سلسلة: ظاهرة التصوُّف وتطورِها

عن تَمرحُل ظاهرة التّصوف وتطورِها -3-

ثانيا: من الإعتزال إلى المعارضة السلبية.

أ- ” الصوف فى مواجهة الخز “

قبل أن نتابع المسير مع قافلة التصوف الطويلة وتراثه الثري، أرجوا أن يسمح لي القارئ الكريم أن أؤكد على فكرة أن ما أقدمه من طرح، ليس إلا محاولة متواضعة لتتبع تاريخ الظاهرة، طرح بعيد كل البعد عن مرض الدوغمائية، فأنا مقرٌّ بداية أنني لا أقدم تفسيراً وحيداً لظاهرة التصوف؛ بقدر ما هو إماطة اللثام عن المسكوت عنه والمخفي في تاريخ التصوف.

كما أود أن يغفر لي القارئ وقوفي على تخوم الأحداث وعدم الخوض في تفاصيلها، وغاية ذلك ألا أشق عليه والا أشغله بتفاصيل قد تشوش رؤيته للخط الرئيس لهذه السلسلة.

تابعنا معاً بذور التصوف المتمثلة فى الزهد السلوكي، وغايته لم تكن سوى العبادة لله وذلك في العهد النبوي وحتي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان وبعده، حينما بدأت هذه البذور فى التبرعم، فرأينا طرفاً من مواقف زهاد الصحابة إزاء الأوضاع السياسية والاجتماعية، فمنهم من اختار الاعتزال، ومنهم من كان ينتقد الأوضاع بشكل علني كالغفاري أبو ذر، ومنهم من كان يسدي النصح محاولاً تقويم السلطة كالإمام علي بن أبي طالب.

وأرجوا من القارئ أن يسمح لي بالتوقف سريعاً عند خلافة الإمام علي، لنرى أن هذه الفئة التي كانت تنتقد علناً وتسدي النصائح للخليفة ، قد وصلت للسلطة إثر إنتفاضة أودت بحياة الخليفة الثالث، فسارع الزهاد ومن بقي من أصحاب بدر من المهاجرين والأنصار إلى الإنضواء تحت راية الإمام علي، وهذا ما حاربته بضراوة عناصر “الثورة المضادة ” ممثلة فى زعيمها معاوية بن أبي سفيان ومن لف لفه.

ونجد الإمام علي يطل على مستقبل هؤلاء الزهاد من نافذة الواقع فيصف حال أهل الزهادة من بعده فيما نُسب له فيقول
“و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ، و خائف مقموع، وساكت مكعوم، وداعٍ مخلص، وثكلان موجع، قد أخملتهم التّقيّة، وشملتهم الذّلّة…”

تنازل الحسن بن علي إذن، مختتماً عهد الخلافة الراشدة، وبويع معاوية بن أبي سفيان، مفتتحاً عهد المُـلك العضود، وبداية من معاوية وعلى إمتداد حكم البيت الأموي بفرعيه السفياني والمرواني، نجد الواقع يصدق نبؤة علي بن أبي طالب، فُيقتل راهب أصحاب محمد كما كان يكنى، حجر بن عدي الكندي صبراً، وتحمل رأس عمرو بن الحمق إلى معاوية، ويكتنف الغموض وفاة الحسن بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر، وبعدها بسنوات نرى رأس الحسين وأصحابه علي الرماح، ثم جسد عبد الله بن الزبير المصلوب، ومن بعدِه كل من زيد بن علي وولدِه يحيي، هكذا كان السيف مسلطاً دائماً على رقاب كل من تسول له نفسه أن يعارض أو يثور، فكان سحق كل معارض وكل معارضة شعار المرحلة.

وعلى أثر هذه الحوادث ذات البعد التراجيدي، لم يبق للزهاد غير التمظهر مظهر المعارضة السلبية التى أتخذت مظهراً دينياً، بيد أن جوهرها كان يشكل موقفاً من الواقع السياسي والاجتماعي، فقد عاينوا مصير بعض الزهاد والعباد الصادحين بالحق المعارضين للأوضاع القائمة.

ونجد في شخصية الحسن البصري، الأنموذج الأمثل الممثل لهذا الشكل من المعارضة، تلك الشخصية التي كانت تتسم بالحزن والشعور الدائم بالتقصير، وذلك يرجع لعاملين؛ أولهما ديني، وهو الشعور بالتقصير فى حق الله كما هو حال المؤمنين الصادقين، والثاني اجتماعي سياسي، بسبب تفشي المظالم التي لا حيلة له أو حول فى دفعها أو مواجهتها ومن ثم الحيلولة دون وقوعها.

ولكن هذه المعارضة السلبية لا تستمر طويلاً، إذ نرصد تحولاً في موقفه _أي الحسن البصري_ عندما سأله معبد الجهني وعطاء بن يسار عن مسألة القدر فيقولان “يا أبا سعيد؛ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فيقول الحسن كذب أعداء الله” فها هو الزاهد الكبير يفوه بما هو أكثر من إبداء الرأى فى مسألة القدر، فقد وصف الأمويين بأنهم كذبة أولاً، وأعداء لله ثانياً، هذا موقف واضح فى التحول من موقف المهادنة الذي كان عليه أثناء الثورة على الخليفة عثمان وخلافة الإمام علي، إلى موقف الزاهد المعارض، وهي السمة التي سوف تطبع زهاد العراق، فهو دائماً _العراق_  كان مهد الثورة على الحكم الأموي.

ونرصد هنا موقف آخر فى التحول من حالة التردد والمهادنة إلى حالة الثورة فى موقف سعيد بن جبير الذى أنضم لثورة عبد الرحمن بن الأشعث على إمارة الحجاج فى العراق.

إذن لقد تكشف لنا الوجه الاجتماعي والسياسي لحركة الزهد الأولي فى القرن الأول الهجري، والتي ستمتد حتي القرن الثاني الهجري، تلك هي الحركة التي كانت تشكل طوراً جنيناً للتصوف النظري الفلسفي، بعدما أدى الزهد السلوكي دورَه، ولم يعد مواكباً ولا قادراً على البقاء بشكله التقليدي مع حركة تطور المجتمع العربي _ الإسلامي.

والله أعلم

.. يُتبــع

 

وائل سالم

وائل جمال سالم: شاعر و باحث وكاتب مصري، حاصل على الإجازة في الحقوق من جامعة القاهرة، متخصص في النقد الأدبي. مُهتم بالتاريخ والفلسفة وفلسفة ما بعد الحداثة، خاصة الفلسفات الهامشية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى