الفلسفة مفهوما

سلسلة: الفلسفة؛ تاريخُها ومباحثُها - المقال (1)

بسم الله نفتتح سلسلة “الفلسفة؛ تاريخُها ومباحِثُها”، وهي سلسلةٌ تسعى مِن ورائِها منصة بالعربية للدراسات والأبحاث الأكاديمية؛ إلى تحقيقِ مجموعة من الأهداف من بينِها؛ إقامة نوعٍ من التوازن والتكامُل بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية مع التعريف بهذه الأخيرة، بما يضمنُ توسيع محيط الحقول والشُعب والتخصصات والمباحث العلمية التي تستهدف المنصة التعريفَ بها وتقريبَها إلى القارئ العربي والناطق بالعربية.

وقد جاء اختيارُ موضوع الفلسفة بالضبط لاعتباريْن اثنيْن أولُهُما؛ اقتحام هذا المبحث العظيم الذي يُعدُّ أمَّ العلوم، والتعريفَ به وتيسير الاستفادة منه.

وثانِيهِما؛ إزالة الحُجُب والموانع والعوائِقِ التي تكلّستْ حول مَبْحثِ الفلسفة وموضوعاتِها وغاياتِها، ودَحْضِ كثيرٍ من الخرافات والضلالات والبُهتان والمزاعِم الخاطئة التي رُميَ بها هذا المبحث المهم ظُلما وجَوْراً، وتقديمِه إلى قُرَّاءِ المنصة الكرام؛ سواءً منهم المتخصصين أو غير المتخصِّصين بأسلوبٍ علميٍّ، منهجيٍّ  مُبسطٍ، واضحٍ ومفهوم.

وسنحاول بعون الله تعالى وتوفيقِه المرورَ على كل ما هو مفيدٍ ومساعدٍ على استيعاب وفهم الفلسفة ومحطاتِها التاريخية ومباحِثها وأعلامِها، وسنعتمد في هذه السلسلة منهجيةً تاريخيةً تراعي التسلسل الزمني.

كما سنعتمد منهجية الأنساق في توزيع مباحث الفلسفة وإبراز ترابطاتها وتفرعاتِها المختلفة بشكل نسقيٍّ مُنظم، انتهاءً بحول الله تعالى إلى تمكين القارئ المتابِعِ لهذه السلسلة مِن الإلمام الشافي والوافي بالفلسفة وتاريخِها ورُوَّادِها ومباحِها وموضوعاتِها ومبادئها العامة. {وما توْفيقيَّ إلاَّ بالله}.

سنتَّبِعُ في هذه السلسلة بحول الله تعالى منهجيةً بسيطة جدا، تتمثل في استقراءٍ تسلسليٍّ لتاريخ الفلسفة وتطوُّرِ مباحِثِها ومفاهيمِها الإجرائية وأهَمِّ روادِها، والأثر التجديدي الذي واكب تطوُّرَها.

وسنتطرق إلى العصور الفلسفية المعروفة والمشهورة وهي:

أما فيما يخص التعريف بأعلام الفلسفة؛ فسنعتمد طريقة منهجية وعَمَلية حيث سنقوم بالتعريف فقط بالفلاسفة الذين سنتناولُهم في كلِّ مقال على حدىً. حتى يظلَّ تركيزُ القارئ مرتبطا بالموضوع وفلاسفتِه. كما سنقترح من حين لأخر بعض المراجع الـمُعينة والـمُيَسَّرة في فهم مَباحث الفلسفة. وسنختتم كلَّ مقالٍ بقولة فلسفية مُختارة لأحد الفلاسفة الذين سنتطرق إليهم على مدى السلسلة.

لا شك أن كثيرا منكم حاولَ البحث عن تعريفٍ لمفهوم الفلسفة، ولا شك أيضا أن كثيراً منكم تاهَ وسط التعريفات الكثيرة والمتنوعة والفلسفية لهذا المفهوم.

إن كلَّ ما تم تداولُه من تعاريف حول مفهوم الفلسفة ماهي إلا تعاريفُ تقريبية، بعضها مأخوذ من الترجمة العربية للفظة (philosophie)، وبعضها مُستنتَجٌ من المواضيع التي تعالجُها الفلسفة. والتعريف الأكثر شيوعاً وذُيُوعا؛ هو ذاك القائل: “إن الفلسفةَ هي حُبُّ الحكمة“، والفيلسوف؛ هو “المُحِبُّ للحكمة أو الباحثُ عنها”.

ويتفادى بعض الفلاسفة وصف أنفسِهم بالحكماءِ كونَ اللهَ هو الحكيم، وأنَّ مُنتهى جُهدِهم وهِمَّتِهم أنْ يسعَوْا  في طلب الحكمة، وبالتالي؛ فهم في بحث دائمٍ ومُستمر عنها، وإنَّ امتلاكَ (الحكمة) هو نهاية هذا البحث، وهذا لا يتأتى في هذا العالم اللاَّ مثالي.

عكس بعض الحُكماء أو الخُطباء (على وجه التحديد) الذين ادعواْ امتلاكَ الحكمة؛ وهم الطائفة المشهورة باسم “السوفسطائيون“. أي (مُلاكُ الحِكمة / أربابُ الحِكمة / الحُكماء/ مُعَلِّمُواْ الحِكمة..)، لذلك جاء التعريف مُؤكِّداً على حُب الحِكمة والسَّعي وراءَها؛ وليس امتلاكَها.

الفلسفة أم العلوم، إنها مرحلة القَطْع مع التفسير الخرافي والأسطوري والعجائبي للظواهر الطبيعية، إنها بداية التفكير العقلي والتفسير المنطقي للأحداث والوقائع والكون والوجود.

أتتْ الفلسفة كمرحلةٍ من النُّضج العقلي للإنسان، وحَلَّتْ مَحَلَّ الخوف الذي كان المصدر الأول والأساسي للتفسير والخرافة التي فسّرتْ كثيرا من الظواهر الطبيعية تفسيراتٍ خُرافيةٍ كَرَّسَتْ الخوْف، وأنتجتْ معه حالةً من الحذر والعبودية والقسوة والشر.

عندها؛ كان لزاما على هذا العقل البشري أن يتحرك إزاء هذا الوضع، فكانت الفلسفة الدواءَ والترياقَ الذي انتصر به العقل على الخوف، وفتحتِ الفلسفة الباب واسِعا أمامَهُ مُمَهدةً له الطريقَ نحو الحِكمة؛ أي المعرفة العلمية. (التفسير العقلي المنطقي للظواهر المختلفة).

لقد تطور مفهوم الفلسفة كثيرا وصار يُقصد به كل الأسئلة والأفكار والاستنتاجات والتفسيرات العقلية التي تناقش الموجودات وتهدف إلى الوصول إلى أسباب وعلل وجودِها. 

والفلسفة حسب أرسطو هي: “العلم النظري بالمبادئ والأسباب الأولى للوجود والموجودات، والفلسفة أُمُّ العلوم التي تتفرَّعُ منها كلُّ العلوم الأخرى.

والفلسفة أيضا هي: “عِلم الموجودات بِما هو موجود” بمعنى؛ العِلم الذي به نَتوصَّل إلى معرفة الأسباب والعِلل الأولى للموجودات.

ويعرّف ابن رشد الفلسفةَ تعريفا سهلا وجميلا فيقول؛ فيما معناه: “إن الفلسفة هي النَّظَرُ في الموجودات وفهْمِ خصائصِها ومعرفة أحوالِها للدلالة على صانِعِها (خالِقِها / واجِدِها). لأن معرفة الصَّنعة هي الطريق لمعرفةِ الصانع”.

اختلف المؤرخون في تحديد الـمُبدع والـمُبتَكر الأول  للفظة “فلسفة“، فبعضُ المؤرخين يقولون إنه “فيثاغورس”، وبعضُهُم الآخر يقول إنه “سُقراط”. أما الثابت؛ فهو استعمالُها من طرف “أفلاطون” للتمييز بين  الفلاسفة والسوفسطائيِّين الذين كانوا يُعلِّمون الخَطَابة وفنونَ الحجاج والجِدال لأبناء النبلاء مُقابلَ أجرٍ ماديٍّ معلوم. ومِن أشهرِ هؤلاء نجد “بروتاغوراس”؛ وهو زعيم  الفِكر السوفسطائي. إضافة إلى جورجياس وبروديسكوس.

يُعَرِّفُ أرسطو الفلسفةَ أنها العقل، أي (المعرفة).

 

تسعى الفلسفة إلى البحث عن الطريقة المثلى والصحيحة والمتوازنة للعيش، عن طريق إدراك حقيقة الموجودات، من خلال علوم المنطق وعلوم الطبيعيات وعلوم الميتافيزيقا (الإلهيات)، وإنشاء مجتمع إنساني فاضل يقوم على المساواة والحرية والعدل والحق.

في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة تدعوا إلى إعمال العقل في الكون والتَّفَكر في عظمة الخَلْق والخالق؛ يقول عز وجل {يُؤتي الحكمةَ من يشاء، ومَن يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتِيَ خيراً كثيراً[i]

والدعوة إلى السعي في طلب الحكمة، يقول الله تعالى {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخَلْق[ii]}، وإقامة مجتمع العلم والعدل والحق والحرية.

 

أفلاطون:

أفلاطون (427 ق.م – 347 ق.م) فيلسوف وحكيم يوناني، وأحد أشهر الأعلام المؤسِّسين للفلسفة الغربية القديمة على الإطلاق, في حين يعتبره كثيرون المؤسِّس الحقيقي للفلسفة الغربية.

له مؤلفاتٌ عديدة في كل المباحث تقريبا حيث كتب في الشعر والفلسفة والفن والخطابة والمسرح ..، وتميّزت كتاباته بأسلوب الحوار الممزوج بالسخرية والحكمة.

لُقِّب بأفلاطون بسبب ضخامة جسمِه. ينحدر من أسرة أرستوقراطية مما أتاح له التعلم على يد السوفسطائيين، وعندما بلغ العشرين من عمرِه التحقَ بسقراط وأصبح تلميذَه النجيب.

لم يتأثر أفلاطون بشيء مثلما تأثر بحادثة إعدام معلمِه سقراط، مما أثار سخطَه ونِقمتَه على نظام الحكم الفاسد الذي أعدَم شخصا كان من المفروضِ رفعُهُ إلى رأسِ السلطة. عندها قرر أنه لابد أن تكون الفلسفة هي الدستور المنظم للسياسة والحُكم وليس العكس.

فهاجر إلى صقلية لإقناع حاكِمها بجعل الفلسفة هي دستور الحكم وأن هذا الإجراء سيجعل من مدينتِه مدينة فاضلة، لكن لم يفلح فاضطر للعودة إلى أثينا وأسس مدرسَته الخاصة والمعروفة باسم “أكاديمية أفلاطون”، حيث قضى بقية حياتِه وسط طلابِه وتلامذَتِه ونظرياتِه الفلسفية.

فيلسوف وعالِم رياضيات يوناني (495 ق.م – 570 ق.م)، ظهرَ نبوغُهُ وهو صغيرُ السن، برعَ في الحساب وافتُتِن بالأرقام حتى قال “إن كلَّ شيء أرقام”، كما كان له نصيب وافر من الإلمام بعِلم الهندسة إلى جانب موسوعيتِه في عِلم الفلك والموسيقى،

وهو صاحب مبرهنة فيثاغورس الشهيرة في الرياضيات، وإليه يُنسب جدول الضرب، أسَّسَ فيتاغورس مدرستَه  والتحق بها حشدٌ كبير من الشباب، وكانت تعاليمُه أقربَ إلى التَّصوف والزهد مع كثيرٍ من التحليل العقلي والسياسة.

فيلسوفٌ وحكيمٌ يوناني، (469 ق.م – 399 ق.م)، يَنتسب إلى الفلاسفة الكلاسيكيين المؤسِّسينَ للفلسفة (الغربية)، لم يتم العثور على أي مؤلف باسمِه أو مخطوط بخط يده، وكلُّ ما حُفظ ونُقل عنه كان عن طريق تلامذته، وتعتبر “حوارات أفلاطون” المرجع الأساسي حول شخصية وحياة سقراط.

 أسهم سقراط بشكل كبير في عِلم الأخلاق وعِلم التربية، وله منهجٌ معروفٌ في فلسفة الأخلاق. كما لا  تُنكَرُ إسهاماتُه العظيمة في عِلم المعرفة وعلم المنطق.

ولعل أكثر ما اشتهر به سقراط هو محاكمتُه المشهورة من طرف أعدائه الذين اتهموه ظُلما وزُرا بتخريب عقول الشباب بفلسفتِه وتحريضِهِم على التمرد. فحُكِم عليه بالإعدام بالسم، هذا الحُكم لم يعترض عليه سقراط وقبِله بكل شجاعة وجرأة، وتجرَّع السُّم في حضور تلاميذه وعلى رأسهم أرسطو.

الحِكمةُ .. سُلَّم العروج إلى الله تعالى”  سُقراط

[i]  سورة البقرة، الآية 269.

[ii]  سورة العنكبوت، الآية 20.

Exit mobile version