منبرُنا

بغل “أبو أمين” في فيينا

 

   اعتاد الأربعيني “قدور أبو أمين” التجول في مدينة فيينا القديمة كباقي الغرباء، خاصة داخل السور القديم المزال الذي حلّ مكانه الشارع المتحلق “الرينغ” و ما يجاوره من معالم مشهورة، و إذا ما ضاع داخل مركز المدينة السياحي المكتظ بالناس، ينظر أعلى مستوى الرؤوس، يستدير لليمين و الشمال حتى يرى برج كاتدرائية “القديس شتيفان”، يتوجه نحوه ليأخذ قطار الأنفاق و يعود إلى أي مكان يريد، عانى في البداية بعد اللجوء إلى النمسا من تعلم اللغة الألمانية و قراءة أسماء الشوارع و الأمكنة و محطات نقل الركاب، لا سيما بعد انتقاله للسكن في مدينة فيينا قلب أوروبا النابض بالحياة و الجمال، صحيح أنه لم يدرس في سوريا لما بعد الشهادة الإعدادية (السرتفيكا) و بالكاد يفك الحرف اللاتيني، لكنه استطاع التغلب على هذه المشكلة بتشبيه شوارع فيينا و محطاتها و أمكنتها بشوارع و معالم مدينته السورية العريقة “حلب”. 


   حلب المدينة الأم التي هجرها مكرهاً بعد سقوط برميل متفجر على داره في حي “بستان القصر” الثائر، هدم برميل الموت البيت على رأس زوجته و أمه و أحالهم إلى ركام، كانت أمه – رحمها الله – تسعى لتزويجه من امرأة ثانية لعقم زوجته المرحومة “سميرة”، لكن البرميل قضى عليها مع الزوجة العاقر و رغبتها تلك، خسر العقار و رأس المال و الأهل، و سلِم برأسه و العربة و البغل، باع عربة بيع الكاز و المازوت التي ورثها عن أبيه الميت، ودّعَ البغل و باعه مع ما تبقى سالماً من الدمار و هرب إلى “تركيا”، و منها ركب البحر خلال موجة اللجوء الكبرى عام ٢٠١٥ قاصداً أوروبا الحلم، حطّ رحاله في أول بلد أوربي غربي (النمسا) و حصل على حق اللجوء بسهولة، أحب فيينا و ناسها و خضرتها و اندمج بسهولة مع المجتمع الغربي الجديد. 

   ها هو اليوم في كورس اللغة الألمانية الجديد قد عقدَ خطوبته على زميلته “ياسمين” ذات الخامسة و العشرين من العمر، أحبها من أول نظرة و يسعى الآن للزواج منها تلبية لرغبة أمه المرحومة، دعاها للاحتفال بإشهار خطوبتهما في قلب مدينة فيينا القديمة، بعيداً عن شارع “ماريا هلفر” الذي شبههُ بحي “العزيزية” الراقي بحلب، حيث يتمشيان و يتناولان البوظة و القهوة أو الغداء في عطلة نهاية الأسبوع عادةً. لبّتْ زميلته / خطيبته ياسمين دعوته بعد سماح ذويها الساعين لتزويجها من أي عربي، تواعدا في محطة القطارات الغربية “فست بانهوف” التي شبهها بساعة “باب الفرج” حيث يتواعد الغرباء، انتظرها أكثر من نصف ساعة حتى جاءت، عاتبها قليلاً و أخفى غضبه بصدره. 

   ركبا قطار الأنفاق رقم ثلاثة المتجه إلى محطة “شتيفان بلاتز” و نزلا هناك، فوق الأرض كان يعرف كل الأماكن الشبيهة بمعالم مدينة حلب، دعا حبيبته لتذوق “الآيس كريم” الشهي من محل “عايدة” الوردي الشبيه بمحلات “سللورة” الشهيرة بحلب، فقد كان بحاجة لتبريد أعصابه المتقدة غضباً من تأخر محبوبته ياسمين. تلا البوظة بفنجان قهوة “دبل إكسبريس” له و قطعة كيك فاخرة من محل “زاخر” لقطعة قلبه الزاخر بالحب، شاهدا “دار الأوبرا” ثم رجعا للتجول حول “كنيسة اللاتين”، يقصد بها كنيسة القديس شتيفان (الكنيسة المحروقة كما يسميها اللاجئون)، رأتْ ياسمين عربات الخيل المزركشة الجميلة مصطفة قرب الكنيسة، فهفا قلبها لركوبها كباقي السياح العاشقين، طلبت من خطيبها – حبيبها أبي أمين أن يأخذها بجولة على تلك العربة البيضاء المقنطرة كعربة “سندريلا” السحرية، رفض أبو أمين رفضاً قاطعاً استغربتْ له، ألحّتْ عليه باسم هذه المناسبة السعيدة و قالت بغنج آسر:

  • عيوني قَدَري “قَدْري” حبيبي، هكذا ترفض لي أول طلب بعد إعلان خطوبتنا؟ 

ابتسم “قدور” بدبلوماسية التاجر الحاذق و رفض طلبها بلطف بينما يتحرقص قلبه من الخوف. سايرته و سارت معه في شوارع المدينة على مضض، ها هو يشرح لها ما هذا التمثال و ما تلك الساحة و ما ذاك القصر، مرّتْ عربة يجرّها حصانان أشهبان على متنها عاشقان آسيويان يقبلان بعضهما البعض، قبّلتْ ياسمين أبا أمين قبلة حارة لعله يقبل أن يصحبها بجولة على متن تلك العربة البيضاء الساحرة، لكن حبيبها قدور عاندها بشدة و واصل السير دون الإفصاح عن سبب رفضه الدفين، ابتسمَ في وجهها ابتسامة صفراء و كذب عليها كذبة بيضاء، قائلاً: 

  • المشي على الأقدام أفضل لرؤية معالم مدينة الأنس يا أعز الناس على قلبي، هيا نتابع المشوار و سأشتري لك ما ترغبين من هدايا و عطورات و ثياب. 

   في ساحة قصر “هوف بورغ” توقفا قليلاً، مرّتْ عربة خيل أخرى يجرها حصان أبيض و آخر أسود، كانت فارغة من السياح، فأشّرتْ ياسمين للحوذي بالتوقف و جرّت إليها حبيبها قدور (قدرها المكتوب لها في صفحات الغيب)، تشبّثَ قدور (أبو أمين) بالأرض و حرن كبغلٍ عنيد و صرَفَ سائق العربة باعتذار لطيف، استغربتْ ياسمين تهربه من ركوب عربة الخيل مع كَرَمه الحاتمي، اشترى لها مظلة و شالاً و حقيبة يد من محل لبيع تذكارات موسومة بلوحة “القبلة” لغوستاف كليمت، و اشترى لها قوارير عطور و أقراط براقة من محلات “شفاروفسكي” لبيع الكريستال في شارع “كارتنر” الذي شبهه بشارع “التلل”  في حلب، كان سخياً معها و فخوراً بها، لكن رفضه لجولة العربة مريب، حلَفتْ بعدها أن تخاصمه و تفسخ الخطوبة إن لم يأخذها بجولة العربة من أول الخط قرب الكنيسة المحروقة حتى أخر الخط، فرك أبو أمين يديه بوجهه و أشعل سيجارة من نار غضبه و قال:

  • لا حول ولا قوة الا بالله، هيا بنا نركب العربة بأمر الحب، حسبي الله ونعم الوكيل. 

   كان أبو أمين خلال الجولة موجهاً بصره نحو الخيل التي تجر العربة ساهماً مطرقاً كصمت القبور، حبيبة قلبه ياسمين تجلس خلف الحوذي بمواجهته كما يفعل العشاق المرتادين هذه العربات السياحية، كلما شاهدت أثراً جميلاً تنط و تعانق قدور المتخشب و تشكره على تلبية رغبتها، لا يتأثر قدور بكلامها و لا قبلاتها، يبقى جامداً في مقعده كأنه قُدَّ من صخر. 

   يتابع الحوذي الجولة و يتوقف كل هنيهة ليعطيهما لمحة مختصرة عن المَعلَم الذي يمرون بالقرب منه، تصرخ ياسمين مندهشة: أوه آه يا الله! رغم أنها لا تفهم كل الكلمات الأجنبية بشرح الحوذي-الدليل، تفرح بعفوية و تهلل لكل شيء تقع عيناها عليه كطفل يستكشف العالم لأول مرة، بينما كان حبيبها قدور في عالم آخر، و عندما عبرَتْ العربة شارع “غرابن” المزدحم، فجأة استفاق من سباته و صاح بصوت عالٍ:

  • آآظ .. مازوت، آآظ أبيض، مازوووت…

أوقف الحوذي العربة مع صراخ قدور، نهضتْ ياسمين من مقعدها و هزّتْ أبا أمين بعنف، قالت له بلوعةٍ و خوف:

  • قَدْري، قدور حبيبي ما بك؟ ماذا جرى لك؟

صرخ الحوذي بنبرة غاضبة في وجه الزبونين:

  • عفواً، ماذا يحدث معكما؟.

تنهد أبو أمين و فرك عينيه، قال معاتباً حبيبته ياسمين:

  •  ألم أقل لك بلا هذه الجولة؟… قولي للسائق لا شيء خطير، فقط تذكرت أيام كنتُ أبيع الكاز و المازوت على عربتي الصغيرة، أقود بغلي الوفي “صهيب” في شوارع مدينة حلب و أنادي نداء باعة الوقود الشجي: آظ.. مازوت. 

التفتتْ ياسمين المرتبكة ناحية الحوذي الحانق، قالت له بعبارات ركيكة و الخجل يصبغ وجنتيها بالأحمر كحمرة غيظ الحوذي نفسه، تأتأتْ قائلة:

  • ل لل لا شيء يا سيدي، اع اعذرنا من فضلك، إنه يغني هكذا كلما تذكر بلده الأم، سامحنا أرجوك؟ 

تمتم الحوذي بكلام نمساوي سوقي غير مفهوم، توقف لبرهة من الوقت ليفهم ماذا جرى للزبون الغريب الطور، أخيراً اعتبره طقساً جديداً من طقوس السياح العجيبة وعاود السير متمتماً بكلمات غريبة غير موجودة في القواميس. 


جهاد الدين رمضان

فيينا ١١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٠

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

تعليق واحد

  1. شكرأ جزيلاً لإدارة المنصة و أسرة التحرير على نشر مشاركتي و دمتم بخير و تألق و نجاح، بوركت جهودكم و وفقكم الله.
    جهاد الدين رمضان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى