
يُعدّ المنهج النقدي العربي القديم؛ من أوائل المحاولات الإنسانية في تحليل الخطاب الأدبي وتقويمه، وقد نشأ في بيئة ثقافية شفوية كان الشعر فيها ديوان العرب، ومصدر فخرهم وميدان تنافسهم.
لقد بدأ النقد العربي قبل أن يتأسس علميا أو يُدوَّن منهجيا، إذ ارتبط في بداياته بالسجال الشعري في أسواق العرب القديمة مثل سوق عكاظ، حيث كان يُطرح السؤال المحوري: «من أشعر الناس؟». هذا السؤال البسيط ظاهريا، كان في جوهره يحمل بذور التفكير النقدي، لأنه استدعى المقارنة، والمفاضلة، وتقدير القيمة الجمالية للنص الشعري.
- 1. البدايات الشفوية للنقد العربي:
في العصر الجاهلي، لم يكن النقد علما مستقلا، بل ممارسة ذوقية وانطباعية تحكمها الأعراف القبلية والذوق الجمعي. كان الفيصل في الحكم هو التأثير والمضمون قبل الشكل، وكان التقليد يُعدّ قيمة إيجابية، بينما يُنظر إلى التجديد باعتباره خروجا عن السائد. ونتيجة لغياب التدوين، انتقل النقد شفويا عبر الرواة، مما جعله عرضة للتحريف والانتحال والزيادة والنقص.
ومع ذلك، ظل لهذا النقد أثر واضح في صياغة الذائقة الشعرية وتثبيت مكانة النصوص الكبرى، مثل المعلقات التي تمثل ذروة النضج الفني في الشعر الجاهلي.
- 2. بداية التدوين النقدي: الأصمعي وابن سلام الجمحي:
ظهر النقد المدون لأول مرة مع الأصمعي (ت 216هـ) الذي جمع أشعار العرب في مؤلفه الشهير «الأصمعيات»، غير أن اهتمامه كان لغويا وتوثيقيا أكثر منه نقديا.
أما الانعطافة الحقيقية فجاءت مع ابن سلام الجمحي (ت 231هـ) في كتابه «طبقات فحول الشعراء»، إذ وضع ملامح أولية لمنهج نقدي يقوم على الموضوعية والمقارنة، مبتعدا عن الانطباعية والذوق الشخصي. وميّز بين الشعراء وفق معايير تتعلق بالجودة الفنية لا بالزمن أو الشهرة، لكنه استبعد الشعر العباسي بحجة دخول العناصر الأعجمية وتأثر العربية الفصحى بغيرها.
- 3. تطور المنهج النقدي مع ابن قتيبة والجاحظ:
جاء ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) ليقدّم تصنيفا دقيقا لطبيعة اللفظ والمعنى، فقسّمها إلى أربعة مستويات:
- جودة اللفظ والمعنى معا،
- جودة اللفظ دون المعنى،
- جودة المعنى دون اللفظ،
- رداءة اللفظ والمعنى معا.
هذا التقسيم مثّل محاولة مبكرة لتحديد معايير جمالية موضوعية للنص الشعري، بعيدا عن الأهواء والذوق الفردي. أما الجاحظ (ت 255هـ)، فقد نظر إلى اللغة بوصفها كائنا حيا يتطور بالاستعمال، وربط النقد بالثقافة والمعرفة والمجتمع.
إلا أن موسوعيته الواسعة جعلت اهتمامه بالنقد جزئيا وغير متفرغ، لكنه أرسى مفاهيم لغوية وفكرية أثّرت بعمق في تطور النقد العربي اللاحق.
- 4. نحو عقلنة النقد: ابن طباطبا وقدامة بن جعفر:
مع ابن طباطبا العلوي وقدامة بن جعفر، دخل المنطق والفلسفة اليونانية إلى بنية التفكير النقدي العربي. إذ بدأ النقاد في توظيف أدوات التحليل العقلي والمنطقي لتقويم النصوص، وهو ما جعل النقد أكثر دقة وموضوعية.
فقدامة بن جعفر في كتابه «نقد الشعر» حاول وضع مقاييس علمية تعتمد على الوزن والمعنى والبلاغة، مع اهتمام بالجانب الفني في بناء القصيدة، وليس بمضمونها فقط. وهنا بدأ النقد يتحول من الذوق الشخصي إلى التحليل النسقي.
- 5. عبد القاهر الجرجاني ومنعطف البلاغة النقدية:
جاء عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) في القرن الخامس الهجري، فكان قمة النضج في التفكير النقدي العربي. ففي كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وضع أسس ما يمكن تسميته بـ«المنهج العلمي للنقد العربي».
اعتبر الجرجاني أن جمال النص الأدبي يكمن في النظم، أي في العلاقة بين الألفاظ والمعاني ضمن السياق التركيبي. وبذلك نقل النقد من مستوى التحليل الموضوعي للنص إلى تحليل العلاقات الداخلية في اللغة ذاتها، وهو ما يشبه اليوم التحليل البنيوي أو اللساني الحديث.
- 6. مآلات المنهج النقدي العربي:
رغم ما قدمه الجرجاني من تأسيس فكري عميق، فإن النقد العربي القديم ظل في مجمله محكوما بالتاريخ والذوق والانطباع، ولم يتطور إلى علم مستقل له أدواته المنهجية الصارمة إلا في العصر الحديث.
ومع ذلك، تبقى تلك المراحل التأسيسية حجر الزاوية في تطور الفكر النقدي العربي، إذ أرست مبادئ المقارنة، والمعيار، والتحليل، والتقويم، وهي الأسس التي يبني عليها النقد الحديث اليوم.
- مصادر ومراجع مهمة ذات الصلة:
المؤلَّف / الكاتب | الرابط الرسمي / المصدر |
---|---|
دلائل الإعجاز – عبد القاهر الجرجاني | Archive.org — دلائل الإعجاز |
تحقيق دلائل الإعجاز نسخة مصوَّرة | Archive.org — تحقيق دلائل الإعجاز |
دلائل الإعجاز في علم المعاني | Archive.org — دلائل الإعجاز في علم المعاني |
أسرار البلاغة + دلائل الإعجاز | Archive.org — أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز |
عيون الأخبار – ابن قتيبة | Shamela — عيون الأخبار |
الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها – ابن قتيبة | Shamela — الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها |
غريب القرآن – ابن قتيبة | Shamela — غريب القرآن |