لسانيات

دو سوسير ومحيطُه الثقافي: جدلية الامتداد والقطيعة

للحديث عن المحيط الثقافي الذي بلور فيه سوسير نظريته اللغوية و لربط هذه النظرية بجدلية الامتداد و القطيعة ننطلق من مسلمتين أساسيتين:


– الفكر اللساني هو جزء من الفكر الإنساني العام، و بالتالي لا يمكن فهمه و ضبطه إلا بربطه بمجمل الحقول المعرفية، ومن هنا يغدو رصد تاريخ اللسانيات هو في جزء منه رصد لتاريخ الأفكار، و من هنا يغدو أيضا الوقوف عند النظرية اللغوية متعذرا بدون الوقوف عند المحيط الثقافي العام بأبعاده المتعددة بما في ذلك البعد السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و العلمي الذي أسهم في بلورته أي بعبارة أخرى البراديغم الثقافي.

– ليس هناك فواصل صارمة بين الحقول المعرفية، بل هناك علائق فيما بينها تمكنها من تبادل التأثير و التأثر. من هذا المنطلق نربط نظرية سوسير التي ظهرت في بداية القرن العشرين بالحركة الثقافية العامة التي سادت في القرن 19 باعتبارها حركة هيأت المناخ العلمي العام الذي سينتقل باللسانيات من براديغم إلى براديغم آخر و سيهيئ لسوسير،

بالتالي إحداث قطيعة ابستيمية مع نمط التصور اللغوي الذي كان سائدا في عصره. من هنا نلح على أنه لوضع نظرية سوسير في سياقها التاريخي و لتقديم صورة متكاملة عن محيطه الثقافي لابد من رصد الاتجاهات العامة في النصف الثاني من ق19 ليس فقط في حقل اللغة و إنما أيضا في حقل الفلسفة و علم النفس و علم الاجتماع والاقتصاد السياسي و التاريخ و السياسة و العلوم الطبيعية و الفيزيائية و غيرها من العلوم و التي كان لها تأثير على الباحثين في حقل اللسانيات.

إن اللسانيات في القرن التاسع عشر كانت منفتحة على جملة من التأثيرات من حقول معرفية متعددة وجدت صدى لها في التصورات اللغوية التي صيغت في تلك الفترة. يمكن أن نستدل على قولنا هذا بإنجاز كوفييرCuvier 1817 في علم التشريح المقارن الذي كان منطلقا لكريم Grimm و بوب Bopp و شليجل Schlegel لتقديم مجموعة من الاقتراحات التي تهم بنية اللغة و وسائل وصفها حيث انطلقوا من النظر إلى اللغة باعتبارها كائنا حيا.

نفس الأمر يمكن أن نقوله عن الداروينية التي أثرت في فكر شلايشر Schleicher و دفعته إلى تأسيس مبادئه النظرية بربطها بمبادئ التطور كما بسطها داروين في كتابه أصل الأنواع 1859. بالإضافة هذه التأثيرات، نجد التأثير الذي مارسته الجيولوجيا على الدرس اللغوي في تلك الفترة، و خير مثال على ذلك مبادئ الجيولوحيا لـليل Lyell سنة 1830 التي مكنت لسانيي القرن 19 من صوغ المبادئ المنهجية التي خولت لهم تفسير التغيرات اللغوية .

تشير هذه الأمثلة و غيرها إلى مدى تأثير إنجازات العلوم على الدرس اللغوي ليس فقط من حيث التصور و المنهج و النتائج، و إنما أيضا من حيث المفاهيم. إذا تجاوزنا العلوم الطبيعية و الجيولوجية نجد أن الدرس اللغوي قد تأثر أيضا بالعلوم الاجتماعية.

للتدليل على ذلك يقدم كونراد كورنرKonrad Koerner (1971 :4) أمثلة عديدة، فويتني مثلا حينما أكد على الطبيعة الاجتماعية للغة كان متأثرا بالعالم الاجتماعي سبنسر، و لا ننس أيضا التأثير الكبير للفلسفة، فأفكار هامبلدت اللغوية كانت امتدادا لآراء كانت و النسق الفلسفي لهيجل أثر في النظرية اللغوية لشلايشر، و من المرجح أيضا أن سوسير تأثر بموسوعة هيجل 1817،و خاصة فيما يتعلق بمسائل التعارض و الاختلافات و طبيعة اللغة.

بالإضافة إلى هذا هناك تأثير الفلسفة الوضعية و نذكر على الخصوص أوغست كونت Auguste Comte (1798 -1857) و كتابه دروس في الفلسفة الوضعية الذي أعيد طبعه خلال أكثر من خمسين سنة و كان له تأثير حاسم على تطور ليس فقط اللسانيات و إنما أيضا العلوم الإنسانية بوجه عام.

علم آخر شكل مكونا من البراديغم الثقافي للقرن 19 هو علم النفس،و هنا نذكر فيكتور إجر Victor Egger الذي نشر كتابه الموسوم ب” الكلام الداخلي “La parole intérieure سنة 1881 و هو محاولة في علم النفس الوصفي تستثمر العلاقة بين الفكر و اللغة و الظاهرة المرتبطة بالكلام غير المنطوق subvocalisation ، بعده ظهر كتاب مبادئ علم النفس لويليام جيمس William James سنة 1890 الذي كان له أيضا تأثير كبير على الحقل اللساني.

تأسيسا على ما سبق، سنحاول في هذه الورقة رصد المحيط الثقافي الذي طور فيه دو سوسير فكره و ذلك لتحقيق استراتيجية عامة تتلخص في ضبط الامتدادات و القطائع، مع التركيز على أن الإحاطة الكافية بفكر سوسير لا يجب أن تغفل الظروف الاقتصادية و السياسية التي هي الأخرى لها دورها في تفسير تشكل تصور دو سوسير بخصوص طبيعة اللغة.


  • 1- حياة سوسير :

إذا ألقينا نظرة على المحيط الثقافي لسوسير نلحظ أنه كان معاصرا لمجموعة من أعلام الفكر. عاصر سوسير لسانيين كبار من أمثال بهاس Boas (1858-1942) و أوطو جسبرسن Otto Jespersen( 1860-1943) و بول باسي Paul Passy (1859-1940) كما عاصر مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد Sigmund Freud(1858-1939) و عالم اجتماع دوركهايم Emile Durkhelm و الفيلسوف هنري برجسنHenri Bergson (1859-1941) و العديد ممن ساهموا في تقدم العلوم و المعرفة الإنسانية ،

و لا يمكن أن نقف على المحيط الثقافي لسوسير إذا نحن أغفلنا المفكرين الذين تتلمذ عليهم من أمثال كورتيوس Georg Curtius الذي درس على يديه النحو المقارِن و أوغست ليسكيان August Leskien الذي درس على يديه السلافية و الليتوانية و إرنست فندش Ernest Windisch الذي درس على يديه السلتية و هرمان أوسطوف Herman Osthoff الذي درسه السنسكريتية و ويليام براون William Braune الذي درسه تاريخ الألمانية، أضف إلى ذلك ما ورد عند هوكيت Hockett (هوكيت 1965 : 186) الذي أشار إلى احتكاكه حينما التحق بجامعة ليبزغ سنة 1876 بكارل فرنر و بروغمان و سيفرز Sievers و براون.

إذا انتقلنا من المحيط الثقافي العام لنتحدث عن الحياة الخاصة لسوسير نصادف ما قاله موريل ليما Mourelle-Lema الذي يتلخص في أنه ليس هناك الكثير مما يمكن قوله بهذا الخصوص، و هذا في حد ذاته يطرح مشكلا، كما أشار إلى ذلك مونين و خاصة إذا ما تم ربطه بالفهم الحقيقي لعمله.

إن حياة دو سوسير يمكن أن تفسر بعمق عمله ليس من حيث حوافزه التاريخية و الاجتماعية و الشخصية، بل أيضا من حيث دقته و معماريته. إن المصادر التي أرخت لمونجان فرديناند دو سوسير Mongin-Ferdinand De Saussure تذكر أنه ولد في 17 نونبر 1857 في جنيف بسويسرا، و هو من أسرة تميزت بنشاطها العلمي التحق بجامعة جنيف سنة 1875 في عمر 17 عاما لمتابعة الدراسة في العلوم الطبيعية، في هذه الفترة تحول إلى الاهتمام بالدراسات اللسانية بفضل أدولف بكتيت Adolph Pictet (1799- 1875) صاحب كتاب أصول الهندية الأوروبية Origines -européennes-

و قد اطلع دو سوسير على مجموعة من فصول هذا الكتاب فحرر مقاله الموسوم ب” النسق العام للغة ” الذي أطلع عليه بيكتت، غير أن هذا الأخير نبهه إلى طموحه الزائد فترك سوسير فكرة الانشغال بالنسق الكلي للغة و حاول دراسة اللغات الهندية الأوروبية. في خريف 1876 التحق بجامعة لبزغ لدراسة اللسانيات الهندية الأوروبية، و من ثمة أصبح عضوا في “جمعية اللسانيات بباريس” .

في سنة 1881 حصل على منصب أستاذ محاضر للقوطية و الألمانية القديمة و في 1891 عاد إلى جنيف ليُدَرس التاريخ المقارن للغات الهندية الأوروبية إلى غاية 1896 حيث يتوارى عن الأنظار و دخل في عزلة تامة و انقطع إنتاجه العلمي. أشار أنطوان مييه إلى أنه كان يعاني من عقدة نقص و فسر هذه العقدة بوسواس الكمال و اعتبر بنفنيست و دومورو أنه انهار أمام إحساسه بعدم فهم الناس له. أما كودل (1966 : 479)، فقد أشار إلى أن سوسير كان يكره تقديم محاضراته إذ أصيب بالاكتئاب و الحيرة و الإحساس بعدم الكفاية. يقول:

“حوالي نهاية 1906 تم تعيينه لتقديم محاضرة في اللسانيات العامة في جامعة جنيف
التي كان يدرس بها السنسكريتية و الفلولوجيا المقارنة لخمسة عشر عاما. أخبرني
صديق له أن هذا التعيين الجديد كان ببساطة يفزعه. لم يكن يحس بأنه في مستوى
المسؤولية و لم تكن لديه الرغبة في القضاء على هذه المشاكل بشكل نهائي. لكنه كان
يقوم بما كان يعتقد أنه واجبه.”

أشار بلومفيلد (1933) إلى أن سوسير كان هو الوحيد الذي يحاضر في اللسانيات العامة لأن الاهتمام الذي كان سائدا في تلك الفترة هو تاريخ اللغات و الأسر اللغوية و لم يكن هناك إلا اهتمام قليل بالمظاهر العامة للكلام البشري، و لعل هذا الأمر في اعتقادنا هو الذي جعله قلقا و في حيرة من أمره، فقد أشار سورن (2016) إلى أن هناك الكثير من الشهادات التي تؤكد بأن سوسير كان في حالة دائمة من عدم الثقة بالنفس و عدم الاطمئنان إلى الأفكار الجديدة التي اقترحها خلال المحاضرات، و قد يكون هذا هو السبب وراء عدم نشر سوسير لمحاضراته. يقول سورن (2016):

” إن كون سوسير لم يكتب بنفسه نص محاضراته مهم رغم أنه ينسى غالبا.
فبالي و سشهاي يعتذران بحرارة في تقديمهما للطبعة الأولى قائلين إنهما اجتهدا
لـ”بلوغ الفكر الذي هما فقط صدى له” و أن” [ال]أستاذ قد لا يكون مجيزا لنشر
هذه الصفحات”(11) .
غير أنه في الآن نفسه يشير إلى أن سوسير لم يكن دائما مترددا. بل على العكس حينما كان شابا كان مغرورا و سباقا على المستوى الثقافي.

بخصوص الإنتاجيات العلمية لسوسير، نسجل أنه شرع في كتابة المقالات منذ أن كان عمره سبعة عشرة سنة، و في سن الواحد و العشرين أي في سنة 1878 ألف كتابا من 326 صفحة بعنوان “أطروحة حول النسق البدائي للصوائت في اللغات الهندية الأوروبية”. يشير كورنرKoerner (1971) إلى أن سوسير سعى في أطروحته هاته إلى تقديم أساس لأصل الصوائت الهندية أوروبية مستعملا في ذلك مفهوم النسق system بمعنى دقيق لم يسبق إليه و اعتبر لراي Leray (1967 :33) أن سوسير أسس في هذه الأطروحة لنظرية الجذر التي شكلت منطلقا للدراسات في مورفولوجية اللغات الهندية الأوروبية،

و يشير سورن (2016) إلى أنه اقترح في هذه الأطروحة فرضية جريئة و ذكية حول أصل نسق الصوامت الهند-أوروبية التي أثبتها بشكل ملحوظ اللساني البولندي جرزي كوريلوفكس بعد حل شفرة الهيتيتية و اعتراف اللساني تشيكي بيدريش هروزن سنة 1915 بها بوصفها لغة هندية -أوروبية. هذا وحده كان كافيا لجعل يحظى بموقع بارز في تاريخ اللسانيات.

إن تركيز سوسير في هذه الأطروحة على العلاقات الداخلية المتحكمة في نسق اللغات الهندية- الأوروبية مكنه من تجاوز المنهج الذي كان سائدا في تلك الفترة و الذي – كما أشارت إلى ذلك عبلة شريفي (2011)- كان يعتمد بالأساس على الوصف الصوتي . بهذا يمكن القول إن سوسير قد أحدث قطيعة مع التصور السابق الذي كان يتبنى المقاربة التاريخية التجزيئية التي كانت تميز لسانيات عصره بانطلاقه من مجموعة من الفرضيات الجريئة. في الإطار يقول لبشاي (1970 :42)

” اكتشافات سوسير في الأطروحة ترتبط بتحليل لا نتردد اليوم في تسميته
ببنيوي. بأخذ النسق في شموليته بعين الاعتبار افترض عناصر ذات طابع مجرد
تحددت على أساس وظيفتها البنيوية عوض شكلها الصوتي.”
غير أن هذه القطيعة كانت تحمل في طياتها امتدادا لتصورات لاحقة هي التي جعلت كودال يعتبر أنه بمقارنة الأطروحة مع المحاضرات يمكن أن نذهب إلى الاعتقاد بأنه هناك تطور طبيعي خولت له العديد من الظروف أن يغير مسار دو سوسير من النحو المقارن إلى النظرية اللغوية.

و أيضا لتطورات سابقة جعلت كورنر (1971) يؤكد على أن سوسير لم يتحول عن اللسانيات التاريخية التقليدية و الدراسات المقارنة للهندية أوروبية، بل كان هناك تطور ثابت من اللسانيات الدياكرونية إلى المقاربة السنكرونية للغة. و قد دعم رأيه هذا بإشارة سوسير الذي اعتبر أنه ينبغي البدء اللسانيات التاريخية قبل دراسة اللسانيات السنكرونية. يقول:

“يجب أن نشير إلى أن سوسير لم يتحول عن اللسانيات التاريخية التقليدية والدراسات
المقارنة للهندية أوروبية ، بل كان هناك تطور ثابت من اللسانيات الدياكرونية إلى
المقاربة السنكرونية للغة.”

في سنة 1881 قدم دو سوسير رسالة لنيل الدكتوراه في جامعة ليبزغ بعنوان “استعمال الجر المطلق في اللغة السنسكريتية De l’ emploi du génitif absolu en sanscrit
لكن بعد هذه الإنجازات الرائدة التي أشار إليها سورن (2016)، كان هناك تدني مثير لحجم و طبيعة منشوراته. فإلى حدود وفاته في 1913 نشر عددا قليلا من المقالات القصيرة جدا في أغلبها، كلها حول جزئيات إيتيمولوجية أو جزئيات لهجية. أما بخصوص الأفكار المعروضة في المحاضرات فلم يسبق له أن نشر و لو كلمة رغم بلور هذه الأفكار منذ 1880 و ما بعدها.

2- إشكال التأثير الخارجي

2- 1 الطابع الاجتماعي للسان
تأثير دوركهايم على دو سوسير بدا واضحا في محاضراته و خاصة في مبادئ الوصف اللغوي، و هناك العديد من النصوص التي تبين هذا التأثير. منها قوله :
” إذا أردنا أن نبين أن القانون المقبول في عشيرة هو أمر نخضع له و ليس قاعدة
نقبلها برضا منا فاللسان هو الذي يقدم الدليل الأكثر وضوحا.”
هذا النص و غيره هو الذي جعل اللسانيين الذين أتوا بعد سوسير يعتبرون أن اللسانيات السوسيرية هي بالأساس اجتماعية من حيث طبيعتها و أن التنظير الدوركهايمي الاجتماعي هو المصدر الأساسي لفكر سوسير . هذا ما أشار إليه فندرييس Vendryes (1952) مثلا
بقوله:
“من خلال قراءة كتابه (أي المحاضرات) يتشكل لدينا انطباع قوي بكون اللسانيات
(السوسيرية)هي بالأساس اجتماعية”
و ما أشار إليه دينن (1967 : 192-5) بقوله:
“حينما نفحص بعض الإسهامات المميزة لسوسير في المقاربة البنيوية للغة يمكن أن
نقدر إلى أي حد تأثر بأفكار دوركهايم .”

قد يكون مرد هذا الانطباع تأكيد دو سوسير في تحديده للسان على أنه “مؤسسة اجتماعية” فسوسير يعتبر اللسان معطى اجتماعي مستقل عن الأفراد، و هو موجود بفعل تعاقد بين أفراد العشيرة اللغوية، فسوسير هنا يستخدم مفهوم “اجتماعي” بربطه بآلية التغير اللغوي يستخدم الأفراد اللسان كل يوم، و هذا يتضمن أنه معرض للتأثير المستمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى إحداث تغيرات لغوية.

إذا كان فندرييس قد أشار إلى أن سوسير كان متأثرا بنظرية دوركهايم في تأكيده على الطابع الاجتماعي للسان و تبعه في ذلك دينن و روبنسRobins (1967 : 200)، و غيرهم، فإن كورنر (1971) يتخذ منحى آخر باعتباره أن هذه الفكرة كانت من ضمن المعرفة المشتركة بين لسانيي عصره. للتدليل على ذلك يحيل على بلومفيلد (1914) حيث نقرأ في مقدمة كتابه قوله إن لغة الفرد :

” ليست من إبداعه و لكنها تتشكل من العادات التي يتبناها أثناء تواصله التعبيري مع
أفراد عشيرته.”

و في هذا إشارة إلى أن الفرد لا يمكن أن يستعمل اللسان إلا بالطريقة نفسها التي يًستعمل بها من قبل العشيرة اللغوية، أما بخصوص التغير اللغوي فبلومفيلد يعتبره :
“تغير غير واعي تدريجي “

من خلال هذه المقارنة ينتهي كورنر (1971) إلى خلاصة مفادها أنه بغض النظر عن المصطلحات السيكولوجية التي وظفها بلومفيلد(1914) للتعبير عن فكرته، يمكن أن نلاحظ أوجه الائتلاف بينه نصوص بلومفيلد المتأثر بعلم النفس عند فاندت Wundet و نصوص سوسير المتأثر بعلم الاجتماع الدوركهايمي.
يذهب كورنر أبعد من هذا في محاولته التأكيد على أن القول بالبعد الاجتماعي للسان لم يكن بتأثير من دوركهايم، و إنما التأثير كان من داخل الحقل اللساني و خاصة ويتني.

للتدليل على ذلك يرتكز على معطيين
1 – المعطى الأول يتمثل في إحالة دو سوسير في محاضراته على ويتنيWhitney في اعتباره اللسان مؤسسة اجتماعية. لقد أشار ويتني سنة (1867: 38) إلى أن اللسان ليستنتاجا فيزيائيا و إنما هو مؤسسة اجتماعية، فويتني يشير بوضوح إلى أن اللسان ليس ملكا فرديا و إنما هي ملكا جماعيا و هذا التعارض بين ما هو فردي و ما هو جماعي هو ما مكن سوسير من إقامة الثنائية لسان/ كلام.
2- المعطى الثاني يتمثل في الوقوف عند المسألة الاصطلاحية لإجراء مقارنة بين المصطلحات التي استعملها دوركهايم و تلك التي استعملها دو سوسير. فدوركهايم استعمل

مفهوم القيد الاجتماعي الذي بواسطته حدد المعطى الاجتماعي بالعكس من ذلك دو سوسير أشار في العديد من المواضع إلى الحرية الفردية في الكلام.
نعتبر أن دو سوسير رغم كونه ألح على الطابع الفردي في تحديده للكلام فإنه في الآن نفسه قد ألح على الطابع الاجتماعي في تحديده للسان، و بالتالي لا يمكن أن ننفي تأثره بدوركهايم خاصة و أنه قد تساءل عن هل يمكن إدراج اللسانيات في علم الاجتماع ما دام اللسان معطى اجتماعي.

إذا كنا نعتبر أن تأثر دو سوسير بويتني و دوركهايم يمثل للامتداد، فإن القطيعة التي أحدثها دو سوسير بخصوص هذه المسألة تتلخص في المنظور و طريقة التناول، ذلك أنه نظر للسان ليس في بعده الاجتماعي فحسب بل أيضا في بعده النسقي. يؤكد سوسير على الخاصية النسقية للسان محددا إياه باعتباره نسقا من العلامات الاعتباطية أو الاصطلاحية. علامات ترجع أصولها إلى التواضع و الاصطلاح. (1106). إنه شفرة (31-47-107)

إن نسقية اللسان في تصور دو سوسير تتزاوج مع بعد هام و محدد هو البعد السيميولوجي، فسوسير اعتبر اللسان معطى اجتماعي بسبب خاصيته السيميولوجية . يقول :
” وحده المعطى اللغوي هو الذي يخلق ما يوجد داخل النسق السيميولوجي.”
و هذا المنظور هو الذي جعل سوسير يقترح علما جديدا يدرس نسق القيم الاجتماعية الاعتباطية التابثة: أي العلاماتذ. هذا العلم هو الذي سماه السيميولوجيا.

  • 2- 2 – اعتباطية العلامة اللغوية:

لاحظ ويتني في دراسته لطبيعة اللسان أنه نسق من العلامات الاعتباطية، و قد أشار سوسير إلى أن ويتني يقيم ترابطا بين طبيعة اللسان باعتباره مؤسسة اجتماعية و الطابع الاعتباطي للعلامة اللغوية، و يعتبر أن المتحكم في هذا الترابط هو مفهوم المواضعة و الاصطلاح . لخص سوسير (1894 :13أ) ذلك بقوله::
” يكفي القول إن قوة العلامات هي في طبيعتها الاصطلاحية و طبيعتها الاعتباطية
و طبيعتها المستقلة عن الوقائع التي تشير إليها .”

و إذا كان القول باعتباطية العلامة يشكل امتدادا لما ورد عند ويتني، فإن دو سوسير قد تناوله من منظور أدق بحيث اعتبر أن هذه الاعتباطية هي السمة التي تميز اللسان عن باقي المؤسسات الاجتماعية، فقد اعتبر في العديد من المواضع في محاضراته (26 -143- 8) أن اللسان اصطلاح و هي فكرة كانت واردة عند ويتني الذي أشار إلى الطبيعة الاعتباطية للعلامة اللغوية، لكنه لم يشر إلى أن هذا هو ما يميزها عن باقي المؤسسات الاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك يقيم ويتني تمييزا بين العلامة و ما تدل عليه معتبرا أن الكلمات ما هي إلا علامات على الأفكار. نرى أن سوسير بدوره يقيم هذا التمايز غير أنه يختلف عن ويتني في كونه أقام هذا التمايز في إطار العلامة اللغوية بين الدال و المدلول و ليس بين العلامة اللغوية و ما تحيل عليه في العالم الخارجي، و هو بهذا يكون قد تجاوز الطرح الذي تبناه ويتني الذي أقام تقابلا بين العلامة و ما تحيل عليه، بينما دو سوسير حصر اهتمامه في طرفي العلامة أي الدال و المدلول و أخرج من دائرة اهتمامه المدلول عليه.

2- 3 – ثنائية لسان كلام

انبثق التمييز بين اللسان و الكلام من إشكالات لها علاقة بقضية آليات التغير اللغوي و أسبابه (شومسكي 1966 :x) بخصوص هذه ثنائية يعتبر كورنر (1971) أن تمييز سوسير بين اللسان و الكلام له أهمية بالغة في النظرية اللسانية، و قد فرضتها إشكالات لغوية و ليس تصورات خارجة عن طبيعة اللغة و تطورها. في هذا الإطار نشير إلى أن فكرة التغير اللغوي تعد امتداد لما نجده عند هرمان بول Herman Paul الذي ظهر له كتاب مشهور سنة 1880 بعنوان the History of Language Principles of ، الذي ميز فيه بين اللسان sprachusus و الكلام sprenchtätigkeit ، كما تعد أيضا امتدادا لما طرحه ويتني الذي اعتبر أن الإنسان يتوفر على ملكة الكلام التي هي من أهم خصائصه المميزة، أما بخصوص العلاقة بين الفرد و العشيرة اللغوية، فهو يرى أن كل تغيير في اللسان يكون مصدره الفرد، لكن تأثير الفرد يظل بلا فائدة ما لم تتبناه العشيرة اللغوية يقول ويتني

” الكلام و تغيرات الكلام هو شغل العشيرة لكن العشيرة لا يمكن أن تُفَعل إلا عبر
مبادرات الأفراد الأعضاء التي تتبعها أو ترفضها.”
بل أكثر من هذا نجد ويتني (ص91 ل ج ل) قد أشار إلى الطبيعة النسقية للسان في محاولته لجرد أصوات اللغة الإنجليزية. يقول:

” ليس هناك فوضى و لكن [هناك] نسق من التمفصلات مع شبكة من التعالقات القائمة
بينها في مختلف الاتجاهات”
و إذا كان كورنر (1971) يرجع ثنائية سوسير إلى هرمان بول فإن في حين أشار دروسزيوكي Doroszewki إلى أنه أخذ مفهوم الكلام من نظرية طارد Tarde (1843- 1904).

2- 4- مفهوم القيمة

إذا انطلقنا من التحديد الذي صاغه سوسير لمفهوم القيمة يظهر لنا أنه أخذه من الاقتصاد السياسي، فهو بعد أن أكد على أن اللسانيات، شأنها في ذلك شأن الاقتصاد السياسي، تتضمن مفهوم القيمة، اعتبر أنه في كلا المجالين يجب التعامل مع نسق التوازنات بين شيئين متقابلين. يقول سوسير (1916 :115)
” في أحدهما( الاقتصاد السياسي) بين العمل و الأجر و في الآخر (أي اللسانيات) بين
الدال و المدلول.”

