعتبرها البعض اليوم فرنسا (الذين ربما لا يعرفون السياسة القمعية لبينوشيه في تشيلي)، باعتبارها دولة استبدادية وديكتاتورية.


ألم يقل يوما ما الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، في كتابه «المواطن ضد السلطات»، «الانسان المفكر في مواجهة المجتمع الخامل، هذه هي القصة الأبدية».


لكن الفيلسوف الفرنسي نفسه كتب أيضًا أن «العلاقة واضحة بين الفرد والمجتمع»، ما يعني أن أحدهما لا شيء دون الآخر. هذا ما قاله الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون في خطابه يوم 12 مارس/آذار 2020: «فكروا وتصرفوا بالتضامن وليس بالوحدة».


يمكننا فقط التعامل مع الوباء بشكل جماعي، لكن سلوك الجميع ضروري، لأن الجميع يعتمد على الآخرين. وهذا يسمى المجتمع.


إنها أولوية التضامن المجتمعي، التي كان الفيلسوف أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية، الذي كان له الفضل في التأكيد عليها، من خلال اقتراح فكرة «الوحدة الاجتماعية»، ومن خلال الدعوة إلى تصور، «كتلة الجنس البشري…


باعتبارها تشكل، في جميع النواحي، أكثر وأكثر، إما في ترتيب الأماكن أو في تراتبية الزمن، وحدة اجتماعية هائلة وأبدية، بما في ذلك مختلف الأجهزة الفردية أو الوطنية، متحدين باستمرار بتضامن حميمي وعالمي، يساهم حتمًا في التطور الأساسي للبشرية» (دروس في الفلسفة الوضعية).


وهكذا تأخذ بعين الاعتبار مفاهيم استمرارية الغذاء، والاستمرارية الإقليمية، أو الاستمرارية التعليمية/ التربوية. يتضمن المجتمع الاستهلاكي العديد من الجوانب البغيضة. ولكن بدون الحد الأدنى من السلع الاستهلاكية، لن تعد هناك حياة.


سلاسل التوريد هي سلاسل البقاء، وليس العبودية. الفرد لا شيء من دون ما يحصل عليه من الآخرين، وكذلك لا شيء بدون ما يربطه بالآخرين.


  • لا حقوق بدون واجبات

لذلك من الضروري تطوير الشعور الاجتماعي. بالنسبة للفيلسوف أوغست كونت، يتطلب هذا الأمر فهمًا لأفضلية الواجبات على الحقوق. الحصة بالنسبة له هي «تجدد حاسم» للسياسة.


«إن هذا التجديد الحاسم يتكون قبل كل شيء من استبدال الواجبات بالحقوق دائمًا، من أجل إخضاع الشخصية بشكل أفضل للمؤانسة الاجتماعية»، بل ذهب أوغست كونت إلى حد الحديث عن «حقوق الإنسان المزعومة».


كنتيجة لما هو بالنسبة له حقيقة أساسية: «أي المجتمع لم يعد قابلا للتفكيك من الأفراد الذين يكونونه، مثل أي مساحة هندسية متكونة من الخطوط، أو من خطوط من نقاط». (نظام سياسة الإيجابية). إن التمرد على الحقوق يرقى إلى اعتبار الأفراد منفصلين عن الآخرين فقط».


على كل فرد واجبات نحو الجميع… الضمانات الفردية العادلة تنتج فقط عن المعاملة بالمثل للالتزام. توضح أزمة فيروس كورونا ما يلي: الحق الأساسي في الحياة مُعلق، من واجب الجميع احترام تعليمات الطوارئ الصحية، وكذلك، بشكل عام، وعدم إغضاب «المتمردين» من الطوارئ الصحية، بوجوب واجب التطعيم. «لا أحد لديه حق أكثر من الحق في القيام بواجبه دائمًا».


  • لا يوجد عمل بدون دعم علمي

الرئيس الفرنسي والوزراء في الحكومة الفرنسية يطرقون باب الدعم العلمي بعنف. وتستند جميع القرارات المتخذة في إدارة الأزمة الصحية، حتى إجراء الانتخابات، إلى الدعم العلمي. كلهم، تحت إملاء الحجج العلمية، أو على الأقل «مستنيرون» من قبل المجلس العلمي لأزمة الفيروسات التاجية، التي توفر البيانات الوبائية.


إن الرئيس «يتبع نصيحة العلماء». يبدو الأمر كما لو أن العمل الحكومي في فرنسا، يطبق المبدأ الأساسي لفلسفة الفعل الوضعي: يجب على العلم «توفير الأساس العقلاني الحقيقي للعمل الإنساني». باستخدام صيغة من بيكون، يؤكد أوغست كونت أن القوة يجب أن تكون «متناسبة مع المعرفة».


بالنسبة له: «العلم، ومن ثم التبصر؛ البصيرة، وبالتالي العمل. هذه هي الصيغة البسيطة التي تعبر بدقة عن العلاقة العامة بين العلم والفن»(الفلسفة الإيجابية).


  • لا سياسة بدون أخلاق

هناك بالضرورة، وقت يصبح فيه العلم عاجزا، وصامتا أحيانا، لأنه لم يعد بإمكانه قول أي شيء. ماذا لو كان عدد الأسرة المتاحة في المستشفى، أقل من عدد المرضى، الذين تتطلب حالاتهم دخول المستشفى؟ تواجهنا الأزمة وجهاً لوجه مع القسوة المأساوية للخيارات الأخلاقية.


ثم نلمس ترتيبا أعلى، حيث يجب أن نترك قلوبنا تتحدث، لأن «الروح ليس المقصود بها أن تحكم، بل أن تخدم». «العقل ليس له أبداً أكثر من الضوء؛ الدافع يجب أن يأتي من مكان آخر»(النظام).


عليك أن تعرف كيف تسمع وتتبع «دافع» الشعور. غلبة القلب على العقل تؤدي إلى «غلبة الأخلاق على العلم في جميع التربية الحقيقية».


هذا، بالنسبة إلى أوغست كونت، هو الترتيب الحقيقي للأولويات: الأخلاق، والتعبير عن القلب؛ ثم العلم، إنتاج العقل. ثم العمل السياسي، والسعي إلى «جعل الغرائز المتعاطفة تسود على الدوافع الأنانية قدر الإمكان» (السياسة الإيجابية).


أوغست كونت يثنى على عملتين، وهو ما يسميه «الصيغة المقدسة للدين الإيجابي: الحب من أجل المبدأ، النظام من أجل القاعدة، والتقدم من أجل الهدف». أحدهما أخلاقي: «عش للآخرين». السياسة الأخرى: «النظام والتقدم».


ما وراء كل حدود، وكل تجاوزات الوضعية، أليس هناك، في الأوقات الغريبة من عدم اليقين والقلق التي نعيشه، هناك دائما تتواجد قضايا للنقاش والتفكير؟


ترجمة بتصرف عن موقع the conversation.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى