الطب هو أسمى العلوم الإنسانية على إطلاقها، وما توصل له علماء وأطباء هذا العصر فيما يتعلق بأحدث التقنيات في الطب والرعاية الصحية ما هو إلا نتيجة لجهود مضنية من البحث والتجربة والاختبار جرت في العصر الذهبي للعلوم في العصر العباسي.
في هذا الفيلم يصحبنا بروفيسور الفيزياء النظرية جمال خليلي في جولة للتعرف على آخر ما توصل إليه الطب الحيوي أي المعرفة النظرية للطب وما قدمه علماء العصر الذهبي للعلوم في هذا المجال من إسهامات عظيمة.
شهدت الفترة الزمنية ما بين القرن التاسع والرابع عشر الميلادي في الإمبراطورية الإسلامية قفزة نوعية في مجال الطب، ووضعت كتب ومراجع أساسية للعالم بأسره ظلت حاضرة حتى وقتنا هذا.
- “المجموعة المرجعية”.. آثار الرازي على الطب الحديث
في مستشفى حمد في العاصمة القطرية الدوحة سنرى كيف أثرت مبادئ وأفكار الطب التي وضعها علماء المسلمين على الطب الحديث، هنا يحتوي قسم الأطفال حديثي الولادة على وحدة الخداج التي يفد عليها ما يقرب 1800 مولود، وهي من أكبر الوحدات في العالم حيث يتم العناية بالخدّج الذين يولدون في الأسبوع الرابع والعشرين أي يولدون بعمر خمسة أشهر وأسبوع، وهذا أمر كان يصعب تصوره في الماضي القريب وقد قطع الطب في هذا المجال شوطا طويلا.
يُجري المستشفى بحثا على الأطفال الذين يولدون بضمور حاد في الجهاز العصبي نتيجة نقص الأكسجين أو نقص تدفق الدم في رحم الأم.
يقول الدكتور صمويل لطفي إن القاعدة الذهبية في العلاج تتلخص بوضع الخدج في حشوة فراش مبردة لإبقاءهم في درجة حرارة منخفضة، وذلك للحد من انتشار الضمور الذي قد يصل إلى الدماغ، لكن هذا لا يحقق النتائج المرجوة، لذا قمنا بإضافة عقار كبريتات المغنيسيوم، ولتحسين الاعتماد على البحث استخدمنا “المجموعة المرجعية” أو الشاهد، ونقوم باختيار أطفال وإعطائهم العقار، أما الآخرون فنقوم بإعطائهم عقارا بديلا، ولضمان الحيادية لا نسمح للأطباء بمعرفة أي المجموعتين تأخذ العقار.
يعود تاريخ “المجموعة المرجعية” إلى العالم المسلم أبي بكر الرازي، وهو العالم الذي بنى أول مستشفى في بغداد، وقد أجرى بحوثا في علاج التهاب السحايا واستخدم الحجامة في ذلك، ولم تكن مستخدمة لهذا الغرض. ولم يكتف الرازي بحصر عيّنة المرضى التي أخضعها للعلاج، بل حصر مجموعة من المرضى الذين لم يتلقوا العلاج، وتعتبر المجموعة المرجعية أحد أهم مكونات البحث العلمي.
ولد الرازي في مدينة الريّ (المدينة التي أنشئت طهران بجانبها) في أواسط القرن التاسع، وهو أول من نادى بتطبيق المنهجية الصارمة في الطب، وقد عمل كبيرا للأطباء في مستشفيي الريّ وبغداد، واستشاره الخليفة المكتفي بالله في المكان الأمثل لبناء المستشفى، فقام بتعليق قطع لحم في أماكن عدة وتابع سرعة تعفنها في كل مكان، وبذلك استطاع تحديد البقعة الأنقى في المدينة وفق منهجية ودراية.
- نظام الدورة الدموية.. ابتكار ابن النفيس الذي سبق هارفي
اعتبر تشريح الجثة في العصر العباسي الأول نوعا من الإهانة، لكن العلماء أدركوا آنذاك أن القلب يتكون من أربع حجرات، وفي القرن السابع عشر أجرى “وليام هارفي” بحثه في الدورة الدموية، وقد أحدث ثورة في عالم الطب إلا أنه في عام 1924 اكتشفت مخطوطة ترجع لابن النفيس، وهو طبيب عربي من القرن الثالث عشر تضمنت مخطوطته وصفا دقيقا لأساسيات الدورة الدموية الصغرى، وأن الدم لا ينتقل من البطين الأيمن للأيسر عبر مسامات، بل في دورة طويلة في كل أجزاء الجسم ليعود مرة أخرى للقلب، وهذا سبق هارفي بأربعمئة عام.
في مستشفى “هيرفيلد” التابع لأكبر مركز لعلاج القلب والرئة في بريطانيا، يقول مؤسسه البروفيسور مجدي يعقوب أحد رواد اختصاص القلب في العالم: القلب أشبه بالعضو السحري في الجسم، وكلما تعرفت عليه أكثر زاد احترامي له، فهو ينبض بهدوء واستمرارية محافظا على حياتنا.
ولد ابن النفيس في سوريا، وكان متعدد العلوم والثقافات وعالما ورجل دين، ويُعد اكتشاف الدورة الدموية الصغرى أهم إنجازاته، ويرينا بروفيسور مجدي يعقوب عن طريق شرح عملي صدقية ما توصل إليه ابن النفيس.
- تفنيد نظرية غالينوس.. عبقرية العشريني الجريء
كانت الجدلية بكيفية انتقال الدم من البطين الأيمن للأيسر، وقد تبنى العالم رأي الطبيب اليوناني “غالينوس” القائل إن الدم ينتقل عن طريق مسامات دقيقة في الغشاء الفاصل، وقد جاء ابن النفيس مفندا ما توصل إليه “غالينوس”، وكان يتعين عليه تحديد مسار الدم من يمين القلب إلى يساره.
يقول ابن النفيس: قول من قال إن ذلك الموضع كثير التخلل باطل، والذي أوجب له ذلك ظنه أن الدم في البطين الأيسر إنما ينفذ إليه من البطين الأيمن، وذلك باطل.
يقول البروفيسور يعقوب “هذا الكلام لابن النفيس جريء ومذهل، خاصة أن يصدر من شخص لم يتجاوز عمره 29 عاما، ويضيف أن “غالينوس” ادعى بوجود مسامات في البطين الأيمن، وفي الحقيقة أنه مصمت وليس به أي مسامات، لذا كان ابن النفيس على صواب.
وقد ذكر ابن النفيس أن الدم يمر أولا عبر الرئتين ويخالط الهواء قبل عودته للقلب، ثم يضخ مرة أخرى للبدن، ويشرح البروفيسور يعقوب ذلك بأن الدم يمر من البطين الأيمن عبر الشريان الوريدي إلى الرئتين، ثم عبر الأوردة الرئوية يعود للبطين الأيسر، وهذه هي الدورة الدموية الصغرى.
لم يلق ذلك الوصف الجلي القبول ولا التقدير الذي يستحقه في ذلك الوقت، أما اليوم فيعدّ المرجعية التي بنى عليها الأطباء دراساتهم، ومن خلالها استطاعوا التحكم في القلب ووقفه وإعادة تشغيله، وذهبوا لأبعد من ذاك في مجال زراعة القلب وكيفية علاجه.
- ابن سينا.. ذروة المعرفة في علم الطب
شُيدت المستشفيات في القرنين الثامن والتاسع في بغداد والقاهرة ودمشق، وكانت أقرب إلى مأوى تُقدم فيه الخدمات الطبية، وأما الخدمات العلاجية فكانت ضعيفة، وكان لزاما على العاملين فيها اكتساب معارف العلوم والطب والجراحة.
وقد قام الفيلسوف والطبيب الرائد ابن سينا بذلك كله، وقد ألف كتاب “القانون في الطب” المكون من عدة مجلدات استندت على علوم علماء الإغريق وبحوثهم أمثال “أبقراط” و”غالينوس”.
ويحتوي المجلد الأول على وصف دقيق للغاية في تشريح الجسم البشري، ويُعد مرجعا مهما حتى يومنا هذا، ورغم أن ليس كل ما كتب ابن سينا كان صحيحا، إلا أنه وصل إلى ذروة المعرفة في عصره.
وقد أورد ابن سينا في كتابه عددا من العلاجات بالأعشاب الطبية المعروفة حتى يومنا هذا، وكان ذلك جل معرفتهم في ذاك الزمان.
- حدائق المستشفيات القديمة.. صيدليات الأعشاب الدوائية
ننتقل إلى مدينة عجلون الأردنية، حيث تقوم ريما حمزات بزراعة الأعشاب الدوائية المستخدمة، وتقول إن هناك عددا من الأعشاب التي تُزرع ولكل استخداماته، فمثلا الخزامى يساعد على الاسترخاء وهو مقاوم للبكتيريا، أما الشيح الورمي فيؤخذ لنزلات البرد، والمريمية مفيدة للمعدة والتقلصات.
كانت تزرع تلك الأعشاب في حدائق المستشفيات القديمة بغرض استخدامها، وكانت بمثابة الصيدلية، ويقوم الدكتور “ديتلف كوينترن” بزراعة تلك الأعشاب الطبية في حديقة “غولهام بارك” في مدينة إسطنبول، ويعمل على دراستها.
جرت زراعة 26 نوعا من الأعشاب والنباتات، واختيرت من بين مئات الأنواع التي ذكرها ابن سينا في كتابه الذي استغرق تأليفه ست سنوات.
