طب وصحة

«عِلم الأوبئة» العربي .. أياد بيضاء على العالم

يسجل التاريخ كيف كان “علم الأوبئة” العربي، الذي أرسى مبادئه أطباء كبار، على رأسهم الرازي وابن سينا والزهراوي، سبّاقًا في اكتشاف طرق العدوى، وإرساء نظام “العزل الصحي”، وسواها من التدابير التي لجأت إليه معظم دول العالم الآن، لمكافحة تفشي وباء “كورونا المستجد”.


وكان للأطباء العرب العظام أيادٍ بيضاء على أوروبا، عندما ضربها وباء الطاعون في القرون الوسطى، ثم على العالم أجمع، منذ ذلك التاريخ حتى عصرنا الراهن، لكونهم أول من شرّع تلك التدابير الصحية في تاريخ الجنس البشري.

ومن المعلوم أن أولئك الأطباء كانوا من أصحاب العلوم الموسوعية التي لا تقتصر على الطب فحسب، لذلك لم يكن الطبيب أو “النطاسي” البارع يحصر نظرته في أعراض المرض وحده بشكل ضيق الأفق، وإنما كان الواحد منهم يعتبر الصحة والمرض مرتبطيّن بسياق أوسع،

ومتوقفيّن على عدد من العوامل البيئية المحيطة بالشخص، والمتعلقة بأسلوب حياته في المقام الأول. وهو الأمر الذي أسفر عن اكتشاف دور “العدوى” في انتشار الأوبئة والجوائح، وتبيّن أهمية تدابير مثل العزل الصحي لمكافحتها والخلاص منها في نهاية المطاف.

ويُعد الطبيب والمؤرخ العربي ابن الخطيب الأندلسي (1313 – 1376م) أول من استخدم مصطلح “الوباء” بشكله العلمي الحالي، بعد أن درس الأمراض المعدية في أوروبا إبان انتشار أوبئة فتّاكة مثل الطاعون والكوليرا والجدري، وهي الجوائح التي يؤكد المؤرخون أنها حصدت ما يقرب من ثلث أرواح الأوروبيين في العصر الوسيط. 

ويقول هوارد تيرنر في كتابه “العلوم عند المسلمين”، إن “ابن الخطيب” ترك لنا توصيفًا علميًا دقيقًا وضافيًا هو الأول من نوعه على مستوى العالم، للأوبئة التي ضربت أوروبا آنذاك، مؤكدًا أنه يمكن اعتبار هذا التوصيف – بجدارة- النظرية الأولى في “علم الأوبئة” المعاصر.

كتب “ابن الخطيب”: “فإن قيل كيف نسلّم بدعوى العدوى، وقد رد الشرع بغير ذلك؟، قلنا: لقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والمشاهدة والاستقراء والحس والأخبار المتواترة، وتلك هي مواد البرهان. ثم إنه غير خفيّ على من نظر في هذا الأمر، أن من خالط المصاب بهذا المرض يهلك،

في حين يسلم من لم يخالطه. كذلك فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أو آنية. فالقرط يتلف من علقه بأذن المصاب، ويُبيد البيت بأسره. من البيت ينتقل المرض إلى المباشرين، ثم إلى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق”. 


  • “العدوى” والأجرام السماوية!

يدرس “علم الأوبئة” كيفية وقوع الحالات والأحداث المرتبطة بالصحة العامة في مجتمعات سكانية بعينها. ويشمل هذا دراسة المحددات المؤثرة على تلك الحالات، وتطبيق المعرفة الناتجة عن ذلك في سبيل السيطرة على الأمراض والمشكلات الصحية.

ويُعنى “علم الجوائح”، وفق الطبيب الإيطالي الشهير روبرتو ساراتشي، بالتعامل مع حركة تفشي الجوائح على جبهتيّن، الأولى هي الكائنات المجهرية الدقيقة المسببة للوباء، أي الفيروسات والبكتيريا والأوليّات غير المرئية التي تحمل المرض. 

أمّا الجبهة الثانية فهم البشر أنفسهم من ضحايا هذه الكائنات، التي لا تريد – في حقيقة الأمر – شرًا بالمريض، بل هي تمارس حقها الطبيعي في البحث عن عائل أو “سط حيوي” تعيش عالة عليه، فلا تجد أمامها سوى أجسام البشر.

ويعلم أعداؤنا من الكائنات المُسببة للأمراض جيدًا أن بقاءهم في الجسد المستضيف العائل قصير الأمد، فالمريض إما يُعالج فيتعافى ويقضي على مسببات المرض، أو يسقط صريعًا. وفي الحالتين، فإن أعمار هؤلاء الأعداء قصيرة، لذا فهم لا يفوّتون أي فرصة للانتقال إلى جسد شخص آخر. وهكذا دواليك من مريض إلى مريض، تحدث العدوى، ومن ثم قد يصير المرض تبعاً لذلك جائحة كبرى.

وقبل هذه الملاحظات الطبية الدقيقة التي انفرد بها الطب العربي، ورد في بعض مصنفات أطباء اليونان القدامى مثل “أبقراط” و”جالينوس” وغيرهما، نثار من الانطباعات عن كيفية حدوث العدوى وتفشي الأوبئة. غير أن هذه الاستنتاجات البدائية لم تُعرف بشكلها العلمي المبدئي إلا على أيدي الأطباء العرب، الذين يُنسب لهم فضل السبق في رصد وتفسير كيفية تطور العدوى إلى جائحة.    

كتب الطبيب الأندلسي الرائد “ابن الخطيمة” الذي كان وزيرًا في قصر غرناطة: “إن نتائج تجاربي الطويلة تشير إلى أن من خالط أحد المصابين بمرضٍ سارٍ، أو لبس من ثيابه، ابتُلي مباشرة بالداء، ووقع فريسة العوارض نفسها. وإذا بصق العليل الأول دمًا، بصق الثاني أيضًا”،

وهو ما يعني ببساطة أن إفرازات المريض تمثل مصدر عدوى مؤكدة للآخرين، الأمر الذي لم يكن معلومًا من قبل في الطب اليوناني، حيث دأب أطباء أثينا وإسبرطة القدامى على اعتبار أن مصدر العدوى هو حركة الأجرام السماوية!

واستفاد الأطباء الأوروبيون، فيما بعد، من ترجمة كتب “الرازي” الذي خصص مصنفًا طبيًا مفصلاً للأمراض المعدية، مثل الجرب والسل والجذام، وكان له كتاب صغير عن “الحصبة والجدري” توالت عمليات طباعته في جميع أنحاء أوروبا حتى القرن التاسع عشر. وفي مستشفاه الذي أسسه على مبادئ التجربة، قسّم “الرازي” مرضاه إلى مجموعتين منفصلتيّن لتجنب انتشار المرض، وقد أدى ذلك إلى ظهور تدابير “الحجر الصحي” المتعارف عليها في الوقت الراهن.

وهكذا، أنتجت حضارة الأندلس العربية الإسلامية في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ أوروبا، العديد من الأطباء النوابغ، الذي أسسوا اللبنات الأولى لعلم الأوبئة، وشخّصوا بدقة لا نظير لها في تلك الفترة آلية انتشار الأمراض المعدية، وكان من بين هؤلاء أبو القاسم الزهراوي (توفي 1013م) ومروان بن زهر (توفي 1160م)، وسواهم.

  • وباء “الموت الأسود”

في مقدمة كتاب “الأوبئة والتاريخ.. المرض والقوة والإمبريالية” يقول المترجم الدكتور أحمد عبدالجواد، الأستاذ بكلية الطب البيطري جامعة القاهرة، إنه قبل بدء تطبيق نظام “الحجر الصحي” في مدينتي جنوا والبندقية، وعزل بعض مدن شمال إيطاليا التي ضربها وباء الطاعون أو “الموت الأسود” عام 1374م،

عرفت الحواضر العربية مثل “دمشق” تطبيق العزل الصحي، وقام الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك ببناء أول مستشفى “بيمارستان” في دمشق، وأصدر أوامره بعزل مرضى “الجذام” لضمان عدم اختلاطهم بالآخرين، كما قدم لهم العلاج مجانًا.