في نفس الاتجاه ربط باريونت Pariente (1969) بين مفهوم القيمة الوارد عند دو سوسير و مفهوم ” قيمة المبادلات valeur d échange الوارد عند وارياس (1834-1910) في كتابه Eléments d économie politique.

نلاحظ أن مفهوم القيمة عند دو سوسير يشكل امتدادا لمفهوم القيمة الوارد في إطار الاقتصاد السياسي، غير أنه مع ذلك لا يمكن أن نقيم موازاة بينهما، لأن دو سوسير كما يشير إلى ذلك كورنر (1971) استعمله بشكل تقني و أوله بشكل خاص به.

فسوسير يلح على أنه في العلمين معا ينبغي التمييز بين المحور التزامني و المحور التعاقبي، إذ كما تميز النظرية الاقتصادية بين الاقتصاد التاريخي و الاقتصاد السياسي، تميز اللسانيات بين الاتجاه التزامني الذي يدرس النماذج اللغوية و الاتجاه التعاقبي الذي يدرس المراحل اللغوية و قد اهتم سوسير بهذا الأخير من منطلق أن المنظور تزامني هو الوحيد الذي يًمكن من اعتبار اللغة نسقا من القيم التي لا يحددها أي شيء خارج اللحظة الراهنة.

2 – 5- التقابل بين اللسانيات التاريخية و اللسانيات الوصفية

ننتقل إلى الحديث عن التقابل بين اللسانيات التاريخية و اللسانيات الوصفية. في هذا الإطار يشير دينن Dinneen (1967 :192) إلى أن سوسير طور مفهومه للسنكرونية بعدما تعرف على نظرية دوركهايم، مؤكدا على أنه لم يكن راضيا على اعتبار اللسانيين المعاصرين له بأن اللسانيات التاريخية هي وحدها اللسانيات العلمية. يقول:

“لم يكن يعرف كيف يمكن للدراسة التي لا تأخذ بعين الاعتبار التطور التاريخي للغة
أن تكون أكثر دقة حتى تعرف على عمل دوركهايم.”
يحاول كورنر أن يستدل على أن التقابل بين اللسانيات التاريخية و اللسانيات الوصفية كان كان معروفا في الستينات و الثمانينات من ق 19 ،غير أن سوسير قام بإبراز هذا التقابل بشكل واضح. يقول:
” رغم أنه لم ينشر أي شيء مرتبط باللسانيات العامة، فهناك ما يشير إلى أنه أقام هذا
التمييز في الثمانينات من ق19 أي قبل صدور كتاب دوركهايم les règles de la méthode sociologique سنة 1895.”

عموما، كان غرضنا من هذه الورقة إلقاء نظرة على المحيط الثقافي لسوسير و ربط الأفكار التي أتى بها بمجموع الأفكار التي كانت رائجة في عصره.و قد بدا لنا أن سوسور قد طور هذه الأفكار و أدرجها في قالب نسقي و في بناء نظري محكم في إطار جدلية الامتداد و القطيعة.

ربيعـة العربي

ربيـعة العربي: باحثة وأكاديمية مغربية، أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن زهر كلية الآداب و العلوم الإنسانية بمدينة أكاديـر. خبيرة في اللسانيات و العلوم الاجتماعية لدى منظمة الإيسيسكو، نائبة رئيس جمعية لسانيات النص و تحليل الخطاب، منسقة لفريق المعجم و الترجمة، كاتبة عامة لجمعية الباحثات بجنوب بالمغرب، عضو في مركز الأبحاث حول قضايا المرأة و الأسرة، عضو في مختبر المجتمع و اللغة و الخطاب، عضو هيئة تدريس ماستر لسانيات النص و تحليل الخطاب، مشرفة على منتدى فريق البحث الطلابي في اللسانيات، عضو في العديد من مجموعات البحث والجمعيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى