مكتب تقنيات معالجة المعلومات (IPTO): النواة الغامضة للثورة الرقمية الحديثة
مكتب صغير وتأثير هائل
قد يبدو “مكتب تقنيات معالجة المعلومات” (IPTO) في ظاهره مجرد قسم إداري صغير ضمن الهيكل التنظيمي لوكالة مشاريع البحوث المتقدمة الدفاعية (DARPA)، لكنه في الحقيقة يُمثل حجر الأساس لانطلاق العديد من الثورات الرقمية والعلمية التي نعيشها اليوم. تأسس هذا المكتب في سياق الحرب الباردة، وجاء استجابة لحاجة استراتيجية طارئة: تطوير أنظمة معلوماتية يمكنها دعم القرار العسكري بسرعة وكفاءة في ظل تهديد نووي متصاعد.
لكن النتائج تجاوزت التوقعات، إذ أصبح IPTO مهندسا غير معلن لظهور الإنترنت، وراعٍ مبكر لتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومُلهِما لفكرة الحوسبة التفاعلية التي غيّرت علاقة الإنسان بالآلة جذريا.
- الجذور الاستراتيجية والتأسيس (1958–1962)
تأسس مكتب IPTO رسميا في العام 1962، بقيادة جيه. سي. آر. ليكلايدر (J.C.R. Licklider)، أحد أكثر المفكرين تقدما في فهم العلاقة بين الإنسان والحاسوب. تولى المكتب مهمة تطوير تقنيات الحوسبة التفاعلية، وكان أحد أهدافه الأساسية بناء نظم قادرة على “التفكير والتصرف” بطريقة تتقارب مع العقل البشري. وكان ليكلايدر يؤمن بأن المستقبل يكمن في “شراكة تفاعلية” بين الإنسان والآلة.
من خلال IPTO، تمكن ليكلايدر من تمويل مختبرات أكاديمية كبرى، من بينها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة ستانفورد وجامعة كارنيجي ميلون، مما أدى إلى ظهور شبكات من الباحثين الذين ساهموا لاحقا في ابتكار شبكة ARPANET، نواة الإنترنت.
- التحول نحو الشبكات والإنترنت: مشروع ARPANET
في أواخر الستينيات، بدأ مكتب IPTO في دعم فكرة إنشاء شبكة حاسوبية يمكن من خلالها للباحثين تبادل الموارد الحاسوبية. قاد هذا الجهد إلى إطلاق مشروع ARPANET عام 1969، وهو أول تجسيد عملي لفكرة شبكات الحواسيب المترابطة، والتي تطورت لاحقا إلى شبكة الإنترنت. تم تطوير البروتوكولات الأساسية مثل TCP/IP من خلال تمويل IPTO، وبذلك تحوّل المكتب من مركز أبحاث دفاعية إلى صانع للبنية التحتية لأهم أداة معلوماتية في تاريخ البشرية.
- IPTO والذكاء الاصطناعي: التمويل السري والمفتوح
منذ بداياته، أدرك IPTO أهمية الذكاء الاصطناعي كأداة محتملة للدفاع وللحوسبة المستقبلية. دعم المكتب العديد من المشاريع الرائدة في مجال الأنظمة الخبيرة، معالجة اللغة الطبيعية، وتمثيل المعرفة، وكان من بين أبرز المستفيدين من هذا التمويل مشروع SHRDLU الشهير في معالجة اللغة، وأبحاث مارفن مينسكي وجون مكارثي.
عُرف عن IPTO مرونته في دعم الأفكار الثورية، حتى عندما كانت تفتقر إلى التطبيقات الفورية، مما مكنه من احتضان مفاهيم سبقت عصرها، كمفهوم “الأنظمة ذاتية التعلم” و”المساعدات الذكية التفاعلية”.
- الإرث العلمي والثقافي لـ IPTO
يمكن القول إن IPTO لم يساهم فقط في تطوير التكنولوجيا، بل في إعادة تشكيل الثقافة العلمية. أسس المكتب نموذجا تشاركيا في تمويل الأبحاث، شجع فيه على التعاون بين الجامعات، الشركات، والمؤسسات الحكومية. لم يكن الهدف من المشاريع تحقيق ربح مباشر، بل بناء بنية تحتية معرفية وتكنولوجية تخدم المستقبل.
كما أن فلسفة “التحكم اللامركزي” التي دعمها IPTO، عبر شبكة ARPANET، أصبحت أساسا لفلسفة الإنترنت المفتوح، وشجعت على الابتكار اللامركزي الذي نراه اليوم في تقنيات مثل البلوكتشين والذكاء الاصطناعي التشاركي.
- بإيجاز:
عندما نتحدث اليوم عن إنترنت الأشياء، الحوسبة السحابية، الذكاء الاصطناعي، أو حتى الواقع الافتراضي، فإن علينا أن نتذكر أن العديد من هذه المفاهيم تعود في جذورها إلى مكتب تقنيات معالجة المعلومات. لم يكن IPTO مجرد مكتب بيروقراطي ضمن DARPA، بل كان عقلا مفكرا تحرّكه الرؤية الجذرية بأن الحوسبة يجب أن تكون امتدادا للقدرة الإنسانية، لا مجرد آلة لحساب الأرقام.
وبينما تواصل DARPA دعم المشاريع المستقبلية مثل الطائرات ذاتية القيادة والروبوتات الذكية، فإن إرث IPTO لا يزال حاضرا في كل جهاز نتفاعل معه، وكل شبكة نتصل بها، وكل فكرة نبتكرها انطلاقا من هذا الأساس الصلب من التفكير العلمي الطليعي.
- مراجع:
- Norberg, Arthur L., and Judy E. O’Neill. Transforming Computer Technology: Information Processing for the Pentagon, 1962–1986. Johns Hopkins University Press, 1996.
رابط مباشر - Hafner, Katie, and Matthew Lyon. Where Wizards Stay Up Late: The Origins of the Internet. Simon & Schuster, 1996.
رابط مباشر - Waldrop, M. Mitchell. The Dream Machine: J.C.R. Licklider and the Revolution That Made Computing Personal. Viking Penguin, 2001.
رابط مباشر - Cerf, Vint. How the Internet Came to Be. The Economist, 2016.
رابط مباشر