سلسلة: ظاهرة التصوُّف وتطورِها

عن تمرحل ظاهرة التصوف وتطورها – 5 –

 

  • التصوف في طورِه الفلسفي

الآن نمضي فى بحثنا قدماً، مخلفين التصوف فى طوره الزهدي السلوكي _كموقف سياسي اجتماعي_ وراءنا، مستقبلين التصوف فى طوره الجامع، السلوكي والنظري، وقد تضافرت العوامل والأسباب التي أتاحت له مثل هذا التطور فى مطلع القرن الثالث الهجري.

ونعني بالتصوف فى مرحلتِه السلوكية الفلسفية: أن في هذه المرحلة، قد أصبح شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي، وأنه قد أصبح له أسسه النظرية ومعجمه المفاهيمي الخاص، وحركته الخاصة المستقلة عن علم الكلام فى مرحلة سابقة، وكذلك عن الفلسفة في عصره.

ويجدر بنا _من وجهة نظري_ وقبل أن نرد حياض التصوف في مرحلته الثانية، أن نلم إلماماً سريعا بالعوامل والأسباب التي تضافرت وهيأت المناخ لمثل هذا التطور، وهذه العوامل والأسباب منها ما هو سياسي اجتماعي، ومنها ما هو فكري ثقافي، ونحن لا نضع حاجزا بين ما هو فكري وثقافي؛ وما هو اجتماعي وسياسي، إلا بغرض التيسير على القارئ، إذ لا حاجز حقيقي بينهما في الوقائع التاريخية.

أولا: العوامل السياسية والاجتماعية :

إندلعت الثورة فى خراسان للدعوة للرضى من آل محمد فى فرعه العباسي، بقيادة أبو مسلم الخرساني، وانخرطت فيها عناصر من كافة التوجهات والمشارب، علويون _نسبة للإمام علي بن أبي طالب _ عرب، فرس، جماهير الطبقات المهمشة، مستفيدة من العوار الذي شاب السياسية الأموية.
لذلك جاءت الدولة العباسية ببرنامج” ثوري” يناقض البرنامج الأموي فى عصبيته القومية العربية، فشرعت فى تقريب العناصر الفارسية، كما أقامت حكماً ثيوقراطياً (دينياً)، جامعاً للخليفة بين السلطتين الزمنية والروحية ، مستفيدة من انتساب مؤسسيها إلى سلالة النبي محمد صل الله عليه وآله وسلّم، وهذا ما نلمسه بوضوح فى خطبة أبو جعفر المنصور العباسي عندما خطب الناس، قائلاً “أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه، وحارسُه على مالِه، أعمل فيه بمشيئته، وأعطيه بإذنه”.

كما يتجلي هذا الأمر فى الألقاب التي اتخذها خلفاء بني العباس مثل المنصور، المهدي، الهادي، المأمون، ثم أضافوا لفظ الجلالة لألقابهم كالمعتز بالله والمقتدر بالله.. الخ.

بيد أن هذا التمظهر الروحي العلني، دفع خلفاء بني العباس للحياة حياة موازية خفية، حافلة بكافة مظاهر البذخ والإسراف فى الملذات، وأهمل الخلفاء فى نهاية العصر العباسي الأول والثاني شؤون الخلافة، فظهرت دول تتمتع بنوع من الحكم الذاتي الإقطاعي، مما أرهق خزانة الدولة وأثقل كاهل الرعية بالضرائب، فاندلعت الثورات فى أنحاء دار الخلافة، فكانت الثورة البابكية، وثورة الزنج، وثورة القرامطة التي امتدت خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وكانت لهذه الثورات بلا شك منطلقاتها الفكرية والاجتماعية المضادة، للصيغة الفكرية التي تتبناها الدولة.

ثانيا : العوامل الفكرية والثقافية:

نودُّ هنا التأكيد على فكرة، أن التلاقح الثقافي بين أمة من الأمم؛ سواء كان داخل سياقها ومسيرتها الحضارية، أو خارجاً عن هذا السياق الحضاري _التاريخي، مع غيرها من الأمم، لا يتم بناء على إرادة ذاتية أو شخصية، وكذلك لا يتم بمكرمة، أو تحت رعاية، تلك العبارة المقيتة، التي نتمنى التخلص منها _أي تحت رعاية _ هذا الخليفة أو ذاك، وإنما هي ضرورة، يفرضها واقع متغير، وحاجات اجتماعية لا تقبل التأجيل، لذلك لا يمكن لعقلنا أن يتقبل فكرة أن حركة الترجمة بدأت برؤية رأى فيها الخليفة المأمون أرسطو طاليس مثلاً، كما أننا سنرى بعد أسطر قليلة أن حركة الترجمة؛ سبقت المأمون ورؤياه العجيبة! ، لأننا فى واقع الأمر، مللنا السذاجة والاختزال والاجتزاء المخجل، الذي يخدم غايات ضيقة فضلاً عن كونها مريبة.

كان للقومية الفارسية الدور الأبرز في قيام دولة العباسيين، فكان من البديهي أن تسبح هذه القومية المحملة بتراث فكري ونظري وأدبي وفلسفي عريق، فى فضاء أكثر رحابة، مقارنة بما كان عليه الحال في ظل السياسة الأموية المنحازة للعناصر العربية.

ومن الشائع أن العلاقة بين القوميتين العربية والفارسية، كانت علاقة شد وجذب وتنافس فيما يشار إليه تاريخياً “بالشعوبية”، لكن هذه بالطبع صورة مجتزأة، فالعلاقة بين الثقافتين كانت لها وجه تعايشي تمثل في حركة الترجمة من الفارسية إلى العربية، فقد ترجم كتاب “آفستا” الزردشتي فى عصر المنصور أبو جعفر؛ ثاني خلفاء البيت العباسي.

هذا التعايش الثقافي، تجلى فى العلاقة بين بغداد عاصمة الدنيا آنذاك ممثلة للثقافة العربية ومدرسة “جندياسبور” ممثلة للثقافة الفارسية، تلك المدرسة التي شكلت جسراً للثقافة العربية إلى الثقافة اليونانية، إذ كانت الصلات بينها وبين الثقافة اليونانية وفلسفاتها، قد انعقدت منذ أمد. وفى عهد المأمون، أخذت هذه العلاقة فى التمثل والانصهار، لتشمل قطاعات عديدة من قطاعات المعرفة البشرية فى شتى أنواع العلوم من خلال الانفتاح على الثقافة الأثينية والسكندرية والهندية وغيرها من الثقافات.

كان هذا عرضاً للمناخ العام”السياثقافي” لجملة الأسباب والمقدمات التي أسهمت فى تبلور وتطور التصوف من مرحلته الزهدية الجنينة إلى مرحلته النظرية الفلسفية.

والله أعلم.

 

وائل سالم

وائل جمال سالم: شاعر و باحث وكاتب مصري، حاصل على الإجازة في الحقوق من جامعة القاهرة، متخصص في النقد الأدبي. مُهتم بالتاريخ والفلسفة وفلسفة ما بعد الحداثة، خاصة الفلسفات الهامشية.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى