دعا العرب أولادَهم “حربا” و”كلبا” و”عاصية” وسماهم النبي “سِلما” و”جميلة” و”ليلى”
تعرف على ثقافة الأسماء العربية
يرى المؤرخ شهاب الدين القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) -في ‘نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ‘- أن “غالب أسماء العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه”؛ ومن ثم كان طبيعيا أن تنعكس المفردات المتصلة بالصخور والنباتات والحيوانات على أسمائهم وألقابهم.
وقد يبدو في الأمر محاكاة مباشرة لمكونات البيئة الطبيعية المحيطة بهم فيما يدعوه علماء الجغرافيا بانعكاس طبيعة الإقليم على ساكنيه، ولكن الحقيقة أن الأمر يتخطى ذلك إلى جوانب أخرى تجعل التسمية عند العرب بابا واسعا يكشف جانبا عظيما من نظرتهم إلى الحياة والإنسان والأخلاق والأديان والصراع وأنماط العيش.
فقد كان من رأي العرب أن الاسم جزء من كمال الشخصية ومشخِّص لدورها في الحياة، ولذا كانوا يقصدون بالاسم قوام الفرد المرغوب وسَمْته المطلوب ويصممون عبره سياق الحياة التي يراد خوضها، وحتى إن كانت الشخصية تخالف مسماها فإن الاسم يتحول إلى التزام يطارد صاحبَه من أجل استيفاء أهلية مناداته به ونيل استحقاق إطلاقه عليه.
وبما أن مبدأ الصراع احتل الحيز الأبرز في حياة العرب فإنهم غلبت على أسمائهم معاني الرهبة والشجاعة والخشونة والقسوة، كما كانت الرغبة في السيادة والشهرة هدفا أسمى في قيمهم الاجتماعية، فجادت قرائحهم -بكل ملكاتها البلاغية- بما يعبر عن تلك الروح ويؤسس لذلك الطموح.
ثم جاء الإسلام فدفع فلسفة التسمية في التفكير العربي إلى آفاق أرحب لتتلاءم مع مقتضيات التوحيد والشريعة والإيمان بالغيب، وخصال البِرّ وقيم المجتمع العابر للحمية القَبَلية؛ كما نجده في نمط الأسماء والكُنَى التي كانت محلّ اهتمام وتدخّل مباشر من النبي ﷺ.
فقد كان هذا التدخل النبوي يهدف إلى تقديم قِيَم رسالة الإسلام على ما يخالفها من معتقدات وعادات، وتهيئة نفوس حمَلتها لإسهام حضاري جديد قوامه حياة الحضر والعمران وهجران البداوة النافرة، والالتزام بقانون الشرع والانتماء إلى مظلة الأمة الجامعة، بجانب الانتماءات القبلية والبلدانية التي ظل الإسلام يدعم ما تنطوي عليه من خير ومكارم أخلاق جاء ليتممها.
ولذلك شرع في تغيير أسماء مثل: صعب إلى سهل، وحرب إلى سلم، وعاصية إلى مطيعة، ومُضْطَجع إلى مُنْبَعِث، وقل مثل ذلك عن أسماء ذات دلالات منفرة: عَتَلَةَ وشَيطانٍ والحَكَمِ وغُرابٍ وحُبابٍ وشهابٍ.
وبالتالي فإنه يجب النظر إلى مبحث الأسماء العربية بحسبانه مبحثا للنظر في شؤون المعاش والحياة العربية، وكذلك علامة على تبدُّل عظيم في أحوال البيئة والعمران ونُظُم الحياة. وإذا أضفنا إلى ذلك مبحث المناقب والصفات المعبرة عن استحقاق للمكانة مبناه على التفاضل في خدمة الإسلام والتضحية في سبيل ترسيخ رسالته وتعاليمه؛
فسنجد من ذلك وفرة عظيمة في زمن النبوة وعصر الصحابة والتابعين، حيث بات المسلمون يوصفون بالصدِّيق والفاروق وأمين الأمة وسيف الله، والمهاجرين والانصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان؛ فكانت تلك علامات وإشارات لتحول حضاري كبير خاضه الإسلام عبر تبديل الأسماء والألقاب.
لقد كانت حمْلة تبديل الأسماء تعني في جوهرها تبديلا لسُلّم القيم والفضائل ومعيارية الحكم على الأشياء والأشخاص؛ فخرجت بذلك من الاعتباطية التي سادت معظمها إلى القصدية الهادفة، ولذا لا غرو أن رأى المؤرخ العراقي جواد علي (ت 1408هـ/1987م) –في كتابه ‘المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام‘- أن أسماء العرب “من الموضوعات التي لفتت إليها الأنظار لما في كثير منها من غرابة وخروج على المألوف”،
وقد أشار إلى اهتمام المستشرقين -من أمثال الأسكتلندي وليام روبرتسون سميث (ت 1311هـ/1894م)- بهذا الأمر وملاحظتهم له. وضمن ذلك الاهتمام تقدم هذه المقالة جولة في ثقافة الأسماء عند العرب -جاهلية وإسلاما- تحاول أن تكشف ما وراءها من فلسفة عظيمة وتفاصيل لا تخطر على بال!!
- رصد مبكر
لمعرفة أهمية ثقافة الأسماء ووزنها عند العرب؛ ربما يكفينا أن نعلم أن أحد أقدم المؤلّفات العربية التي وصلتنا صُنع خصيصًا للبحث فيه، وهو كتابُ ‘الاشتقاق‘ لابن دُرَيد الأزْدي (ت 321هـ/933م)؛ فقد قال في مقدّمته: “وكان الذي حدانا على إنشاء هذا الكتاب أن قوماً ممن يطعن على اللسان العربي، وينسب أهله إلى التسمية بما لا أصل له في لغتهم، وإلى ادعاء ما لم يقع عليه اصطلاح من أوليتهم؛ عَدّوا أسماء جهلوا اشتقاقها ولم ينفُذ علمهم في الفحص عنها”.
وجعل ابن دُرَيد يردّ على هذا الادّعاء –الباطل في رأيه- بنقده الرواية التي استند إليها الطاعنون، وهي أن الخليل بن أحمد الفَرَاهِيديّ الأزدي (ت 170هـ/786م) سأل أبا الدُّقَيْش الكِلابيّ –وهو أعرابيّ مشهور من أعلام القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي و”كان أفصح الناس”- عن معنى ‘الدُّقَيْش‘ (= تصغير الدَّقَش وهو دُويبة رقطاء صغيرة) الذي يتكنّى به؛ فأجابه: “لا أدري! إنما هي أسماء نسمعها ولا نعرفُ معانيَها.
وهذا غلط على الخليل، وادعاء على أبي الدقيش”. ثم انطلق ابنُ دُرَيد يشرح فلسفة التسمية عند العرب ويوضّح مذاهبهم في ذلك؛ في كلام طويل سيأتي بعضُه في أثناء هذه المقالة. وقد خالف ابنَ دُرَيد في رأيه ذلك اللغويُّ الكبير أحمدُ بن فارس الرازي (ت 395هـ/1006م) فعلّق –في كتابه ‘مقاييس اللغة‘- على كلام هذا الأعرابي قائلا: “وما أقربَ هذا الكلام من الصدق”!!
ولا غرابة في تأييد ابن فارس لمقولة أبي الدُّقَيْش إذا استحضرنا أنه عقد -في كتابه ‘الصاحبي في فقه اللغة العربية‘- فصلا بعنوان: «باب الأسماء التي تسمَّى بِهَا الأشخاص عَلَى المُجاوَرَة والسَّبب»، فصدَّره بقوله: “قال علماؤنا: العرب تسمّي الشيءَ باسم الشيءِ إِذَا كَانَ مجاوراً لَهُ أَوْ كانَ منه بسبب”.
وإذا كان أبو الدُّقَيْش الكِلابي يرى أن “الأسماء والكُنى علامات”؛ فإن أسماء العرب –في الحقيقة- تعبيرٌ عن بيئتهم التي كانوا يحيون فيها، ومن خلالها وحدها يمكنك أن تتخيّل كثيرًا من تفاصيل حياتهم، وتركّب صورةً لا بأس بها لهذه البيئة.
ولذلك قال القلقشندي (ت 821هـ/1418م) في ‘نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب‘: “غالب أسماء العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه، إما من الوحوش كأسد ونمر، وإما من النبات كنَبت وحنظلة، وإما من الحشرات كحيّة وحنش، وإما من أجزاء الأرض كفِهر وصَخر”.
- التأثير البيئي
لكن الأمر يبدو أعمق من أن يكون مجرّد تعبيرٍ عن بيئة العرب المحسوسة، بل هو ممتدٌّ إلى ما وراء ذلك من أحوالهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية. فلما كانوا لا ينفكّون عن القتال وشنّ الغارات، غلبت على أسمائهم “تسميةُ أبنائهم بمكروه الأسماء”؛ كما يقول القلقشنديّ. ويقصد بالمكروه هنا المُهاب المخيف، أو ما دلّ على الشجاعة والقوة والفروسية والقسوة والخشونة.
وكما تقول الباحثة مريم الدرع -في مقدمة تحقيقها لـ‘تهذيب جمهرة النسب‘ لأبي عُبيد القاسم بن سَلّام الهَرَوي المتوفي 224هـ/839م، مع تصّرف كثير وإضافة- فإن العرب كان “من أسمائهم غالب وغلّاب وظالم وعارم ومُنازل ومقاتل وثابت، وسَمَّوا في مثل هذا الباب: مُسهِرا ومُؤرِّقا ومُصبِّحا وطارقا، وسمّوا بالسباع ترهيبا لأعدائهم،
نحو: ليث وفراس وضِرْغام ودُريد وباسل ووَرْد، وبما غلظ من الشجر نحو طَلحة وسَمُرة وسَلَمة وقتادة وهَرَاسَة، كل ذلك شجر له شوك..، وسمَّوا بما غلظ من الأرض وخشن لمسه وموطئه مثل حَجَر وجَنْدَل وجَرْوَل، ويلحقه التسمية بأسماء الحرب وأدواتها، كتسميتهم: حربًا وسيفًا وسهمًا وكنانةً وأدهم وكُميتًا”.
وفي ذلك كلّه دلالات لا تخفى على طبيعة الحياة القاسية التي كان القومُ يعيشونها، في معارك لا ينقشع غُبار إحداها حتى تقوم أخرى. وقد روى ابن دُريد -في ‘الاشتقاق‘- بإسناده عن العُتبيّ (الأرجح أن المقصود هنا هو: محمد بن عبد الله السفياني العُتْبِي النسّابة الشاعر المتوفى 228هـ/843م) أنه سُئل: “ما بال العرب سمّت أبناءَها بالأسماء المستشنعة، وسمّت عبيدها بالأسماء المستحسنة؟ فقال: لأنها سمّت أبناءها لأعدائها، وسمّت عبيدها لأنفسها”.
ورغم أن هذه الحكاية رُويت في أكثر المصادر عن أبي الدُّقَيْش الأعرابيّ، فإنني لا أظنُّ ذلك إلا وهمًا، وبعض المصادر أوردت أن الجواب لأعرابي سأله العُتْبي؛ والله أعلم. على أن مما يعزز صدقية مضمون هذه القصة -مهما كان مصدرها- أن المؤرخ النسابة محمد بن سعد الزهري (ت 230هـ/845م) روى -في كتابه ‘الطبقات الكبرى‘- أن عبد الله بن عباس (ت 69هـ/689م) “كان يسمي عبيده أسماء العرب: عكرمة وسميع وكُرَيب”.
ومن تسميتهم: “هاشمًا ومُطعمًا” وأشباهها نُدرك إشارات إلى الفقر والجوع اللذين كانت تعانيهما القبائل العربية في صحرائها، وعِظَم قدر من يُساهم في إزالتهما والحدّ من آثارهما. فهاشم هو الذي يَهْشِمُ الثريد للناس بيده ويُطعمهم، وجَدُّ النبي ﷺ هاشم بن عبد المطلب كان “يُسمَّى ‘عَمْراً‘، وهو أَول من ثرَد الثَّريدَ وهَشَمه فسُمّي هاشِماً”؛ كما يقول ابن منظور (ت 711هـ/1311م) في معجمه ‘لسان العرب‘. ولذلك خلدت له العرب هذه المأثرة حين قال شاعرهم يمدحه:
عَمْرُو العُلا هَشَمَ الثَّريدَ لِقَومه ** ورِجالُ مكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجافُ!
ومثله ‘مُطْعِم‘ و‘جَفْنَة‘؛ فـ”العرب كانت تسمي السيد المِطْعام جفنة؛ لأنه يضعها ويطعم الناس فيها فسُمي باسمها”؛ كما يقول أبو عُبيد أحمد بن محمد الهروي (ت 401هـ/1011م) في ‘كتاب الغريبين في القرآن والحديث‘.
وينقل شيخه أبو منصور الأزهري (ت 370هـ/981م) -في كتابه ‘تهذيب اللغة‘- عن اللغوي أبي العباس ثعلب (ت 291هـ/902م) أن “العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا”. وفي كل ذلك إشارةٌ إلى طبيعة النظام الاقتصاديّ الذي كان يعتمدُ في جانبٍ منه على عطاء ذوي الغنى والجود، وحمل القادر على الكسب لغيره ممن لا يُحسنه ولا يقدر عليه.
- صدفة وتفاؤل
وبعد أن نقل أحمدُ بن فارس الرازي -في كتابه ‘الصاحبي في فقه اللغة العربية‘- كلامَ الجاحظ هذا عقّب عليه قائلا: “وعلى هذا يكون جميع ما لم نذكره من هذه الأسماء”!! وقد أورد الجاحظ أيضا ما يدل على نمط من التفاؤلية الخُلُقية عند العرب في أسمائها، فقد قال -في كتابه ‘البخلاء‘- إنه “لفضل خصال الضحك عند العرب [كانت] تسمّي أولادها بـ«الضحّاك» وبـ«بسام» وبـ«طَلْق» وبـ«طليق»”.
ويبدو أن تسمية الصّدفة هذه بقيت في العرب حتى زمنٍ قريب، ثم اتّسعت لتشمل الشهور والأيام، ولم تكن منتشرةً في القديم؛ فالمؤرّخ العُمانيّ سالم بن حمود الإباضيّ (ت 1414هـ/1993م) يقول في كتابه ‘إسعاف الأعيان بأنساب أهل عُمَان‘: “اعلمْ أن غالب تسميات العرب منقولة من أحوال ترِد بهم، كحرب لمن يولد في الحرب، وحارب كذلك، وربيعة من يولد في الربيع أو [يوم] الأربعاء، أو خميس لمن يولد يوم الخميس، وجمعة لمن يولد يوم الجمعة… وكذلك: شعبان ورمضان ورجب لمن يولد في هذه الأشهر”.
- الأثر الإسلامي
وقد يكون الاسم المغيَّر -بعد إسلام صاحبه- من الأسماء التي لها دلالة وَثَنِية أو شِرْكِية، لاسيما أن العرب كان يكثر فيها الأسماء “المعبَّدَة” للأصنام مثل عبد العزى وعبد مناف، بل وحتى “المعبَّدَة” لغير أصنامها المعروفة؛ فقد ذكر هشام بن محمد ابن الكلبي (ت 204هـ/819م) -في كتابه كتاب ‘الأصنام‘- أنه “كانت الْعَرَبُ تُسَمِّي بِأَسْمَاء يُعَبِّدونها، لا أَدْرِي أعبَّدُوهَا للأصنام أم لَا؟ منها: عبد يَا ليل، وعبد غنم، وعبد كلال، وعبد رِضا”!!
وقد عقد البخاريّ (ت 256هـ/870م) –في صحيحه- أبوابًا عدّة للتسمية مثل: “باب أحبّ الأسماء إلى الله”، وباب “تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه”. كما ترجم الحافظ ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ‘الإصابة في تمييز الصحابة’- لنحو خمسين صحابيا وصحابية ممن غيّر النبي ﷺ أسماءهم لدوافع مختلفة من تلك التي ذكرناها أعلاه وغيرها، وسنعرض قريبا لبيان بعضها.
وروى البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيّب (ت 93هـ/713م) أن جدَّه ‘حَزْنًا‘ قدم على النبي ﷺ فسأله: «ما اسمك؟» قال: اسمي حَزْنٌ [ومعناه: الصعب]، قال: «بل أنت سهل»، قال: ما أنا بمغيِّر اسما سمّانيه أبي.
وجاء في بعض رواياته أنّ حَزْنًا هذا قال: “إنّما السهولة للحمار”! فكره تغيير اسمه. وكأنّ النبيّ ﷺ بذلك أراد أن يهيّئ العرب لحياة جديدة غير حياة الاقتتال والتنازع والقساوة، ويؤيّد ذلك ما ذكره أبو داود السِّجِسْتاني (ت 275هـ/888م) -في سننه- من أن النبيّ ﷺ “سمّى حربًا سِلمًا”.
وقد ذكر أبو داود مع هذا معانيَ أخرى تُجْمل الفلسفة النبويّة في اختيار الأسماء، وذلك في: “باب في تغيير الاسم القبيح”؛ قال فيه: “وغيَّرَ النبي ﷺ اسمَ العاصِ وعزيزٍ وعَتَلَةَ وشَيطانٍ والحَكَمِ وغُرابٍ وحُبابٍ، وشهابٍ فسماه هشاماً، وسمّى المُضْطَجِعَ المُنْبَعِثَ”.
ولم يقتصر هذا التغيير على الرجال فقط بل تعداهم إلى النساء؛ فقد ذكر أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ/1040م) -في كتابه ‘معرفة الصحابة‘- أن جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصارية (ت بعد 13هـ/635م) أم عاصم بن عمر بن الخطاب (ت 70هـ/690م) “كانت تُسمَّى ‘عاصية‘ فسماها رسول الله ﷺ ‘جميلة‘”، وعلق الأصبهاني -ملاحظا الفلسفة النبوية هنا- فقال إن النبي ﷺ “كان يتفاءل بالاسم”! وقال ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- إن الصحابية مطيعة بنت النعمان الأنصارية “كان اسمها ‘عاصية‘ فسمّاها رسول الله ‘مطيعة‘”.
بل إن النبي كان يغير الأسماء التي توحي بتزكية النفس ومدحها، ومن أدلة ذلك ونماذجه ما رواه الإمام مسلم (ت 261هـ/875م) -في صحيحه- عن الإمام التابعي محمد بن عمرو بن عطاء (ت نحو 124هـ/743م) قال: سَميتُ ابنتي «بَرَّةَ»، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة (ت 73هـ/693م): إن رسول الله ﷺ نهى عن هذا الاسم؛ [فقد وُلِدْتُ] وسُمِّيتُ «بَرَّةَ»، فقال رسول الله ﷺ: «لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البِرِّ منكم»، فقالوا (= أهلها): بِمَ نسميها؟ قال: «سمُّوها زينب».
وإذا كان التغيير هنا حصل في اسم مولودة صغيرة، فإنه شمل غيرها من البالغات من باب أولى؛ حتى ولو كانت من زوجات النبي ﷺ. ومن أمثلة أيضا ما أورده ابن عبد البَر الأندلسي (ت 463هـ/1071م) -في ‘الاستيعاب في معرفة الأصحاب‘- من أن أم المؤمنين جُوَيْرية بنت الحارث الخُزَاعِية (ت 57هـ/678م) “لم يختلفوا أن اسمها كان «بَرَّة» فسماها رسول الله ﷺ «جويرية»”.
- تغييرات طريفة
ومن لطيف ذلك أيضا تغيير اسم نسائي وحشي اللفظ إلى آخر سلِس مأنوس؛ فقد أورد الإمام المحدّث جمال الدين المَزِّي (ت 742هـ/1341م) -في ‘تهذيب الكمال في أسماء الرجال‘- أن إحدى الصحابيات “كان اسمها ‘الجَهْدَمَة‘ فسماها رسول الله ﷺ «ليلى»”.
وقد أتْبع أبو داود ما ذكره من تغيير النبي ﷺ للأسماء بما هو أطرف؛ إذ وضّح أن التغيير النبويّ للأسماء القبيحة لم يقتصر على الأفراد والبشر، بل شمل القبائل والأرضين والآبار؛ فذكر أن “أرضاً تُسمَّى عَفِرةَ سماها خَضِرَة، وشِعْبَ الضَّلالة سَمَّاه شِعبَ الهُدى، وبنو الزَّنْيَة سمّاهم بني الرَّشدَة، وسمَّى بني مُغوِيَة بني رِشْدة”! مع أن الزَّنية هنا معناها الولد الأخير في العائلة وليست بمعنى الزنا، ولكنه غيّر اسمهم العائلي درْءاً لتوهم العار بهم.
ومن هذا الباب ما ذكره ابن منظور -في ‘لسان العرب‘- من أن مدينة النبي ﷺ كان اسمها يَثْرِبُ “فغَيَّرها وسماها طَيْبةَ وطابةَ كَراهِيةَ التَّثْرِيبِ، وهو اللَّوْمُ والتَعْيير”. ونقل المقريزي (ت 845هـ/1441م) –في ‘إمتاع الأسماع‘- عن المؤرخ الواقدي (ت 207هـ/822م) أن رسول الله ﷺ كان “يشرب من بئر لبني أمية من الأنصار… تُسمّى العسيرة فسماها اليسيرة”! وإنما كان عليه الصلاة والسلام يفعلُ ذلك لأثر الاسم في النفس، وكما قيل فـ”لكلّ [أحد] من اسمه نصيب”.
بل إنّ سعيد بن المسيّب كان يرى أثر “الحُزونة/الصعوبة” -التي لمسها النبي ﷺ معنويا في اسم جده- مجسَّدا وممتدًّا وراثيًّا عبر الأجيال في عائلته؛ فقال: “فما زالت فينا الحُزُونة بعدُ”، أي أن الصعوبة بقيت ممتدّة في ذرية جدّه ‘حَزْنٍ‘ جيلًا فجيلًا!
ولعلّ المقاصد النبويّة كانت تَظهرُ أكثر في الألقاب التي كان يخلعُها على أصحابه المخلصين، كتلقيبه أبا بكر بـ «الصدّيق» (ت 13هـ/635م)، وعمر بن الخطاب بـ«الفاروق» (ت 23هـ/645م)، ومثل تلقيبه حمزة بن عبد المطلب بـ«أسد الله» و«سيد الشهداء» (ت 3هـ/625م)، وأبا عُبيدة بن الجراح بـ«أمين الأمة» (ت 18هـ/640م)، وخالد بن الوليد بـ«سيف الله» (ت 21هـ/643م)،
وغير ذلك من الألقاب ذات الأثر الطيّب، المُلقية على حاملها شرفًا عظيمًا ومسؤولية أكبر في استحقاق ذلك اللقب. ولم يقتصر ذلك على صحابته من الرجال بل كان للصحابيات منه نصيب وافر، ومن أمثلته تلقيبه أسماء بنت أبي بكر (ت 73هـ/693م) “ذات النطاقين” مكافأة لجهود إسنادها له ولوالدها في الهجرة من مكة إلى المدينة.
وليس ببعيد أن تكون فلسفة النبي ﷺ في ألقابه التي كان يخلعها على الصحابة جاءت لتصحيح “ثقافة الألقاب” التي كانت مألوفة في أهل “يثرب” من الأوس والخزرج، وما كان يسودها من تنابز بالألقاب ومعايبها؛ فقد روى أحمدُ بن فارس الرازي -في كتابه ‘الصاحبي في فقه اللغة العربية‘- بسنده إلى “رجل من الأنصار من بني سَلَمة؛ قال: فينا أنزلت هذه الآية (= قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾؛ سورة الحُجُرات/الآية: 11)، وذلك أن رسول الله ﷺ قدِم علينا وليس منا رجل إلا له لقبان أو ثلاثة،
فجعل بعضنا يدعو بعضا بلقبه، فسمع ذلك رسول الله ﷺ فجعل هو أحيانا يدعو الرجل ببعض تلك الألقاب، فقيل له: يا رسول الله إنه يغضب من هذا! فأنزل الله جل ثناؤه: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾؛ (سورة الحُجُرات/الآية: 11)”!! وهذه الرواية خرَّجها أصحاب السنن الأربعة من طريق آخر، وورد فيها لفظ الأسماء بدلا من الألقاب.
وكما استعمل النبيّ ﷺ ذلك في تكريم أصحابه وتعزيزهم، فقد اتخذه سلاحًا يكيدُ به زعماء عدوّه ويرسم لهم صورة تقلل من شأنهم في عيون الناس، لاسيّما زمن الكفاح السلميّ بمكّة؛ فكنّى عمرو بن هشام (ت 2هـ/624م) -الشهير بأبي الحكم- «أبا جهل»! ثمّ لما أسلم ولده عكرمة نهى عن تكنيته بذلك إكرامًا للولد المسلم وصيانةً لمشاعره.
ويروي عمر بن شَبَّة (ت 262هـ/876م) -في كتابه ‘تاريخ المدينة‘- أنه حين ادّعى مُسَيلمة الحنفي (ت 12هـ/634م) النبوةَ كتب إلى النبي ﷺ قائلا: “من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك…”، فردّ عليه ﷺ برسالة منكرة لهذه الدعوى ولقّبه بـ«الكذّاب»؛ فكتب: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى «مسيلمة الكذاب»، السلام على من اتبع الهدى”. ومن يومها لم يُعرف اسم مسيلمة أو يُنطق ٍإلا وهو مقرون بلقب التكذيب!!
بقي ملحظٌ مهمٌّ في الفلسفة النبويّة في اختيار الأسماء، إذ جعل النبيُّ عليه الصلاة والسلام أمر الاسم من شأن الإنسان، فلم يتعسّف –وحاشاه أن يفعل- في فرض اسمٍ على أحد، بل ترك “حَزْنًا” وما اختاره من تسمية أبيه له؛ فالاسم من خصوصيات الرجل، وهو حقُّه وحقُّ أبيه كما شرح حَزْنٌ للنبيّ ﷺ، ولم يجعله عاصيًا ولا منافقًا بفعله ذلك، بل احترم رغبته وإرادته، وهو يعلمُ أن الامتثال لمقترح النبيّ ﷺ خيرٌ له.
- غرابة ظاهرية
وقد يكون لاسم كلب تفسير آخر؛ إذْ ذكر ابن سِيدَهْ الأندلسي (ت 458هـ/1067م) -في كتابه ‘المحكم والمحيط الأعظم‘- أن الكلب: “كلُّ سَبُعٍ عَقُور” (العَقُور: المفترس)، ثم قال: “وقد غَلَبَ [هذا الاسم] على الكلبِ النّابحِ”. ولعلّ أوّل من سَمّى كلبًا من العرب قصد السّبُع، ثم تداوله الناسُ وتواطؤوا عليه، قال الجاحظ في ‘الحيوان‘: “فإذا صار حمارٌ أو ثورٌ أو كلبٌ اسمَ رجلٍ معظَّم، تتابعت عليه العربُ… ثم يكثر ذلك في ولده خاصّة بعدَه”.
أما كلاب فهو جمعُ كلب، وكانت العربُ تسمي بأسماء الوحوش فردًا وجمعًا، سموه بذلك طلبًا للكثرة كما سمَّوا بلفظ سباع وأنمار؛ كما نقل عنهم الدميري. غير أنّه ذكر احتمالًا آخر في تفسيره، وهو أن يكون “منقولًا من المصدر الذي هو في معنى المكالبة (= تهارش الكلاب)، نحو كالبتُ العدوَّ مكالبةً وكِلابًا”، فيكون اسم كلاب بمعنى اسم حرب، لا أنه جمعُ كلب.
ومثله اسمُ جَحْش، فإنّ العرب كانت تُطلق “الجحش” على المُهر وعلى ولد الظبية؛ كما في ‘لسان العرب‘ لابن منظور. وكانت تُسمي القتال جَحْشًا وجِحاشًا، وهو كما قال الأزهري في ‘تهذيب اللغة‘: “مُدَافَعَة الإنسانِ الشيءَ عن نفسه وعن غيره”. ولذلك قالوا: الجحشُ: الجفاء والغلظ، والجحشُ: الجهاد للعدو، وهذا موافقٌ لمذهب العرب في التسمية بالأسماء القاسية المرهِبة للأعداء.
أما “الكُنية” فهي ما يُجعَل عَلَما على الشخص غير الاسم واللقب ويبدأ بـ”أمّ” أو “أب” ونحوهما كـ”أمّ فلان” و”أبو فلان”، وتكادُ تكون خَصِيصةً للعرب لا يعرفُها غيرهم إلا من تثقَّف بثقافتهم، كما حصل في الأندلس عندما قلَّد اليهودُ والمسيحيون العربَ في أماط عيشهم، بما في ذلك أسماؤهم وكُنَاهم وألقابهم فكانوا يتخذون اسما عربيا وآخر عبريا؛
فهذا المسلمُ من أصلٍ يهوديٍّ السموألُ بن يحيى المغربي (ت نحو 570هـ/1174م) يقول -في كتابه ‘بذل المجهود في إفحام اليهود‘- عن يهود الأندلس: “إن كثيرا من متخصصيهم (= خاصتهم) يكون له اسم عربي غير اسمه العبري مشتق منه، كما جعلت العربُ الاسمَ غيرَ الكنية”.
وللعرب في الكنية مذاهبُ تستحقُّ التأمل؛ فقد كانوا يتيمّنون بها -كما يفعلون بالأسماء- ويتناقلونها ويتوارثونها؛ قال الجاحظ: “وعلى ذلك سمّت الرعية بنيها وبناتها بأسماء رجال الملوك ونسائهم، وعلى ذلك صار كلّ ‘عليّ‘ يكنى بأبي الحسن، وكل ‘عمر‘ يكنى بأبي حفص، وأشباه ذلك”. ونقل شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) –في ‘تاريخ الإسلام‘- أن “أهل الشام يسمّون أولادهم بأسماء خلفاء الله”، ويقصدون بذلك الخلفاء الأمويين.
والعرب وإن كان اشتهر عنهم التكنّي بأكبر الأبناء الذكور، فإنهم نُقلت عنهم مذاهبُ أخرى في ذلك لا تخلو من الطرافة. فقد عرفوا الكُنية بالبنت مع وجود الأبناء الذكور وغيابهم، وممن عُرف بذلك الصحابيُّ الجليل تميم بن أوسٍ الداريّ (ت 40هـ/661م)، قال المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في كتابه ‘أسد الغابة في معرفة الصحابة‘: “يكنى أبا رقية بابنته رقية، لم يولد له غيرها”.
وقبله في الجاهلية كان ملك الحيرة عمرو بن هند اللَّخْمي (ت 569م)، نسبوه إلى أمّه «هند» وكنَّوْه بها: فقال فيه عمرو بن كلثوم في معلّقته:
أبا هندٍ فلا تعجل علينا ** وأنظرنا نخبّرك اليقينا!
ولعلّ منه كُنية عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م)، فهو «أبو حفص» وحفص ترخيمٌ (تدليل) لحفصة، وقد تكنى بها وعنده ابنه عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م) وهو من هو في العلم والقدْر والإمامة.
وقد يتكنى الإنسان بابن أخيه أو أخته، كما قيل في أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ/679م) أنها تكنت «أم عبد الله» بابن أختها عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م). قال الإمام ابن حَجَر العسقلاني -في ‘فتح الباري‘ مبيِّنا سبب تكنيتها بذلك- إن عائشة “لم تَلِدْ للنبي ﷺ شيئا على الصواب، وسألته أن تكتنَّى فقال: «اكتني بابن أختك»، فاكتنت «أم عبد الله». وأخرج ابن حِبّان (البُسْتي المتوفى 354هـ/965م) -في صحيحه من حديث عائشة- أنه [ﷺ] كنّاها بذلك لما أُحضِر إليه ابن الزبير (عبد الله المتوفى 73هـ/693م) ليحنَّكه، فقال: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله»، قالت فلم أزل أكنَّى بها”.
وربما يتكنى الشخص بما يفعله من أعمال الخير وخدمة المجتمع، كما في لقب “أم المساكين” الذي أطلِق على أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية (ت 4هـ/626م) “لكثرة إطعامها المساكين”؛ كما يقول الحافظ جمال الدين المزي في ‘تهذيب الكمال في أسماء الرجال‘. بل إن ابن سعد يخبرنا -في كتابه ‘الطبقات‘- بأنها نالت ذلك اللقب قبل الإسلام؛ فقال إنها “كانت تُسمى بذلك في الجاهلية”!
وقد يتكنّى أحدهم بحيوانه الأليف كما كنى النبيّ ﷺ صاحبه «أبا هريرة» بهِرّته التي كان يضعها في كُمّه. بل ويتكنَّون بالجماد مزاحًا وملاطفةً ومداعبةً كما كنى النبيّ ﷺ عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) «أبا تُراب».
- أسماء النساء
على خلاف الرجال؛ كانت أسماء النساء كثيرًا ما تدلُّ على أوصافٍ لها علاقة بالجمال شكلًا ورُوحًا، وقد يُتعرّف بها على معايير الجمال عند العرب القدماء، والتي تختلفُ كثيرًا عن المعايير الحديثة. كما شاركت النساءُ الرجالَ في الأسماء التي يُتفاءل بها بالحياة والسلامة وطول العمر كعائشة، أو بكثرة الإنجاب كولّادة وفاطمة، فالذي أفهمه من معنى فاطمة أنهم يتفاءلون بأن تكبر وتحمل وتلد وتفطمَ على عجلٍ طلبًا للإنجاب أو بسبب الحمل.
وكثـُر في أسماء النساء ما يدلُّ على الجمال، مثل: جميلة وحسناء وأسماء (وأصلُه وَسماء أي: حسناء)، كما وُجد في الرجال أسماء مشابهة مثل: جميل وحسن وحسين، وكانوا أيضا يسمون الرجل ‘أسماء‘ مثل الصحابي الأمير أسماء بن خارجة الفَزاري (ت 66هـ/687م).
وأما الصفات الجمالية التفصيلية فمنها ما يتعلق باللون؛ ولذلك سمّوا: ‘غرّاء‘ وهي البيضاء المشرقة الوجه، تشبيهًا بالخيل الغُرّ؛ وسمّوا ‘بيضاء‘ أيضًا كالبيضاء بنت عبد المطلب عمة النبيّ ﷺ التي قال عنها الإمام الذهبي في ‘السِّيَر‘: “ما أظنها أدركت نبوَّة المصطفى ﷺ”، و‘عَفْراء‘ كما في اسم محبوبة عُروة بن حزام (ت 30هـ/652م) الشاعر العذريّ الشهير، وعفراء هي التي تشوبُ بياضَها حُمرةٌ.
ويبدو أن مذهبهم في اللون كان واسعًا وأذواقهم فيه متعددة جدًّا؛ فمن التسمية بالألوان ‘سمراء‘ و‘سوداء‘ كما في اسم الصحابية سوداء بنت عاصم العدوية (ت بعد 70هـ/690م)، واسم ‘سودة‘ سُميت به أم المؤمنين سودة بنت زمعة القرشية (ت 54هـ/675م)، وسموا أيضا بـ‘صفراء‘ كما في اسم صفراء بنت عبد الله الجرمية محبوبة الشاعر الفارس بَيْهَس بن صهيب الجرمي، وقد عاشا في القرن الأول الهجري/السابع الميلادي.
وكانوا يحمدون سعة العينين فسمّوا الأنثى حوراء ونجلاء، وكانوا يحبّون طول الأعناق فسمّوا بأسماء الغزال فقالوا: غزالة وظبية وخولة وكلّها بمعنىً واحد، وكذلك اسم جيداء وهي الطويلة العنق، ومن الأوصاف التي كانوا يذكرونها وبقيت إلى زمنٍ قريب من معايير الجمال في البلاد العربية: امتلاء الذراعين والساقين، ومنه اسم عبلة.
وكانت أسماء النساء محلّ تزيين وتدليل، فكانوا يرخّمونها (الترخيم: حذف الحرف الأخير من الاسم اختصارا أو تَحَبُّباً)، وكانوا يمنحون الألقاب المشتقة من الاسم، ولم يستثنوا من ذلك العالمات المشتغلات بالعلوم الشرعية والتحديث، فلم تمنعهم مكانتهن العلمية من تدليلهنّ بالألقاب الأثيرة اللطيفة المشتقة من أسمائهنّ أحيانًا.
فقد ذكرت لنا كتب تراجم المحدثين طرفًا من ذلك، فهذه كريمة المَرْوَزية (ت 465هـ/1074م) –وهي من رواة صحيح البخاري- كانوا يسمونها ‘أم الكرام كريمة‘، ومثلها وزيرة بنت يحيى الثعلبي (ت 715هـ/1315م) كانوا يلقبونها ‘ستُّ الوزراء وزيرة‘، وأطلقوا اللقب نفسه على سمِيَّتِها ومعاصرتها وزيرة بنت المُنجا التَّنُوخِية (ت 722هـ/1322م)، أما شُهْدَة الكاتبة (ت 574هـ/1178م) فكانت تُسمى ‘ستّ الدار‘.
- ترويج وتدليل
وذكر محمد بن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م) -في كتابه ‘فوات الوفيات‘- أم المستضيء بأمر الله (الخليفة العباسي ببغداد المتوفى 575هـ/1179م) فقال إنها أم ولد أرمنية اسمها: غضّة. وأعجبُ منها أمُّ القائم بالله العباسي التي هي أم ولد أرمنية كان اسمها ‘بدر الدجى‘؛ كما جاء في ‘تاريخ الإسلام‘ للذهبيّ، وقال بعضهم إن اسمها: ‘قَطْرُ النّدى‘.
ولم يكن ملوك بني أمية في الأندلس بعيدين من هذا المذهب؛ فهذا الأمير عبد الرحمن الأوسط بن الحكم (ت 238هـ/852م)، أمه أم ولد اسمها: حلاوة، كما جاء في ‘الملتمس في تاريخ رجال الأندلس‘ لأبي جعفر الضَّبِّي (ت 599هـ/1203م).
وكذلك سلطان دولة الموحدين بالمغرب المستنصر بالله (ت 620هـ/1223م)؛ فقد ذكر الذهبيّ أيضًا أن أمه أم ولد رومية اسمها قمر، ويبدو أنّ ابنها ورث شيئًا من جمالها، إذ وصفه الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه “لم يكن في بني عبد المؤمن أحسن منه صورة”!!
ومعلومٌ أن غرابة الاسم قد تتسببُ في شهرة الإنسان وتميّزه عن غيره، وكذلك كُنيته؛ وفي ذلك نصٌّ لطيفٌ اصطاده شيخ محققي كتب التراث عبد السلام هارون (ت 1408هـ/1987م)، وضمّنه كتابه البديع ‘كُنَّاشَةُ النوادر‘. فقد ذكر عن أبي حيان الأندلسيّ (ت 745هـ/1344م) أنه قال: “إذا كانت الكنية غريبة -لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنّى بها في عصره- فإنه يطير بها ذِكرُه في الآفاق، وتتهادى أخبارَه الرفاق”.
ثمّ ينقل عن أبي حيان استدلاله -في تفسيره للقرآن- على أثر غرابة الكنية في شهرة صاحبها من واقعه الشخصيّ، وذلك بقوله عند الآية الكريمة ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ (سورة الحُجُرات/الآية: 11): “كما جرى في كنيتي بـ‘أبي حيان‘ واسمي محمد، فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر -مما يقع فيه الاشتراك- لم أشتهر تلك الشهرة”! قال الشيخ عبد السلام: “وهذا نصٌّ غريب يصدر من عالم جليل له علمه وفضله، يقدم لنا دراسة نفسية في بعض أسباب الشهرة، ولم نر مثل هذا النص من قبل ولا من بعد لعالم فاضل”!!
وقد اشتهر اليوم في بلاد الشام والجزيرة وغيرها أن يدلّلوا الأبناء بقولهم: عبّود وحمّود وأشباهها، وهو عرف قديم؛ فقد فشا في بلاد المغرب والأندلس كما يذكر عبد السلام هارون أيضًا، قال: ومن أسمائهم أيضًا: ‘عبود‘، وحمود وعبود تسميتان عربيتان فصيحتان”، ثم نقل عن أبي حيان الأندلسيّ قوله: “وهم يسمون عبد الله عبّودًا ومحمدًا حمّودًا”. إلى أن قال: “فكأن هذه الصيغة عندهم تسمية تدليل كما هو الشائع في التسمية في وقتنا هذا”.
ثم عقّب شيخ المحققين بقوله: “وأهل المغرب والأندلس يتسمون بزيدون وحمدون وفتحون ورحمون وحسنون وحفصون وسمحون (بل إنهم سمَّوا به نساءهم ومن أشهر أمثلة ذلك اسم الشاعرة نزهون بنت القلاعي الغِرْناطية المتوفاة 550هـ/1155م)، وتعليل هذه التسمية قد يرجع إلى إرادة التفخيم بصيغة كصيغة الجمع”؛ كذا قال رحمه الله.
لكن الدكتور إبراهيم السامرائي (ت 2001هـ/1422م) يؤكد –في دراسته اللطيفة بعنوان ‘الأعلام العربية.. دراسة لغوية اجتماعية‘- أن الواو والنون في هذه الأسماء علامة لتصغير الاسم، يقول: “ويكثر في أعلامهم (= المغاربة والأندلسيين) التصغير بزيادة الواو والنون في آخر الاسم”، مضيفا أن هذه الصيغة موجودة أيضا في اللغة السريانية.
- استيراد وتعويذ
وفي الأسماء العربية المعاصرة كثيرٌ من الأسماء عربيّة الأصل التي اقتبسها غير العرب، ثم عادت إلى بلاد العرب متأثّرةً بلغة المقتبِسين، في عمليّة يمكن أن نسمّيها “تبييض الأسماء” قياسًا على “تبييض الأموال”، غير أنه تبييض ليس فيه فساد.
فمن مشهور ذلك الأسماءُ العربية مفتوحة التاء مثل: حكمت وشوكت ورفعت ورأفت وغيرها، فهذه كلّها بتاء مربوطة، لكن الأتراك اقتبسوها ففتحوا تاءَها كعادتهم، ثم عادت أيام سيادة الأتراك العثمانيين على البلاد الإسلامية فتسمّى بها العرب، وبقيت حتى يومنا هذا.
وإن كانت الأمثلة السابقة واضحة الأصل، فقد تغيّرت بعضُ الأعلام حتى خفي أصلُها العربيّ، وأغربُ مثالٍ عليها: اسمُ ‘هياتم‘ المشتهر بمصر، فأصلُه العربيّ ‘حياة‘ غير أن الأتراك أضافوا إليه ميم الملكية لتصبح ‘حياتم‘ أي: ‘حياتي‘، ولما كان الأتراك لا يلفظون الحاء فقد تحولت اللفظة إلى صورتها هذه “هياتم”، ثم تسمّى بها العربُ بعدُ وخفي عليهم أصلُها.
ومن العادات الغريبة التي كانت منتشرةً في البلاد العربية أن يُسمُّوا الولد أو البنت اسمًا شنيعًا خوفًا من الحسد، وأطرفُ ما وقعتُ عليه من ذلك ما ذكره الطبيب والأديب محمّد صادق زلزلة -في كتابه ‘قصص الأمثال العاميّة‘ بالعراق- ضمن قصّة المثل: “بعدك ما خرجت من الحظيرة”.
وخلاصة ما ذكره زلزلة أنّ رجلًا وُلد له ولدٌ فسمّاه ‘محمّدًا‘ فمات، ثم وُلد له آخر فسماه ‘محمّدا‘ فمات هو الآخر، فوقع في قلبه وقلب زوجه أن الناس حسدوهما، فقالوا: نسمّي اسمًا شنيعًا يحقّره في أعين الناس فلا يحسده أحد، فرُزقا مولودًا فسمّوه: “ازْمَال” وهو الحمار بلسان أهل العراق، وكانت المفاجأة أن عاش “ازْمال” بخلاف من سبقه، ثم ابتسمت له الدُّنيا فاغتنى وتزوّج امرأة صالحةً حكيمة، غير أنه بقيت فيه بلاهةٌ ربّما كان لاسمه دورٌ فيها!!