ويشير المترجم إلى أن “النظرية العامة للعدوى”، وإجراءات العزل الصحي، فضلاً عن طرائق التعامل الطبي المختلفة مع الأمراض الوبائية بشكل عام، إنما هي – بالأساس- إحدى منجزات الطب العربي القديم، التي عرفتها أوروبا عبر ثلاثة طرق، هي: الأندلس، وجزيرة صقلية، والحروب الصليبية،

ما يعني أن إجراءات الحجر الصحي لم تظهر من دون مقدمات في المدن الإيطالية، بل أرساها الطب العربي قبل ذلك بنحو 700 سنة.

ويؤكد د. عبدالجواد أن مفهوم “العدوى” نفسه مأخوذ من الأطباء العرب في الأندلس، وأن هذا المفهوم انتقل بعد ذلك إلى الجامعات الأوروبية، وهو أفرز أجيالاً جديدة من الأطباء الأوروبيين الذين كان لديهم ثقة كبيرة في نجاعة المنهج الطبي العربي.

وذلك على الرغم من عدم معرفة الأطباء العرب أو غيرهم، وقتذاك، بطبيعة الكائنات الدقيقة المُسببة للوباء، أو بكيفية تسببها في ذلك، حيث لم يحدث ذلك التطور المفصلي في تاريخ الطب إلا بعد اختراع المجهر “الميكروسكوب” في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يتم التوصل إلى اكتشاف الميكروب المُسبب لمرض الكوليرا، أكثر الأوبئة فتكًا بالجنس البشري، سوى عام 1883م.

وفي عام 1382م، حينما تفشى وباء الطاعون للمرة الثانية في أصقاع أوروبا، نشر عالم فرنسي يدعى شاليه دي فيناريو كتابًا انتقد فيه بقسوة الخرافات الطبية التي كانت سائدة في أرجاء القارة، والتي كانت تربط بين انتشار الأوبئة وحركة الأفلاك، مؤكدًا أن الأطباء العرب هم مؤسسو “علم العدوى”، وهم أول من لاحظ – مثلاً- كيف يؤدي التزاحم في المناسبات الدينية أو الاجتماعية، إلى انتشار بعض الأمراض بشكل وبائي.

واستعانت مدن الشمال الإيطالي التي انتشر فيها الطاعون آنذاك بعدد من الأطباء العرب الأندلسيين، ممن كانوا على دراية واسعة بكيفية معالجة المرضى بشكل جماعي، من خلال عزلهم طبيًا عن الأصحاء، بل ومنع الاختلاط بين المصابين أنفسهم، لضمان التحكم في كل حالة مرضية على حدة، وعدم حدوث انتكاسات للمتعافين منهم جرّاء مخالطتهم للحالات المتقدمة من المرضى.

كما كان لهؤلاء الأطباء العرب فضل السبق أيضًا في اكتشاف أهمية النظافة الشخصية والعامة، لمقاومة أي جائحة وبائية، حيث فرضوا نظامًا صارمًا من التنظيف والاغتسال والطهارة على مدار الساعة، داخل المستشفيات الإيطالية التي استقدمتهم باعتبارهم خبراء في الطب. وكانت هذه القواعد هي الأساس الذي أدى إلى اكتشاف أهمية “التعقيم” في مكافحة العدوى، بعد قرون من ذلك.


طايع الديب صحفي وكاتب من مصر

* طايع الديب: صحفي وكاتب من مصر، صدر له كتاب بعنوان “جمهورية الضحك الأولى: سيرة التنكيت السياسي في مصر”، يناير 2019، وله قيد الطبع كتاب “الكروان الممنوع: قصة القارئ الشيخ عنتر مسلم”.

طايع الديب

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى