العلاقة بين “الأسلوبيات” و”البلاغة العربية” «بين القديم والحديث»
- الملخص:
مع ظهور مبحث الأسلوبيّـة على السّاحة النقديّــة، أثيرت أسئلة كثيرة حول علاقة هذا الوافد بالبلاغة العربيّــة. وتكاد الدراسات العربيّة تـجمع على وقوع الصلّة بين الأسلوبيـّة الحديثة والبلاغة القديـمة.
ونروم من خلال هذه المقالة إلى تتبع تلك الروابط التّي جـمعت بين البلاغة العربيّة والأسلوبيّات الغربيّة، حيث ظهرت تيارات عديدة إمّا مساندة، أو تلك الرافضة لـهذا القول، وأخرى موفّقة بين هذا وذاك.
- مقدمة:
حظيت الأسلوبيّات بعناية الدارسين العرب؛ فهي من الـمناهج النسقيّة التّي فرضت نفسها على السّاحة العربيّة، بفضل كوكبة من ناقدينا الـمرموقين الّذين انــفتحوا على الـمشهد النّقديّ الغربيّ، وأفادوا من مناهجه في الدراسة الأدبيّة، فعرف النّقد الأدبيّ في الوطن العربيّ تطورًا ملحوظًا على مستوى الكم والنوع، منذ منتصف القرن الـمنصرم.
مع ظهور مبحث الأسلوبيّـة على السّاحة النقديّــة، أثيرت أسئلة كثيرة حول علاقة هذا الوافد بالبلاغة العربيّــة، وتكاد الدراسات العربيّة تـجمع على وقوع الصلّــة بين الأسلوبيـّة الحديثة والبلاغة القديـمة، هذا الفن الضارب بـجذوره بعيدًا في الـمعرفة الإنسانيّة.
وهنا يشير مـحمد النّاصر العجمي في كتابه (النقد العربيّ الحديث ومدارس النقد الغربيّة) إلى أنّ الدارسين العرب لم يولوا هذا الـموضوع من العنايّة ما أولوه لـموضوع العلاقة بين اللّسانيات والأسلوبيّة، ماعدا “بعض الفصول القصيرة الـمفردة له في دراسات قليلة.
فإنّ غاية ما يطالعنا إشارات عابرة مبثوثة في مواطن متفرقة وواردة في معرض التعريف بالأسلوبيّة والخوض في مشكليّة تـحديد موقعها من صنوف الـمعرفة الأخرى المرتبطة على نـحو أو آخر بالأسلوبيّة.”(1) ويضيف أنّ الـمتفحص لطريق معالـجتهم لـموضوع تلك العلاقة بين العلمين يتبيّن من خلالـها أنّـهم “وقفوا على الكليات دون الـجزئيات، وألـحوا على الـمبادئ التأسيسيّة دون العوامل العارضة أو الفوارق الجزئيّة القائمة بين المبحثين.”(2).
والدارسين العرب كانوا في هذا الباب على عدّة اتـجاهات، فمنهم من نظر إلى الأسلوبيّة والبلاغة من خلال الفروقات التّي لـمحها فيها، ومن بين هؤلاء الناقد المغربيّ عبد السلام المسدي الّذي يرى أنّ من أغرب الروابط وأعجبها “هي التّي تقوم على يد بعضهم بين الأسلوبيـّة بالبلاغة ولاسيما في مـجال الممارسة الشارحة.
ويتعجب أكثر من أولئك الّذين كان لهم السبق في معالـجة النّصوص وتأكدّت قدرتـهم على النّهل من النظريات وقوي بصرهم على مدّ أنفاس البحث والاستقراء، لا يسلمون معنا أن الأسلوبيـّة ما لم تبتكر متصوراتـها النّظريـــّة ومقولاتـها التصنيفيــّة حتى تتميز كيفًا وحجمًا عن تقسيمات البلاغة وصورها فإنـّها تنتقض من حيث تريد أن تكون بديلا في عصر البدائل”(3)
حيث أنّه ” إذا أتاح للأسلوبيـّة والألسنيـّة أن تتواجدا، فإنّ الأسلوبيـّة والبلاغة كمتصورين فكريين فتمثلان شحنتـيـن متنافرتيـن متصادمتيـن لا يستقيم لهما تواجد آني في تفكير أصولي موحد”(4) فهو بـهذا ينفي أن تكون تلك العلاقة الحميميّة بين البلاغة والأسلوبيّة.
وذلك إذا ما تبيّنا مسلمات الباحثين والـمنظرين وجدناها تقرّر أنّ الأسلوبيـّة وليدة البلاغة ووريثها المباشر معنى ذلك أنّ هذه الأخيرة قد قامت بديلاً عن البلاغة، لكن الناقد يري بأنّه إذا مارجعنا إلى “الـمفهوم الأصولي للبديل –كما نعلم-أن يتولد عن واقع معطى وريث ينفي بـموجب حضوره ما كان قد تولد عنه، فالأسلوبيّة امتداد للبلاغة ونفي لـها في نفس الوقت، وهي لـها بـمثابة حبل التواصل، وخط القطيعة في نفس الوقت أيضًا.”(5).
غير أنّ يوسف وغليسي يرى أنّ “كل ذلك الكم من العناصر المفارقة إنـّما استطراد كان بالإمكان أن يـختزل إلى ما هو أبسط وأعم لأنّ كثيرًا من تلك العناصر يكرّر بعضها البعض فقوله مثلاً عن البلاغة أنّها علم معياري يغنيه –في تقديرنا- عن الإضافة أنها علم يرسم الأحكام التقييميّة ويرمي إلى خلق الإبداع بوصايا تقييميّة(6)
ومن هنا نستطيع القول أنّ البلاغة علم معياري؛ أي أنـّها تـخضع إلى قواعد وقوانين معينة على المتكلم أن يلتزم بـها، أمّا الأسلوبيــّة فــهي علم وصفي يـستقرئ الـظاهرة الإبداعيّـــة ضمن منهج يــتتبع الأحداث و الــظواهر الـمشتتة لتنتهي إلى خصائص مشتركة.
ويضيف عبد الـمطلب في هذا الصدّد قائلاً “فمن الـمؤكد أنـّه حدث تداخل بين اختصاصات البلاغة القديـمة والأسلوبيّة الحديثة، غير أنّ البلاغة لـم تعد قادرة على الاحتفاظ بكل حقوقها القديـمة، التّي كانت تناسب فترة معينة من ماضينا.
والتّي يـجب على الباحث في الأسلوبيّة أن يضعها في اعتباره، وأن يـحاول تعميقها على ضوء الـمناهج الـجديدة، وبـهذا يـمكن للنقد أن يتصل بالأسلوبيّة في مـحاولة الكشف عن الـمظاهر الـمتعددة للنّص الأدبيّ”.(7)
وعليه فالأسلوبيّــة في نظر هؤلاء “استفادت من البلاغة كثيرًا، بل إنّـها لم تنهض إلاّ على أكتاف البلاغة ولكنّها تقدّمت عليها في مجال علم اللغة”.(8) و يرى أصحاب هذا الرأي أيضا أنّ الباحث يـجد أنّ الدرس البلاغيّ العربيّ لم يكن إلاّ درسًا أسلوبيًا، وذلك بالنّظر إلى معظم التعريفات البلاغية عند العرب ومقارنتها بالتعريفات البلاغية للبلاغة القديـمة، أو أنّـها البديل و الوريث الوحيد لـها…”(9)
فغدا الكثير من النقاد يثبتون تلك الصلة القائمة بين البلاغة العربيـّة القديـمة والأسلوبيّة؛ فمنهم من قال أنّ البلاغة العربيّة يـمكن أن نطلق عليها كلمة الأسلوب أو هي بالأحرى علم الأسلوب، لـما لـها من صلة وثيقة بـمباحث هذا العلم.
وذلك راجع إلى “أنّ علم البلاغة يـميل في جـملته إلى الناحيـّة الشكليـّة أو الأسلوبيّة، فهو لن يعرض لقيمة الفكرة بل لـملاءمتها، ولا يـخلقها لكن ينسقه، وهو يعنى كثيرًا بالعبارات والأساليب”(10) وبـهذا تكون الأسلوبيّة هي الوريث الشرعي للبلاغة.
ومثل هذا الاتجاه شكري عياد الّذي يعتبر أنـّه لا يـمكن أن نعد علم الأسلوب غريبًا كل الغرابة عن الثقافة العربيّة؛ بل جذور الأسلوبيّة الحديثة تـمتد لتضرب في أعماق البلاغة القديمة. فالدّرس البلاغي القــديـم درس خصب، ساهم دون شك في وضع الـمبادئ الأساسيـّة لــعلم الأســلوب العربيّ.
إذ يقول في مقدمة كتابه (مدخل إلى علم الأسلوب) “ولكنّني إذ أقدم إليك هذا الكتاب لا أغريك ببضاعة جديدة مستوردة، فعلم الأسلوب ذو نسب عريق عندنا، لأنّ أصوله ترجع إلى علم البلاغة.”(11)
وهذا يوحي بأنّ مصطلح الأسلوبيّة ليس غريبًا على الثقافة العربيـّة، بل يـمكن أن نطلق مصطلح الأسلوبيّة على القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهو أقرب من مصطلح البلاغة وذلك للتشابه الشديد بين ما ورد في الأسلوبيـّة والبلاغة على حد سواء.
إذ لا ينحصر ضمن الثقافة الغربية وحدها، “فعند تتبع النّصوص التّي ترجع إلى القرنين الثالث والرابع يدل على أن مفهوم (الأسلوب) اقترب من الوضع الاصطلاحي ربـما أكثر من كلمة البلاغة نفسها، التّي ضلت مقصورة على وصف الكلام أو الـمتكلم ببلوغ الغاية في إصابــة الغرض”(12) مستشهدًا على ذلك بنصوص: ابن قتيبة والخطابي، الباقلاني، والقرطاجي وغيرهم.
وكشف لنا شكري عياد بعضًا من الفروق الـمهمة فيما يتعلق بأصول كل علم التّي يـجب على دارس علم الأسلوب أن يظل على ذكر منها:
1. علم البلاغة علم لغوي قديـم في حين أنّ الأسلوبيّة علم لغوي حديث، وقد أوجز في هذا الصدّد الفروق الجوهريــّة بين العلوم اللّغوية القديـمـة والحديثة، “فالعلوم اللّغويّة القديـمة تنظر الى اللّغة على أنّـها شيء ثابت، في حين أنّ العلوم اللّغويــّة الحديـثة تسجل ما طرأ عليها من تغير وتطور.”(13)
2. علم البلاغة علم معياري، أمّا الأسلوبيّة فعلم وصفي، ويفسر ذلك بقوله: “إن القوانين التّي يصل إليها علم البلاغة قوانين مطلقة، لا يلحقها التغيير من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة، أو شخص وشخص…”(14)
3. وفرق جوهري ثالث وهو نظرة كل منهما إلى الـموقف، فهذا الأخير في علم الأسلوب يقوم مقام مقتضى الحال في علم البلاغة، لكن الفرق يبرز في دلالة كل منهما وإن ترجم كليهما بظروف القول، إلاّ أنــّه “وُجِد الموقفُ عند الأسلوبين أشدَّ تعقيدًا منه عند البلاغيين”(15)
4. يرجع أساسًا إلى اتساع رقعة علم الأسلوب بالمقارنة بعلم البلاغة.
وفيما يتعلق بـهدف الأسلوبية والبلاغة، فقد قرره شكري عياد مشتركًا، إذ يسعى كلا العلمين إلى تقديـم “صورة شاملة لأنواع المفردات والتراكيب، وما يـختص به كل منهما من دلالات، وهذا نفسه هو ما يصفه علم البلاغة”(16).
فالـمباحث الأسلوبيـّة -حسب هذا الرأي- عُرّفَ بعضها في التراث البلاغي العربيّ تـحت اسم علم الـمعاني الّذي يعد فرعًا من فروع علوم البلاغة الثلاث: المعاني، البيان، البديع. وعليه “على الرغم من أنّ الأسلوبيّــة هو علم لغوي غربيّ نشأ من اللّسانيات الحديثة.
ولكنّ البلاغة العربيّــة – بعلومها الثلاثة – هي علم الأسلوب العربيّ، وما يتم اليوم تـحت ما يسمى الأسلوبيّـة ما هو إلاّ توزيع جديد لـمباحث البلاغة العربيّـة الـمختلفة، ويتمّ ذلك – في أغلب الأحيان− بـمصطلحات جديدة استبدلت بـمصطلحات قديـمة معروفــة.”(17)
وعليه فعلى الرغم من وجود اختلافات كثيرة بين العلمين إلاّ أنـّه لا يـمكن لنا أن ننكر وجود وجوه تلاقي بينهما، فكليهما يتعامل مع الـجانب الـجمالي للّغة، وعلاقة اللّغة الإبداعية بالـمبدع أولاً، ثـمّ بالـمتلقي ثانيًا. كما أنـّه لا يـمكن أن نعزل الأسلوب عن الموروث البلاغي القديـم.
وفي هذا الصدّد تـحدث الـهادي الطرابلسي عن علاقة الأسلوبيّة بالتراث في الندوة التّي نشرها في مـجلة فصول عن الأسلوبية وقد تساءل عن “انتشار الـحديث كثيرًا في هذا الوقت عن الأسلوبيّة وعلاقتها بالتراث العربيّ، وانتهى إلى أنّـه لدينا تراث بلاغي في علم البلاغة.
والقضايا الـمطروحة فيه بطرق متقاربة، تعتمد على أمثلة متنوعة، لكنّها متشابـهة، قليل منها طرح طرحا أسلوبيًا حديثًا. بيد أنّ ثـمّة قضايا نظر إليها من قبل على أنـّها تدخل ضمن علم البلاغة القديـمة، أرى أنّنا ينبغي أن ندرجها اليوم تـحت عنوان (الأسلوب والأسلوبيّة).
كما دلّت على ذلك دراسات كثيرة”(18) وعليه فعبد الهادي الطرابلسي يؤكّد في قوله هذا أن الكثير من القضايا البلاغيّة التّي تندرج تـحت لواء البلاغة العربيّة يـمكنها أن نطرحها اليوم بدون أي حرج تـحت عنوان الأسلوبيّة، وإن عولـجت قضايا بلاغيّة متعدّدة طرحًا أسلوبيًا؛ لكن هـمش الكثير من القضايا الأخرى.
وهذا ما أكّده مصطفى الـجويني إذ يرى هو الآخر أنّ البـلاغة القديـمة تشكل الـجذور الـمتينة لعلم الأسلوبيّة الـحديث، وهو لا يتصور الأسلوبيّة بـمعزل عن الأصل إذ “ليست الأسلوبيّة جديدة إلا باندماجها في إطار علمي خاص، فالكثير من أسسّها مركزة من عهود بعيدة، علاوة على أنّ أيــة نـزعة من نـزعات شرح النّصوص لـم تـخل – منذ القديـم – من اتـجاهات أسلوبيّة”(19)
وفي هذا كله هناك من ينفي جـمود البلاغة وقصورها عن معالـجة النّصوص، كما أنـّها ليست مـجرد نظريات وقوانين تطبيقية، بل هناك علاقــة تكامليّـة بين العلمين، ومن هذا الـمنظور يرى مـحمد عبدالـمطلب أنّ النظرة إلى البلاغة يـجب أن تكون نظرة عميقة ومتفحصة.
وذلك لأن النظرة العميقة للدرس البلاغي “تنم عن جهود البلاغيين في الكشف عن كثير من الأنـماط التعبيريــّة التّي كان تدقيقهم في وصفها وسيلة فعالة لإبراز طاقات أسلوبيّة تعمل على تأكيد أدبيّة الصياغــة، أو تأكيد شرعيتها”.(20)
ونـحن بدورنا لا نستطيع أن نعزل الأسلوب عن الموروث البلاغي القديـم، قد نـجد بعض الاختلاف، ولكنّنا مع ذلك نـجد كثيرًا من نقاط الالتقاء والاتفاق، لأنّ كليهما يبحث في الظواهر التعبيرية، وكلاهما يعتمد على النّص اللّغوي وعلى بنائــه الداخلي، وكلاهـما يؤمن بأنّ هناك طرقًا تعبيريّة متعدّدة للتعبير يلجأ إليها المتكلم في تعبيره عن الفكرة.
والـملاحظ في مساهـمة العرب القدامى في الكلام عن الأسلوب أنّ عبد القاهر الـجرجاني هو أوّل من استعمل هذه اللّفظة استعمالاً دقيقًا، دون أن يوليها اهتمام كبير، قال في تعريف الأسلوب: “واعلم أنّ الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتـمييزه أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبًا- والأسلوب ضرب من النّظم، والطريقة فيه- فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب.
فيجيء به في شعره…”(21) وبذلك يعد عبد القاهر الجرجاني رائد الأسلوبية العربيّة بإجماع الكثير من النقاد الّذين يرون أنّ هناك علاقة بين البلاغة والأسلوبيّة وكثيرًا ما يستشهدون على ذلك بـما قدّمه القاهر الـجرجاني في هذا الـميدان.
ولقد تبلورت فكرة الأسلوب عند القدامى في تعريفات الـجاحظ، وابن قتيبة، ثعلب، وابن المعتزّ، والآمدي، ابن خلدون، وغيرهم كثر، إذ ربط ابن قتيبة “بين الأسلوب وطرق أداء المعنى في نسق مـختلف بـحيث يكون لكل مقال، فطبيعة الـموضوع، ومقدرة الـمتكلم.
واختلاف الـموقف تؤثر في تعدد الأساليب…”(22) واتـجه الـجاحظ إلى مـحاولة تنظيرية مباشرة له استلهم فيها خلاصات جهود سابقيه من البلاغيين والنقاد العرب، كما تـحدث عن النظم بـمعنى حسن اختيار اللفظة الـمفردة اختيارًا موسيقيًا يقول على سلامة جرسها، واختيارًا معجميًا يقول على ألفتها، واختيارًا إحيائيًا يقوم على الظلال التّي يـمكن أن يتركها استعمال الكلمة في النّفس، وكذلك حسن التناسق بين الكلمات الـمتجاورة تآلفًا وتناسبًا.”(23)
ولكن حتى هؤلاء الدارسين العرب الّذين ما فتئوا يثبتون تلك الصلّة بين البلاغة العربيّة والأسلوبيّة الغربيّة، حتى يسارعوا إلى نفي التطابق والتنبيه وإلى وجوب عدم الخلط بينهما(24)، وعليه مع أن بعض البلاغيين يرون أنّ البلاغة هي أسلوبيّة القدماء.
يرفض الآخرون هذه المقولة على اعتبار أن البلاغة كانت جامدة إذ كانت تـهتم بالشروحات والتلخيصات فقد طرأ عليها كثير من الشطط في التبويب والتقعيد، وهم يرون في مصطلحات البلاغة ما يصلح للتأليف والخطاب، لا للجمال والتذوق.
وللّذين يستندون إلى قضية النظم عند عبدالقاهر كحجة لإثبات العلاقة بين البلاغة العربيّة والأسلوبيّة يرد أصحاب هذا الرأي بأنـّها وإن شكلت هذه النظريــّة خطوة جريئة نـحو كسر الجمود الّذي عانت منه البلاغة إلا أنّ هذه القضية لم تكن كاملة في معالـجة النّصوص بصورة كاملة.
بل تعد خطوة لغوية مغايرة لما كان معهودًا في الدراسات السابقة فقد رأى محمد عبدالمطلب “أن البلاغة العربية قد توقفت في دراستها عند حدود التعبير ووضع مسمياته وتصنيفاته ولم تـحاول الوصول إلى بـحث العمل الأدبيّ كاملاً.
مــؤكدًا أنّ ما جاء بــه عبدالــقاهر الـجرجاني فـي ( دلائــل الإعجاز) يعد بداية للتحرك نـحو نظرية لغويـّة في فهم النّص الأدبيّ، ينتهي بـها إلى نوع من التركيز على دراسة الأسلوب في ذاته من خلال مفهوم النّظم.”(25).
وهذه العلاقة التكاملية بين البلاغة والأسلوبيّة تؤكد أصالة التراث الأدبي العربي الّذي يشكل مادة أساسية لكثير من الدراسات النقديـّة الحديثة، إذ لا يـمكن أن نستغني عن تراثنا وجهود أدبائنا وتنبهر أبصارنا بأضواء النظريات الغربيـّة الحديثة.
فمجهود أدبائنا وعلمائنا مهما كانت متواضعة فإنـّها تشكل الخطوة الأولى والأساسية في الدرس البلاغي والنقدي الحديث “وتأسيسًا على ما سبق، فإن مصطلح الأسلوبيـّة لا يـمكن أن يؤخذ على أنـّه كشف جديد لشيء غير معروف أصلاً.
فلدينا من التراث النقدي والبلاغي ما يقترب من مفهوم الأسلوبيّة، أو يؤصل لها، وربـما تكون الاستفادة منه أكبر من الاستفادة مـمّا هو موجود في الأسلوبيّة، وكل ما يـحتاجه الدارس هو كيف يوظف التراث توظيفًا جديدًا، وفق المتغيرات التّي واكبت مـختلف مـجالات الـحياة.
ويستفيد من التجربتين، ولا يـجعل لأحدهـما سبقًا على الآخر، فالأمر لا يتعلق بـمصطلح جديد، أو البحث عن مسميات جديدة، وإنـّما بالفائدة التّي لا تلغي القديـم لقدمـه ولا تأخذ بالـجديد لـجدتــه”.(26)
لكن مازن الوعر يرى غير ذلك فيقول: “لقد غابت شـمس البلاغة المعياريّــة عن الثقافة الـجديدة، وإذا أردنا أن نكون دقيقين “علميًا” نستطيع القول بأنّ الثقافة النقديّة الأسلوبيّة الـجديدة قد بلعت البلاغة القديـمة في داخلها وتـجاوزتـها لتؤسّس على نتائجها علوم أخرى.
وإن كان من أثر لـهذا التفاعل والتراكم العلمي بين القديـم والحديث فإنّنا نراه يبعث أحيانًا ولأغراض علميّة في حقل اللّسانيات الـحديثة (Modern Linguistice )” (27)
وباختصار يـمكن القول إنّ الدراسات الأسلوبيّة الحديثة تلتقي في كثير من جوانبها مع الدرس البلاغي القديـم، ولا يـمكن للدارس فصل الدراسات الأسلوبيّة الحديثة عن الدراسات البلاغية القديـمة، صحيح توجد نقاط اتفاق ونقاط اختلاف.
ولكن في الـمـحصلة يـمكن التماس جوانب التأصيل في الدراسات البلاغيّة القديـمة أن تلتقي مع الدراسات الأسلوبيّة الحديثة، مـمّا يـجعلنا نذكر أن الدراسة الأسلوبيّة رغم عدّها منهجًا نقديًا لا يـمكن أن تنفصل عن الدراسات البلاغيّة القديـمة.
وأن دارس الأسلوبيّة لا يـمكن له أن يبدأ من نقطة الصفر وينطلق نـحو دراسات حديثة، دون أن يعتمد الأسس البلاغيّة في الـموروث القديـم، التّي تعد منطلقًا للدرس الأسلوبيّ الحديث. وهذا ما راح يثبته نقادنا العرب من خلال تطبيقاتـهم الـمتعدد في هذا المضمار.
