الخصيان في الميثولوجيا والثقافة العربية

من الطقس المقدّس إلى رمزية السلطة

تُعدّ ظاهرة الخصيان في الميثولوجيا والثقافة العربية من أكثر الظواهر التاريخية والتربوية والأنثروبولوجية تعقيدا، إذ تكشف عن العلاقة الملتبسة بين الجسد والسلطة، والدين والرغبة، والذكورة والأنوثة في الوعي العربي عبر العصور.

بين الجسد والسلطة، وبين الدين والرغبة، يمتدّ تاريخ طويل من الالتباس والرمز والغموض. إنهم الخصيان، أولئك الرجال الذين جُرّدوا من ذكورتهم ليغدوا حراس الطهر وخدّام الأسرار، ولينتقلوا من هامش الجسد إلى مركز السلطة في قصور الخلفاء والسلاطين. ظاهرةٌ غريبة ومثيرة في آن، تجمع بين القداسة والانتهاك، الخدمة والهيمنة، الحرمان والقرب من الحاكم.

من المعابد البابلية إلى قصور بغداد ودمشق والقاهرة، ظلّ الخصيان جزءا من المشهد الثقافي والديني والسياسي، يحملون رمزية تتجاوز أجسادهم المبتورة إلى معنى أعمق في الوعي العربي: معنى الطاعة المطلقة والنقاء المفروض والانضباط الجسدي الذي صاغ شكل العلاقة بين الإنسان والسلطة.

تحاول هذه الدراسة تقديم قراءة أنثروبولوجية جديدة لهذه الظاهرة، بعيدا عن التناول الفولكلوري أو الفقهي الضيق، من خلال تحليل تداخلاتها في الأسطورة، والدين، والأدب، والسياسة، لتكشف أن الخصاء لم يكن مجرّد عملية جسدية، بل فلسفة للهيمنة والانضباط، تستمرّ رمزيا في مؤسساتنا الحديثة حتى اليوم.

1. التسمية والمفهوم: من الخصي إلى المخصي إلى الخصيان

عند تناول موضوع الخصيان في الثقافة العربية، يُستحسن أولا التفريق بين المصطلحات المتعلقة بهذا الكيان:

في الثقافة العربية والإسلامية، ثمة تداخل بين المفهوم الفقهي والأخلاقي والتاريخي حول هذا المصطلح، وهو ما يطرح إشكالات متعددة:

  1. من الناحية الفقهية والدينية، يُنظر إلى الإخصاء كفعل محرّم أو مكروه في الإسلام، استنادا إلى الحديث النبوي الشهير: «ليس مِنَّا مَن خصَّى واختصى».
  2. من الناحية الاجتماعية والسياسية والثقافية، أصبح الخصيان قوة نافذة في البلاطات الملكية والخلفية، يحملون أدوارا متعدّدة (حراسة النساء، إدارة شؤون القصر، النفوذ السياسي…).
  3. من الناحية الميثولوجية والرمزية، يُحاط وجودهم بهالة من الغموض والأسطورة، حيث تبدو فئة تتجاوز الفرد فتصبح ظاهرة رمزية تتقاطع مع مفاهيم السلطة والجنس والنقاء والقداسة.

وسنعتمد في هذه الدراسة منهجا تاريخيا-تحليليا تأمليا، نستهدف فيه:

هذا المنهج يتيح لنا تجاوز النظرة السطحية أو العنصرية إلى الخصيان، والاحتكام إلى تحليل موضوعي يفسر كيف ولماذا برزت هذه الفئة في الثقافة، وكيف تغيّرت نظرة المجتمع نحوها عبر الزمن.

2. الأصول التاريخية والظاهرة الميثولوجية لظاهرة الإخصاء:

لم تكن فكرة الإخصاء أو تجريد الذكور من الوظائف التناسلية قضية حكرا على الثقافة العربية أو الإسلامية؛ بل يمكن تتبع بعض الممارسات الشبيهة في ثقافات قديمة، وإن لم تصل إلى درجة الخصي البنيوي كما في العصر الوسيط:

لكن في العالم العربي، عندما نجد أثرا تاريخيا حقيقيا للاستخدام المؤسسي للخصيان، فذلك يرتبط غالبا بالبلاط الملكي والقصر، وليس بطقوس دينية خارج نطاق السلطة.

حين نتطرّق إلى الثقافة العربية والإسلامية، نجد أن الخصيان ظهروا في سياقات بلاطية محصورة، مستندين إلى دوافع عملية – الأمان، الحراسة، السرية، التحكم – وليس كممارسات دينية صرفة. بعض الملاحظات التاريخية المبكرة:

وبذلك، يبدو أن الخصي في الثقافة العربية تحول من كائن هامشي وظيفي إلى فئة مؤسساتية ذات نفوذ خاص داخل المسرح السياسي والقصر.

3. الخصيان في النصوص التراثية: الجاحظ مثالا:

لا يمكن بحث الخصيان في الثقافة العربية دون التوقف عند مناكفتهم في الأدب والتراث، ولا سيما في كتابات الجاحظ الذي خصّص لهم مواضع لافتة في مؤلفاته، لا سيما في «كتاب الحيوان» و«مفاخر الجواري والخلان». في هذا السياق:

من خلال نصوص الجاحظ، يتضح أن الخصيان لم يكونوا موضوعا هامشيا في الفكر العربي القديم، بل كانوا يمثلون مفارقة ثقافية — بين ما هو بشري وما هو مُعدّل — تُثير التساؤل حول الهوية والجنس والوظيفة داخل المجتمع.

الخصيان في البلاطات الإسلامية – من الحراسة إلى صناعة القرار

حين انتقل مفهوم الخصيان من المجال البيولوجي إلى المجال الاجتماعي والسياسي، برزت أمامنا إحدى أكثر المفارقات إثارة في التاريخ الإسلامي والعربي: فئة من الرجال حُرموا من الذكورة الجسدية، لكنهم حازوا الذكورة السلطوية بأقوى صورها داخل القصور.

لقد تحوّل الخصي من «جسد ناقص» إلى «جسد سلطوي»، ومن كائن على الهامش إلى وسيط بين الحريم والسلطان، بين السرّ والمجاهرة، وبين الحجب والانكشاف.

هذه الثنائية هي مفتاح فهم الدور التاريخي الذي لعبه الخصيان داخل القصور الإسلامية، منذ العصر الأموي مرورا بالعباسي والفاطمي والمملوكي، وصولا إلى العثمانيين.

تشير المصادر التاريخية إلى أن معاوية بن أبي سفيان كان أول من استعان بالخصيان في القصور الإسلامية، بغرض حراسة النساء ومنع الاختلاط. هذه البداية لم تكن مقبولة شعبيا في البداية، لكنها اكتسبت شرعية سياسية من منطلق “الاحتياط الأخلاقي”.

فالخصي، بصفته رجلا منزوع الخصوبة، يُفترض أنه لا يشكّل خطرا جنسيا على الحريم. وهكذا، أصبح وسيلة لضمان طهارة البلاط.
يقول ابن قتيبة في كتابه المعارف:

“كان معاوية أول من اتخذ الخصيان في الإسلام، اتخذهم لخدمة نسائه وأمن حريمه.”

بمرور الزمن، تجاوز الخصيان الدور المنزلي إلى أدوار إدارية ورقابية، إذ كانوا مؤتمنين على مفاتيح الغرف، والوثائق السرية، وحتى الرسائل الخاصة.

مع انغلاق فضاء القصور على العامة، أصبح الخصيان قناة اتصال داخلية بين السلطان والعالم الخارجي. كانوا يحملون الأوامر، وينقلون الأخبار، ويؤدّون دور “الظل الصامت” الذي يعرف كل شيء ولا يبوح بشيء.
وهذا ما جعلهم مصدر ثقة، ولكن أيضا مصدر خوف دائم، لأنهم يمتلكون أسرار الحكم ومفاتيحه.

في العهد العباسي، وخصوصا ابتداء من القرن الثالث الهجري، تحوّل الخصيان إلى جهاز مؤسّسي منظم داخل القصر.
ففي بغداد، كان للخليفة بيت خصيان يضم مئات المخصيين السود والبيض، بعضهم من الحبشة والسودان، وبعضهم من آسيا الوسطى أو الأناضول.

يذكر المسعودي في مروج الذهب أن عدد الخصيان في بلاط بعض الخلفاء فاق الألف، وكان لكل فريق مهامه الدقيقة:

كانوا يُنظَّمون في طبقات، أشبه بـ“نظام بيروقراطي داخلي”، يخضع مباشرة لإشراف الخليفة أو كبير الخصيان الذي يحمل لقب رئيس الخصيان أو الحاجب الخصي.

في نهاية القرن الرابع الهجري، صار بعض الخصيان يتولّون مناصب قيادية حقيقية، مثل إدارة بيت المال، أو الإشراف على تعيين القادة. ومن أبرز الأمثلة التاريخية:

وجود مؤنس يرمز إلى مفارقة السلطة الجسدية والسياسية: رجل منزوع الذكورة يقود آلاف الجنود ويُرهب خصوم الدولة.

4. الخصيان في الحضارة الفاطمية والأندلسية

في القصور الفاطمية بالقاهرة، بلغ نفوذ الخصيان ذروته. فقد كانوا جزءا من جهاز الدولة، وتولّوا مناصب في الديوان، والإشراف على الأسرار الملكية، بل إن بعضهم شارك في ترتيب ولاية العهد.

ومن أشهرهم:

الفاطميون رأوا في الخصيان أدوات مثالية للثقة المطلقة: لا نسل لهم، لا عشيرة، لا طموح عائلي يهدد الحكم، فكانوا بمثابة موظفين مخلصين بحكم طبيعتهم الجسدية.

في الأندلس الأموية، اكتسب الخصيان مكانة رفيعة. فقد كان الخليفة الحكم المستنصر بالله يعتمد على عدد من الخصيان في ديوانه، بعضهم تولّى مهام في المكتبة العظمى بقرطبة، وهي سابقة فريدة في التاريخ الإسلامي.

ومن أبرزهم صبيح الخصي، الذي كان من كبار رجال الدولة في عهد الخليفة هشام المؤيد بالله، قبل أن يتحول إلى أحد رموز الانقسام في الدولة الأموية بالأندلس.

في القصور المملوكية، احتفظ الخصيان بدور مزدوج:

كان بعضهم يملك سلطة فعلية على الوزراء، لأنهم يسيطرون على الوصول إلى رأس الدولة.
وفي بعض الأحيان، كان لقب “رئيس الخصيان” يعادل مكانة “نائب السلطان”.

بلغ نظام الخصيان قمّته في الإمبراطورية العثمانية، حيث كان هناك نظام رسمي للخصيان السود والبيض:

أشهرهم الخصي بلاط أغا (Kizlar Agha)، الذي أصبح من كبار رجال الدولة، يتحكم في شؤون القصر، ويملك تأثيرا في تعيين الصدر الأعظم أحيانا. وبحسب بعض المؤرخين الغربيين، مثل برنارد لويس، فإن الخصيان في البلاط العثماني كانوا أصحاب شبكة استخبارات داخلية تُرسل تقارير إلى السلطان مباشرة.

يُظهر هذا التطوّر التاريخي أن الخصيان انتقلوا من الهامش إلى مركز السلطة بفعل ثلاثة عوامل مترابطة:

  1. انعدام الخطر الجنسي والسياسي – وهو ما منحهم ثقة القادة والملوك.
  2. الاحتكاك الدائم بالحريم السلطاني – ما جعلهم وسطاء بين العائلة الحاكمة والدولة.
  3. العزلة الطبقية – فهم لا ينتمون لعشيرة أو حزب أو مذهب، مما يجعلهم أدوات مثالية للحكم المطلق.

من هنا، يصبح الخصي في الثقافة السياسية الإسلامية رمزا للنزعة السلطوية المنغلقة: رجل منزوع من جسده، لكنّ الدولة تُعيد منحه جسدا رمزيا مملوءا بالسلطة.

لقد تحوّل الخصيان من “خُدّام القصور” إلى أوصياء على السلطة نفسها.
فهم يمثّلون بنية مزدوجة في التاريخ العربي والإسلامي:

جسد منزوع الرغبة، وعقل مشبع بالهيمنة.

في الجزء الثالث سننتقل إلى التحليل الميثولوجي والرمزي لظاهرة الخصيان في التراث العربي: كيف تحوّلت صورتهم في الأدب، واللغة، والرموز، والخيال الشعبي من “مخصيين” إلى “كائنات بينية” تتحدّى الحدود بين الذكورة والأنوثة، وبين السلطة والخضوع.

الخصيان بين السلطة والحرملك: تحوّلات الجسد المخصي في البلاط العربي والإسلامي

شكّل الخصيان عبر التاريخ الإسلامي والعربي ظاهرة معقّدة ومركّبة في آنٍ واحد، تتجاوز حدود الجسد المبتور إلى فضاءٍ رمزيّ أوسع، حيث يتقاطع المقدّس بالدنيوي، والسياسيّ بالجنسيّ، والذكورة بالأنوثة. وإذا كان الجزءان السابقان قد تناولا الجذور الأسطورية والدينية للخصاء، فإنّ هذا الجزء يتوغّل في العالم المغلق للقصور السلطانية والحرملك، حيث تحوّل الخصيّ من ضحية جسدية إلى فاعلٍ اجتماعي وسياسي يحتلّ موقعا مفصليا بين السلطان والجواري، بين السلطة والسرّ.

في بلاطات الخلافة الإسلامية، ولا سيما في العصرين العباسي والعثماني، برزت فئة الخصيان كأحد أعمدة النظام الداخلي للقصر. وكان وجودهم مبرَّرا بضرورات الأمن والحشمة الدينية، لكنّهم تحوّلوا عمليا إلى جهاز ضبطٍ مزدوج:

يروي ابن خلدون في “المقدّمة” أنّ الخصيان «كانوا أوثق خدّام الملوك، لأنهم لا أهل لهم ولا عشيرة، فلا يخشون منهم طموحا ولا خيانة».

بهذا المعنى، جسّد الخصيّ نموذجا للإنسان المفرغ من الرغبة والتهديد، ما جعله صالحا للمهام الحساسة التي تستدعي الثقة المطلقة، من حراسة الجواري إلى نقل الأسرار السياسية.

داخل قصور الخلفاء والسلاطين، كان الحرملك فضاء أنثويا بامتياز، لكنه في الآن ذاته مركزا للنفوذ الخفيّ.
وفي هذا النسق المغلق، كان الخصيان يمثّلون الجسر بين عالم الرجال وعالم النساء، مما منحهم سلطة رمزية واسعة.
لم يكونوا فقط خدّاما، بل وسطاء في المراسلات، وعيونا للسلطان داخل الحريم.

يشير المؤرخ العثماني مصطفى علي إلى أنّ بعض الخصيان «بلغوا من الحظوة ما جعلهم يحكمون في أمور الدولة باسم السلطان»، ومنهم من وصل إلى رتبة “آغا الحرم”، أي المسؤول الأعلى عن الحريم والقصور.

هذا التموقع الاستثنائي جعل من الجسد المخصيّ رمزا ميتافيزيقيا للثقة المنزوعة من الغريزة، أي تجسيدا لفكرة “السلطة الخالية من التهديد الجنسي”. غير أن هذه المكانة أثارت في الوقت نفسه ريبة النخبة الذكورية، التي نظرت إليهم كـ”أنصاف رجال” يحتكرون ما لا يُتاح للذكور الآخرين: القرب من النساء والسلطان معا.

خلال العصر العباسي المتأخر والعهد الفاطمي، تجاوز بعض الخصيان أدوارهم التقليدية نحو مواقع القرار الفعلي.
فقد تولّى الخصيّ نزار الطائي في بغداد مسؤولية الإشراف على الخزانة السلطانية، بينما صار الخصيّ منصور الخصيّ في عهد الفاطميين أحد مستشاري الخليفة الحاكم بأمر الله.

ويرى الباحث المصري محمد عفيفي أن هذه الظاهرة تعبّر عن “مفارقة سلطوية فريدة”:

“فمن جُرّد من أعضائه التناسلية، امتلك في المقابل سلطة رمزية أعلى، لأنه صار كائنا منزّها عن الشهوة، ومن ثمّ أكثر أهلية لخدمة الحاكم المطلق.”

هذا التحوّل من “المخصيّ الأداتي” إلى “الخصيّ السياسي” يعكس بنية السلطة في المجتمعات الشرقية الوسيطة، حيث تُفقد الجسد قدرته على الرغبة ليُكتسب مكانها النفوذ.

تظهر صورة الخصيّ في الأدب العربي بوصفه كائنا هامشيا، يعيش على تخوم الرغبة والخوف.
في “ألف ليلة وليلة”، يتكرّر حضور الخصيان كحرّاس للجواري، وغالبا ما يكونون ضحايا الشكّ والخداع، أو أدواتٍ لتعرية فساد السلطة.

بينما في بعض النصوص الصوفية – مثل إشارات الحلاج وابن عربي – يكتسب الخصيّ دلالة رمزية، إذ يُنظر إليه كـ”نموذج للانفصال عن الجسد”، أي ككائنٍ تخلّى عن شهواته في سبيل الصفاء الروحي.

أما في الشعر العربي الوسيط، فقد اختُزلت صورة الخصيّ في رمز العجز والاغتراب، كما في قول أحدهم:

“خصيٌّ ولكنْ في الملوك مهابةٌ
تُرى، كيف تُبنى الهيبةُ فيمن لا يُولد؟”

إنّ حضور الخصيان في المخيال العربي لم يكن حضورا جسديا فحسب، بل تعبيرا عن مأزق الثقافة بين الرغبة والقمع، بين السلطة والجسد.

يُظهر تحليل الخطابات الدينية والأدبية أنّ الجسد المخصيّ يحمل دلالتين متناقضتين:

  1. التطهير: فهو جسد منقّى من الشهوة، أقرب إلى الطهر الملائكي.
  2. الوصمة: فهو جسد ناقص، يذكّر بالحرمان والعقاب والذنب.

هذه الثنائية جعلت من الخصيّ كائنا وسطا بين الإنسان والمقدّس، بين العبد والسيّد، بين الخادم والفاعل.
ولذلك، فإنّ دراسته لا تُختزل في تاريخ العبودية، بل تمتد إلى أنثروبولوجيا الجسد العربي نفسه، بوصفه موقعا لصراع دائم بين الرغبة والسلطة.

تكشف التجربة التاريخية للخصيان في المشرق الإسلامي أنّ الخصاء لم يكن نهاية الجسد، بل بداية رمزيّة جديدة له.
فمن خلال هذا “النقص”، اكتسب الخصيّ سلطة خفيّة مكّنته من إدارة مفاصل البلاط، وصار شاهدا على تواطؤ السلطة مع المقدّس، والذكورة مع الخوف. وهنا تتجلّى المفارقة الكبرى: أن يُنتج الحرمان سلطة، وأن يتحوّل الجسد المبتور إلى أداة سياسية وثقافية لإدارة الرغبة.

الخصاء كمرآة للثقافة العربية: مقاربة أنثروبولوجية ورمزية

لم يكن “الخصيّ” في الموروث العربي مجرّد شخصية هامشية أو واقعة بيولوجية ترتبط بالعبودية، بل كان تجسيدا مكثفا لبنية الثقافة نفسها، بما تحمله من توترات بين الجسد والسلطة، والدين والرغبة، والحرية والقيد.

فالخصاء، من حيث هو نزعٌ للقدرة على التناسل، يعبّر عن عملية رمزية أعمق هي نزع السلطة من الجسد وتحويله إلى أداة خاضعة.

ومن هنا، يمكن النظر إلى حضور الخصيان في التاريخ الإسلامي والميثولوجيا العربية بوصفه تمثيلا مضمرا لعلاقة الثقافة العربية بجسدها، أي بحدود المتعة والسلطة والطهر.

في المجتمعات العربية الإسلامية الكلاسيكية، لم يكن الخصاء مجرّد وسيلة عملية لضبط الحريم أو حماية الأسرار السلطانية، بل كان آلية رمزية لضبط الجماعة. فالثقافة التي ترى في الجسد مصدرا للفتنة والاختلال، وجدت في الخصيّ نموذجا لـ”الطاعة المطلقة” و”النقاء من الشهوة”، مما جعله صورة موازية للمثالية الدينية في بعدها الجسدي.

إنّ الخصيّ يمثل الجسد المؤنّث داخل الذكورة، جسدا منزوع الفاعلية، لكنه يُكافأ بالقرب من السلطة، كأنه يقول:

“إنّ نفي الجسد هو الطريق إلى نيل الثقة”.

وهذه الفكرة تكرّست في بنية الثقافة العربية التي ربطت بين الطهارة والخصاء، وبين السيطرة على الجسد والسيطرة على المجتمع.

رغم أن الإسلام حرّم الخصاء وعدّه اعتداء على خلق الله، فإنّ التاريخ الإسلامي يشهد تناقضا بين النص والممارسة. فقد ظلّ الخصيان جزءا من البنية المؤسسية للحرمين الشريفين، وخصوصا في العهدين المملوكي والعثماني، حيث تولّوا رئاسة الحرم المكي وخدمة الكعبة المشرفة.

هذا الوجود المزدوج بين التحريم الشرعي والتوظيف العملي يكشف أنّ الخصاء لم يكن مسألة دينية فحسب، بل إستراتيجية اجتماعية وسياسية لتأمين السلطة وتثبيت النظام. ومن هنا تظهر المفارقة: الدين يرفض الخصاء مبدئيا، لكن الدولة الدينية كانت تمارسه ضمن منطق “المصلحة الشرعية”.

يُختزل الجسد المخصي في المخيال العربي إلى رمزٍ مزدوج:

هذا التناقض جعل الخصيّ حاضرا في الثقافة الشعبية بوصفه كائنا ملتبسا، يثير الشفقة والريبة في آنٍ واحد.
وتشير الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة (مثل أعمال Eunuchs and Sacred Boundaries لِـK. Ringrose) إلى أنّ المجتمعات الشرقية أعادت إنتاج “الخصيّ” كرمز لتوازنها الداخلي، حيث يُضحّى بجسدٍ فردي لحماية الجسد الجمعي من الفتنة والانحلال.

إذا نظرنا إلى الخصاء خارج بعده الجسدي، وجدناه فلسفة ضمنية للعلاقة بين الإنسان والجسد في الثقافة العربية.
فالخوف من الجسد — باعتباره منبع الغواية — أدى إلى تطبيع ثقافة “الكبح” و”الرقابة الذاتية”، حتى أصبحت الخصيّة المجازية سمة من سمات التفكير العربي في مجالات السياسة والدين والأدب.

إنّ “الخصيّ الرمزي” لم يختفِ بانتهاء العصور السلطانية، بل استمرّ في صورٍ ثقافية جديدة:

بهذا المعنى، فإنّ الخصاء ليس مجرّد واقعة من الماضي، بل بنية رمزية متجذّرة في الوعي الجمعي العربي.

إنّ دراسة ظاهرة الخصيان تتيح قراءة معمّقة لـ إشكالية الذكورة والأنوثة في الثقافة العربية.
فهي ثقافة قامت على مركزية الذكر، لكنها في المقابل أنتجت ذكورة ناقصة ومخصيّة رمزيا، تخشى الجسد الأنثوي وتخاف من الانجراف وراء الرغبة.

وفي المقابل، حوصرت الأنوثة في فضاء الحرملك، مراقَبة ومقيّدة، كما لو أن النظام الثقافي ذاته قائم على “خصاء مزدوج” للجنسين:

وهذا ما يجعل الخصاء ظاهرة تتجاوز الجسد الفردي لتصبح بنية اجتماعية تضبط علاقة الرجل بالمرأة، والسلطة بالرعية.

تكشف دراسة الخصيان في الميثولوجيا والثقافة العربية أنّ هذه الظاهرة ليست طارئة، بل نتاجٌ تراكمي لبنية رمزية عميقة تمزج بين المقدّس والسياسي، بين الخوف والرغبة.

فالخصيّ، في جوهره، مرآة تعكس الهوة بين الخطاب الديني والممارسة التاريخية، وبين المثال الأخلاقي والشهوة المقموعة.

لقد تحوّل من كائنٍ منبوذ إلى رمزٍ للثقة والسيطرة، ومن ضحيةٍ بيولوجية إلى فاعلٍ ثقافيّ يكشف عن أسرار البنية العربية ذاتها.

إنّ قراءة هذه الظاهرة بمنهجٍ أنثروبولوجي تتيح فهما أعمق للعلاقة بين الجسد والسلطة في الثقافة العربية — علاقةٍ ما تزال آثارها ممتدة في حاضرنا، في صورة الرقابة، والحياء القسري، وتقديس الطاعة، ونزع الإرادة باسم النظام والطهر.

  1. ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر العربي، القاهرة، 2005.
  2. الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1968.
  3. مصطفى علي، خلاصة الأخبار في اختيار الأخيار، إسطنبول، 1581.
  4. محمد عفيفي، العبودية في مصر الإسلامية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2012.
  5. Kathryn M. Eunuchs and Sacred Boundaries in Byzantine History, Oxford University Press, 2003.
  6. Bernard Lewis, Race and Slavery in the Middle East: An Historical Enquiry, Oxford University Press, 1990.
  7. Sherry S. Ortner, Is Female to Male as Nature Is to Culture?, in Feminist Studies, Vol. 1, No. 2, 1974.
  8. رصيف22، “الخصيان في التراث العربي… أرّقت شهوتهم السلطة وأغراهم القرب منها”، 2018.
  9. Fatima Mernissi, The Harem Within: Tales of a Moroccan Girlhood, Doubleday, 1994.
Exit mobile version