قبيلة “عك”: كلمة السر في الانتصارات المبكرة للإسلام

تُعد قبيلة “عَك” من أبرز القبائل اليمنية القديمة ذات الأثر البعيد في الجغرافيا والتاريخ العربي الإسلامي، حيث انتقل تأثيرها من اليمن إلى الحجاز ثم إلى قلب الفتوحات الإسلامية الكبرى، وصولا إلى شمال إفريقيا والأندلس. وتميزت عك بخصوصية طقوسها، قوتها القتالية، واستقلاليتها في مواقفها السياسية، مما يجعلها نموذجا لقبيلة عربية جمعت بين الجذور اليمنية العميقة والاندماج في نسيج الدولة الإسلامية.

تدل النقوش المسندية اليمنية القديمة، ومنها ما عُثر عليه في محرم بلقيس ووادي ربد سنحان، على أن “عك” كانت قبيلة قائمة بذاتها قبل الإسلام، ولها حضور سياسي وديني بارز. وتعود أقدم الإشارات التاريخية إلى تقرير أيليوس غالوس (24 ق.م) الذي ذكر وجود شعب عربي سبئي يدعى (Actaei)، وهو ما يطابق أوصاف عك، في مناطق ساحلية جنوب الجزيرة العربية، بما يؤكد عراقتها وسبقها الزمني.

وقد أورد بطليموس اسم شعب قريب من “عك” تحت مسمى (Akkitae)، مما يدعم فرضية استمرار وجودها ككيان جغرافي وثقافي قبل وبعد الميلاد. أما ياقوت الحموي فأثبت وجود “مخلاف عك” كمنطقة تابعة إداريا لليمن، مشيرا إلى أهميتها وموقعها الاستراتيجي.

من أغرب الطقوس التي نسبت إلى قبيلة عك هي تلبيتهم الغريبة عند الحج، إذ كانوا يخرجون غلامين أسودين يتقدمان الركب ويلبيان بعبارة: «نحن غرابا عك»، ليردّ عليهم الناس: «عك إليك عانية، عبادك اليمانية، كيما نحج ثانية». وتُعَد هذه التلبية أحد الشواهد على تميز هوية عك الدينية قبل الإسلام، التي ربطت الطقس الديني بعنصر الهوية الإقليمية اليمانية.

سكنت قبيلة عك مناطق تهامة، من وادي ذُؤَال جنوبا إلى وادي مور شمالا، وهي اليوم مناطق تقع ضمن محافظة الحديدة اليمنية. وذكر الهمداني عدة مدن ومناطق ارتبطت بعك مثل: ذوال المعقر، والكدراء، وسردُد، والمهجم، وبلحة. وقد حافظت القبيلة على نفوذها في هذه المناطق حتى القرن السادس الهجري، وكانت مركز قوة وعصيان على الدولة العباسية.

عرفت عك بعدم خضوعها للسلطات المركزية بسهولة، إذ كانت من أوائل القبائل التي تمردت على العباسيين، بل وتحالفت مع القرامطة. وقد وصفها المؤرخ عمارة الحكمي بأنهم “قوم أغمار شجعان لا يرهبون الموت”، مما يعكس الطابع المقاتل للقبيلة.

وفي صدر الإسلام، أسلمت عك مبكرا، ووفد منها ستة رجال على رأسهم أبو موسى الأشعري، كما أسلم بطن غافق من عك. لكن بعد وفاة الرسول ﷺ، كانت عك من أوائل من ارتدوا مع الأشعريين، وهو ما استدعى تدخل الطاهر بن أبي هالة لإخماد فتنتهم.

لعك سجل حافل في الفتوحات الكبرى، حيث شارك مسروق العكي في معركة اليرموك كأمير كردوس يضم ألف مقاتل، وكان لهم دور محوري في فتح مصر، إذ شكّلوا الجيش الرئيسي لعمرو بن العاص بأربعة آلاف رجل. وتركوا بصمتهم اللغوية في مصر من خلال الألفاظ والتراكيب مثل “إمبارح” و”حگر”، ما يُعد دليلا على امتزاجهم السكاني والثقافي مع أهل البلاد.

وفي فتوح العراق، شاركوا في نهاوند والأهواز، وفي صفين قاتلوا مع معاوية بقيادة مسروق العكي، لكن فرقة صغيرة منهم كانت في جيش علي بن أبي طالب، وهو ما يعكس تنوع مواقفهم السياسية.

ساهمت عك في فتوح شمال إفريقيا والأندلس، واستقروا في قرى معروفة باسمهم في الجوف شمال قرطبة. ويُعد وجودهم هناك امتدادا لتأثيرهم العسكري والسكاني، وتأكيدا على انخراطهم في تشكيل الخريطة الإسلامية غربا.

تُظهر قبيلة عك نموذجا متكاملا للقبائل اليمنية التي بدأت محلية وانتهت دولية، إذ امتد أثرها من جبال تهامة إلى ضفاف النيل وسهول الأندلس. تميزت بالشجاعة، التديّن، والمرونة السياسية، مما جعلها عنصرا أساسيا في تاريخ العرب قبل وبعد الإسلام.

المراجع:

نحن غُرابا عَكّ – أنشودة كفار قريش

Exit mobile version