- الهوامش:
(1) مـحمد الناصر العجمي: النقد العربيّ الحديث ومدارس النقد الغربيّة، دار محمد علي الحامي للنشر والتوزيع، صفاقس- سوسة-ط/1، سنة: 1998، ص:166.
(2) الــمرجع نفسه، ص:166.
(3) عبدالسلام المسدي: الأسلوبيّة والأسلوب، (طبعة منقحة ومشفوعة ببليوغرافيا الدراسات الأسلوبيّة والبنيويّة)، الدار العربية للكتاب، ط/3، سنة:1982، ص:6 –بتصرف-.
(4) عبدالسلام المسدي: الأسلوبيّة والأسلوب ، ص:52.
(5) الـمرجع نفسه، ص:52
(6) يوسف وغليسي: إشكاليّة المصطلح في الخطاب النقدي العربيّ الجديد، منشورات الاختلاف، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، ط/1، سنة: (1429ه/2008م)، ص:153.
(7) ينظر مـحمد عبدالـمطلب : البلاغة والأسلوب، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصريّة العالميّة للنشر –لونجمان- ط/1، سنة: 1994، ص: 354.
(8) عبدالسلام المسدي: الأسلوبيّة والأسلوب، ص:54.
(9) وليد إبراهيم القصاب: أثر المتلقي في التشكيل الأسلوبي “في البلاغة العربيّـة”، ندوة الدّراسات البلاغيّة –الواقع والمأمول – سنة: 1436، ص:.4.
(10) أحمد الشايب: الأسلوب (دراسة بلاغية وتحليلية لأصول الأساليب الأدبية)، مكتبة النهضة المصريّة، ط/8،سنة: (1411ه/1991م) ص:38.
(11) عياد، شكري: مدخل إلى علم الأسلوب، ص:7.
(12) ينظر شكري مـحمد عياد: اللّغة والإبداع، مبادئ علم الأسلوب العربي، انترناشيونال للطباعة والنشر، ط/1، سنة: 1988 ، ص: 15.
(13) شكري عياد: مدخل إلى علم الأسلوب، ص:44.
(14) المرجع نفسه، ص:45.
(15) نفسه، ص: 47.
(16) شكري عياد: مدخل إلى علم الأسلوب، ص:42.
(17) وليد ابراهيم القصاب: أثر المتلقي في التشكيل الاسلوبي في البلاغة العربية، ص: 643
(18) عبدالهادي الطرابلسي: الاسلوبيّة، مـجلة فصول، مج/5،ع/1، سنة: (أكتوبر- نوفمبر-ديسمبر) 1984، ص:214.
(19) مصطفى الصاوي الجويني: المعاني- علم الأسلوب-، ط/1، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، سنة:1996، ص: 242.
(20) محمد عبد المطلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة، ط/2، دار المعارف، سنة: 1995، ص: 2.
(21) عبدالقاهر الجرجاني: دلائل الاعجاز، قرأه وعلق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر، ط؟، س؟، نقلاً عن: يوسف أبو العدوس: الأسلوبيّة، دار المسيرة، ط/1، سنة: (1427هـ/2007)، ص: 411.
(22) يوسف أبو العدوس: الأسلوبيّة، ص: 411.
(23) يوسف أبو العدوس: الأسلوبيّة، ص: 411.
(24) مـحمد الناصر العجمي: النقد العربيّ الحديث ومدارس النقد الغربيّة، ص: ( 166، 167).
(25) ينظر مـحمد عبدالـمطلب : البلاغة والأسلوب، ص ص: (191/192).
(26) خليل عودة: المصطلح النقدي في الدراسات العربية المعاصرة بين الأصالة والتجديد، الأسلوبية “نموذجًا”، مجلة جامعة الخليل للبحوث، مج/1،ع/، سنة: 2003، ص: 62.
(27) مازن الوعر: نقد الأسلوب من علم البلاغة إلى علم الأسلوبيات، مجلة المعرفة، ع/348، سنة: 1سبتمبر1992، ص:106.
د. خديجة أسماء لرجاني – الجزائر.