كراهية العِلم
كنتُ أتصفَّحُ إحدى مواقع الأنترنت؛ فوقعتُ مصادفة على مقطعٍ مصوَّرٍ مُقتطفٍ من محاضرةٍ طويلةٍ لأحد المحاضرين (العرب)؛ وصفَها بـ (العلمية)، يتحدثُ فيها عن قدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم، وعن عظمة هذه اللغة وفضلِها ومكانتِها وإعجازِها العلمي.
كان يُكثر من ذكر لفظة (عِلم – علوم – بحث علمي منهج علمي …)، لكن لغتَه؛ كانت عبارةً عن تأملاتٍ وانطباعاتٍ إنشائية صِرفة، وتعبيراتُه مثاليةٌ وحالمة؛ تُخاطب العاطفة والمشاعر ولا تُخاطب العقل، وليس فيها من المنطق ولا العِلم ولا التحليل العلمي شيئاً.
استمر هذا المحاضر في الإلقاء إلى أن قال: “إن أمريكا وبريطانيا شرعتا فعلا؛ وبسرِّيةٍ تامة في نقل أرشيفِهِما السري العلمي والمعرفي والاستخباراتي إلى اللغة العربية لِحفظه للأجيال القادمة، لأنهما توصَّلتا إلى أن كلَّ اللغات ستنقرضُ أو ستتطور إلى لغات أخرى باستثناء اللغة العربية، التي ظلَّت كما هي منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم”.
رُغمَ كلِّ هذه ((المُغالطات))، خصوصا ما تعلَّق بثبات اللغة العربية على نموذج لغوي واحد منذ آدم إلى اليوم. هذا؛ إذا كان آدمُ أصلاً قد تكلَّم اللغة العربية وليس لغةً أخرى. لقد أثبتت الحفريات أن اللغة العربية التي نتكلَّمُها اليوم؛ قد تطورت عن اللغة السبئية القديمة، التي بدورِها تطورت عن الساميات الأقدم منها.
إلاَّ أن ما لفتَ انتباهي حقيقةً في هذا المحاضر، هو الكم الكبير من (الانطباعات) التي سرَدَها، والتي سمَّاها عِلما ومعلومات، وحَلِفُه وقَسَمُه المُستمر والمتواصل على كل ما يَفُوهُ به لسانُه، دون أن ينسُبَ كلمةً واحدةً مما قالَ إلى مصدرٍ أو يُحيلَ على مرجع،
كما لم يُكلف نفسَه ذِكر اسم مؤسسة أو جامعة أو معهد واحد، ولم يستشهد بشخصية عِلمية واحدة؛ وكانت حُجتُـه الوحيدة طيلة المحاضرة هي (القَسَم والحَلِف) فقط. هذا دون أن نسألَ هذا المحاضر؛ كيف عرفَ بهذه المعلومات التي وصفها بالسرية ؟!.
شاهدتُ كثيراً من مثيلات هذه المواقف التي يُكرر فيها المحاضر أو المُلقي لفظة (علم – علوم – بحث علمي – منهج علمي – تفكير علمي ..) على عواهِنها عشرات المرات؛ دون أن يَعيَها أو يَعنيها حقيقةً ، فيما كلامُه كلُّه رأيٌ وانطباعٌ مَحكوم بالعاطفة والانفعال، ومغلفٌ بغلافٍ سميكٍ من الأسطورة والخيال؛ ولا يَمُتُّ للعلم ولا للتفكير العلمي بصلة.
من مثيلات هذه النماذج وغيرِها كثير، يُمكننا أن نَستشِفَّ أزمة العِلم في العالم العربي، إنها أزمةٌ قديمة، ظاهرُها التغني بالعِلم والعلوم والمنهج العلمي والبحث العلمي والتفكير العلمي، وباطنُها كراهية العلم، ومحاربتُه، ومحاربةُ كل مَن يَشتغلُ به. طبعا دون أن نُعمِّم.
وتعودُ عُقدة (ظاهرة) كراهية العِلم عند العرب في العصر الحديث، إلى فترة الاستعمار (الغربي)، حيث وَقَرَ في نفس العرب نبذَ ورفضَ ومحاربةَ هذا المُستعمِر وكلَّ ما جاء به، بغضِّ النظر عن قيمة مبتكراتِه ومخترعاتِه الحديثة. وترسَّخت هذه القناعات لدى العرب من خلال فتاوى واجتهادات بدائية غيرُ سليمة؛ وقراءات خاطئة للواقع ولحركة تطور الأمم عبر الأزمان.