يقول الدكتور “ديتليف” إنهم زرعوا حبة البركة المضادة للتسمم ولدغات الأفاعي، كما أنها تستخدم لحالات الروماتيزم، وقد انتشر كتاب ابن سينا في العالم بأسره.
- بحوث الجينات البشرية.. غوص في خلايا الكائنات الحية
في كلية “وايل كورنيل” في قطر يقوم المختصون بعمل بحوث جينية على الجين البشري وتفاصيله ومعرفة الأمراض الوراثية في المنطقة عموما وقطر على وجه الخصوص.
الجينوم هو الشيفرة الجينية المعقدة الموجودة داخل كل خلية في جسم الإنسان، وهو المسؤول عن صفاتنا الوراثية كالشكل والأمراض الوراثية المحتملة، ومن خلال ميكروسكوب مختص نستطيع النظر إلى أعماق الخلية.
يقول الدكتور خالد مشاقة: هذا البرنامج البحثي سيكشف لنا عن المشاكل الجينية في قطر التي تعاني فيها بعض العائلات فيه من أمراض وراثية، لذا قررنا متابعة جينية للعائلات الأصحاء والمرضى لمساعدتنا في تحديد جين هؤلاء المرضى، وهو ما يستوجب تحليل الجينوم للأفراد والبحث عن التباينات، لذا يستخدمون منظم حمض نووي متصل بجهاز كمبيوتر مركزي عملاق.
الكائنات الحية مؤلفة من خلايا وكل خلية لها نواة توجد داخلها المادة الجينية التي تحدد الصفات التي تعطي التفرد لكل إنسان، وهذه المادة الجينية شيفرة مؤلفة من ثلاثة مليارات عنصر مكون تسمى القواعد، وهي طويلة لدرجة يصعب تحليلها مرة واحدة، لذا تُجزأ لأقسام.
تقول الباحثة ياسمين علي: هناك ماكينات تقوم بعمليات تسمى “التسلسل القصري”، وما نقوم به هو تحديد المادة الجينية وتقطيعها إلى أجزاء أصغر، ثم تحميلها داخل الجهاز الذي سيقوم بترجمة تلك البيانات ثم تجميعها مرة أخرى.
- جهاز تحليل الجينيوم.. ضربة التكنولوجيا الكبرى
تطورت التكنولوجيا الجينية بشكل كبير، وقد جُهز مختبر كلية “وايل كورنيل” بأحدث الأجهزة لتتبع تحليل الحمض النووي، وهو الأول من نوعه في الشرق الأوسط، والجيل الثالث من تلك الأجهزة يقوم بتتبع وتحليل أجزاء أطول من الشيفرة الجينية، وبمقدوره أن يعطي نهاية المسار وسلسلة طويلة تصل لأربعين ألفا، ويزود الباحثين ببيانات جينية هيكلية أكثر على الكروموسوم.
يتتبع جهاز تحليل الجينوم أعدادا أكبر من الأفراد وهذا تطور هائل، وقد انطلق أول جهاز لتحليل الجينوم البشري عام ١٩٩٠ بعد أن استغرق صنعه عشر سنوات، أما اليوم فيمكننا تتبع تحليل الجينوم البشري في غضون ستة أيام إلى عشرة فقط.
لقد استندت هذه الجامعة إلى الروح العلمية المعرفية في العصر الذهبي للعلوم، فالعلم جسر للتواصل بين الأمم ووسيلة حسنة لجمع الأفراد من كل أنحاء العالم وخلق بيئة متعددة الثقافات.
وتعتبر مختبرات جامعة “وايل كورينل” الأكثر تطورا وتجهيزا، كما أنها نواة استقطبت ثلة من أنبغ العلماء والباحثين للتعاون فيما بينهم، تماما كما فعل السلف في عصر نهضة العلوم الإسلامية.
- صناعة الخط العربي.. فن التجريد الذي سُبق إليه بيكاسو
لقد تميز العصر الذهبي بسهولة إنتاج الكتب ونسخها، وقد تعلم المسلمون صناعة الورق من الصينيين، وهو أقل كلفة وأسهل وأقوى وأخف من المواد الأخرى التي كان يُكتب عليها كالجلد، فقد صنع الورق من طحن أوراق الشجر، وانتشرت صناعته في كل مدن الدولة الإسلامية، خاصة بغداد ودمشق وسمرقند وبخارى.
كما كان للخط العربي دوره العظيم في نسخ الكتب، وأصبح الطلب كبيرا على الخطاطين المسلمين، ويعد الخط العربي نوعا من الفنون، يقول بيكاسو: إن أقصى ما توصلتُ إليه في فن التجريد كان الخط العربي، فقد سبقوني إليه بقرون.
واستخدم الخطاطون أساليب أكثر بساطة في الخط كما أنهم طوروا وسائل حفظ الكتب وأصماغ لصق الكتب واستفادوا من كل تلك التقنيات في إنتاج كمية كبيرة من الكتب والمخطوطات فانتشرت العلوم الإسلامية حول العالم.