فتعدى هاجس مُحاربة المستعمر وطردِه من بلاد (الإسلام)؛ إلى محاربة أسبابِ قوتِه التي جعلتْهُ قادراً على الإخضاع والهيمنة والسيطرة والتوسع والاستعمار وضمِّ الأمصار والأقطار.
فحاربَ العربُ عاداتِ المستعمر ولغتَه وثقافتَه وأدبَه وفنونَه ودينَه وعلومَه ومخترعاتِه، وحاربوا أيضا مُؤسساتِه العلمية والفكرية والسياسية العصرية التي أرسى أنويتَها في البلاد العربية، وواجهوا دباباتِه بالخيول، وبنادقَهُ ومدفعياتِه بالسيوف والخناجر، وحاربوه بما غنموا منه من أسلحة وقذائف، وحاربوا تفكيرَه العلمي والمنطقي بالحماسة والعاطفة والاندفاع والتهوُّر.
فخرج المُستعمِر وَلَمْ يَستقلَّ العرب ولم يتحرروا ولم يتطوَّروا. فظل عربيُّ الألفية الثالثة؛ هو نفسُ ذلك العربي في عصر الانحطاط؛ بل أسوأُ منه بكثير، فلم يتطور وعيُه ولم يتغيّر مزاجُه وفكرُه بما يتناسب مع روح الألفية الجديدة ومدِّ العولمة وسطوة العلوم.
ولأن العلوم ماركة غربية خالصة مصدرُها (المستعمِر الغربي)، قرر العربُ دفنَ رؤوسِهم في الرّمال؛ ورفْض هذه العلوم والتحذير من استثمارِها أو الاستفادة منها، مرة باسم الكُفر، ومرة باسم البِدعة، ومرة باسم التقليد الأعمى للغرب، ومرة باسم المؤامرة على الإسلام، ومرة باسم مجابهة الغزو الثقافي.
فنشأت عيِّناتٌ من أجيالٍ؛ وَقَرَ في نفسِها أن الغربَ كلُّهُ شرُّ ويجب الحذر منه ومن علومِه ومبتكراتِه وإنجازاتِه؛ ومقاطَعتُه جُملة. وطائفةٌ أخرى أكثرُ تشدداً ورِجعيةً تُنادي بضرورة مُعاداتِه ومُحاربتِه وترصُّدِه واستهدافِه. فتوالت عيناتٌ عريضة من الأجيال المتعاقبة؛ تحملُ نفْسَ الفِكر ونفس المغالطات ونفس الطباع السلبية.
فأصبحنا نزدادُ تأخرا وتخلُّفا ورِجعيةً مع كلِّ جيلٍ ينشأ، أضعافَ ما يَتقدم الغرب، وظلت الهوة تتسع بينَنا وبينَه في زمن الألفية المُعولَمة والمفتوحة. إلى أن صار العربُ إلى ما صاروا إليه اليوم مِن وَهنٍ وضُعفٍ وتَخلُّفٍ وتمزُّق وفقرٍ وفُرقة وتناحر وبؤس.
ومازال العرب يَنسبون هذا الفشل وهذه الهزائم المتتالية والشاملة إلى المؤامَرة الغربية العالمية عليهم وعلى الإسلام (كما يتوهمون). رافضين الاعتراف بِمَكمن المُشكل؛ وهو كراهيتُهُم للعلم، ورفضِهم للتفكير العلمي وللمشتغلين به. وتعلُّقهم الشديد بالعاطفة والتفكير العاطفي والانفعال والانطباع.
فأصبح العرب يعيشون انفصاما بَـيِّناً بين ما يُعلنون وما يقترفون، فهم يستهلكون السينما الأجنبية والأغاني الأجنبية والملابس الأجنبية والمأكولات الأجنبية والعطور الأجنبية و…، وعندما يتعلق الأمر بالعلوم؛ يقولون إنه غزو خارجي. فظلت علاقة العرب بالعِلم وبالتفكير العلمي علاقة برانية. يحكمُها الاشتهاء والاستهلاك فقط.
رغم كراهية العرب للعلم والعلوم والعلماء وللتفكير العلمي والمنجز العلمي، إلا أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه، لأنه ضرورة حتمية، فهم يوظفونه استهلاكاً، لا تقبُّلاً ولا إنتاجا ولا فَهْماً حتى، ودون أن يعترفوا به، فما السيارات والهواتف المحمولة والتلفاز وأدوات الطبخ وآلات السحب والتحويل المالي والمكيفات و..، إلا عِلماً.
إننا نستهلك العِلم رغما عنا، لأنه يُيسر كثيرا من أمورِنا الحياتية، ويُلبي مُعظم احتياجاتنا، هذا التقبُّل جاء كنوع من الهروب إلى الأمام. فنحن نريد أن ننخرط في الألفية الجديدة بمبتكراتِـها الجديدة، ولكن دون أن نعترف للغرب بأفضليته في هذه العلوم والابتكارات التي تَجِدُّ يوما بعد آخر.
لقد تصدى طائفة عريضة من مشايخ الدين لهذه المخترعات منذ أولِ ظهورٍ لها في الأمصار العربية مَطلِع القرن الماضي، فتوجَّسوا من التلفاز ومكبرات الصوت والساعات والمذياع والمسجلات والأشرطة والمرْكبات، وصعُب عليهم تقبل أنباء من قبيل التحدث عبر اللاسلكي وإرسال الأقمار الصناعية وغزو الفضاء والنزول على سطح القمر،
فأفتوْا فيها وألفوا في كراهتِها أو حُرمتِها مئات الكتب، لا لشيء؛ سوى لأنها مُنجز غربي وافد من الغرب، وليس إنتاجا عربيا، واليوم؛ لا يخلو مسجدٌ من مكبرات الصوت وكاميرات التصوير والمراقبة، ولا يخلو مِعصمُ ولا جيبُ شيخٍ من المشايخ من الساعة اليدوية والهاتف المحمول، كما وأصبح للمشايخ أرصدة بنكية ومركبات فارهة، وصار ظهورهم في الشاشات وعلى القنوات التلفزية أمرا عاديا ومعتادا.
إننا نستعمل لفظة “علم” في كل شيء؛ وفي كل التخصصات. في السياسة والدين والفن والأدب و…، ولككنا أكثر أعداء العِلم قسوة على وجه الأرض، لأننا نحارب الآلة التي يستحيل أن يُوجَدَ العِلم من دونها وهي “العقل”.
لقد أورثَنا عدم استخدام واستعمال العقل وتغليب العاطفة؛ نواقصَ كثيرة، ليس أقلها كراهية العلم ونبذ المشتغلين به، أكثرُها جلاء ووضوحا هي ثُنائيات النقيض؛ فنحن نتأثر ولا نتعلم. نُصدق ولا نتساءل، نقبَل ولا نُناقش؛ نخضَع ولا نَتحقق. نُلزَم ولا نختار.
هذه الثنائيات النقيضة التي ليس بينها خيارٌ وسط. عششتْ في الوعي العربي وأنتجت ثنائيات أخرى أكثر تشددا، من قبيل ثنائية الكُفر والإيمان؛ بدل التفكير العلمي. فإذا وافقتَ شخصاً أو جماعة أو فريقا فأنت شخص سوي، وإذا خالفتهم فأنت مُنحرف أو شاذ عن الجماعة، ونحن لا نقصد هنا بالكفر والإيمان مدلولَهُما العقدي، وإنما نقصد حلولَهُما في قطبي الخيار والتفكير العربي.
فنحن ليس عندنا حلٌ وسطٌ بين هذين التوصيفين. وكل الأوصاف التي يوصف بها من يحاول الخروج عن هذا النسق، هي أوصاف سلبية وأحيانا قدحية. وممنوع عليك أن تقبل جميع الأفكار أو ترفُضَها جميعا، كما ليس مقبولا منك أن تحترمَ الآراء والاتجاهات جميعَها، بل لابد لك من التموقع والتخندق والتصنيف والفرز. وبالتالي؛ وجب عليك أن تكون إمَّا “مع” أو “ضد”.
فمتى سنؤمن بالعلم وبالتفكير العلمي واقعا وممارسة، لا قولا وشعارا فقط؟، ومتى سنمنح العقل حقه في الاشتغال والتفكير والابتكار. ومتى سنغلب العقل على العاطفة، والحرية والاختيار على الإكراه والإلزام ؟؟.
العالم كلُّه حولنا يتغيّر ويتطور بسرعة مذهلة، ونحن لا نبارح مكاننا، فإلى متى سنبقى جامدين، إلى متى سنستمر في كراهية العِلــــــــم ؟؟.