البحث العلميتربية وتعليم

المجلة الأكاديمية العربية

صار من القضايا التي تنشغل بها الكليات والجامعات العربية هاجس تصنيفها في سلم الجامعات العالمية. لا شك في أن المعايير المعتمدة نسبية، ولا تدل دلالة حقيقة على واقع هذه الكلية أو تلك الجامعة، خصوصا في ما يتصل بالجامعات العربية، لأن أغلب المعايير العالمية تنبني، خاصة بالنظر إلى تصنيف جامعة جايو تونج شانغهاي، على واقع مختلف.


فالحصول على جائزة نوبل، أو جوانز فيلد للرياضيات، لا يتيسر للباحثين العرب، كما أن النشر في أفضل المجلات العلمية العالمية غير متاح لأغلب من يعيش في بلد عربي. ويمكن قول الشيء نفسه عن التصنيف الذي يعتمد نوعية المواقع الجامعية الإلكترونية وغيرها. فقد تكثر المختبرات والمراكز، وعدد الطلاب، وتتوفر البنيات المختلفة، ولكن المخرجات الإنتاجية العلمية، هزيلة.


يمكن في تقديري اعتماد واقع المجلة الأكاديمية، التي تصدر عن كلية أو جامعة معيارا مناسبا للدلالة على واقع الجامعة ومستوى مكانتها العلمية على المستوى القطري والعربي. فهي المنبر الذي يسهم في التعريف بالانشغالات البحثية التي تهم الأساتذة والطلبة الباحثين، ويعكس نوعية وجدية البحوث التي تقدم في مختلف الحقول والمجالات، التي تضمها الجامعة. كما أنها النافذة التي يمكن أن يبرز لنا من خلالها الأثر الذي تحدثه تلك المجلة، ليس فقط في الحياة الجامعية، ولكن في المجتمع أيضا.

عندما نتأمل واقع المجلات الأكاديمية التي تصدر عن أغلب الكليات العربية، نجدها تقدم لنا صورة دقيقة وأمينة عن حقيقة الجامعة العربية، وتخلفها عن الدور الريادي الذي يمكن أن تضطلع به على مستوى البحث العلمي، أو الثقافي، لذلك أعتبر الانشغال بالتصنيف الدولي للجامعات لدى المسؤولين العرب لا يتوافق والواقع العملي الذي نعيش فيه.


إنه ليس أكثر من هروب إلى الأمام كما نفعل في مختلف القطاعات والمجالات. صحيح قد يكون هذا الانشغال حافزا للتجديد والتطوير، متى انبنى على وعي حقيقي بأهمية البحث العلمي في الحياة العربية، والعمل الجاد على تغيير الذهنيات، والارتقاء بالجامعة إلى الاضطلاع بدورها الحقيقي في المجتمع، لكن الواقع يثبت لنا العكس تماما.


إننا نبذل قصارى جهودنا لتجميل بيوتنا لجلب ثناء الآخرين عليها، لكننا لا نبذل أي جهد لتحسين سلوكنا من أجل تحقيق تفاعل إيجابي معهم؟

المجلة الأكاديمية العربية ضخمة الحجم، وغير منتظمة الصدور. ذات إخراج رديء، وتوزيع سيئ، ومرجوعاتها لا تحصى. أما موادها فغير ذات قيمة معرفية وعلمية.

يمكنني اختزال واقع المجلة الأكاديمية العربية بصورة عامة، لأن هناك استثناءات قليلة جدا، في بضع كلمات يقبل أي منها أن يتحول إلى موضوع يكشف واقعها الحقيقي. إنها ضخمة الحجم، وغير منتظمة الصدور. ذات إخراج رديء، وتوزيع سيئ، ومرجوعاتها لا تحصى. أما موادها فغير ذات قيمة معرفية وعلمية.


لا يساهم فيها أغلب الأساتذة الجادين، ولا يستفيد منها الطلبة، كما أنها نادرا ما ترد في مراجع بحوث الدارسين. وكل هذه الإشارات، وغيرها، دالة على أنها لا تعكس، أحيانا واقع الكليات أو الجامعات التي قد تكون سمعتها أحسن من مجلتها، أو منشوراتها.


إن عدم إيلاء المجلة الأكاديمية العربية الأهمية التي تستحق، تعبير عن الواقع الحقيقي للجامعة. فالصلات بين مكوناتها منعدمة، وكذلك بين الباحثين والمشتغلين فيها. فالندوات والمؤتمرات التي تعقد داخل الكليات المختلفة تنظم بمعزل عما يجري داخلها، وحتى بدون مساهمة من أعضائها.


نستنتج من ذلك غياب التواصل والتفاعل بين مختلف مكونات الجامعة، ولا يعني ذلك سوى غياب تصور تتميز بها جامعة عن غيرها من الجامعات داخل القطر نفسه. ويدفعنا هذا إلى طرح السؤال عما يميز مجلة أكاديمية، من كلية الآداب مثلا، في قطر عربي عن غيرها من المجلات التي تصدرها كلية أخرى من الاختصاص نفسه؟ إنها جميعا تلفيق وجمع لمواد متفرقة لتشكيل العدد. فكيف لمجلة لا تجسد تصورا معينا، ولا تقدم معرفة علمية خاصة، أو تطور أسئلة محددة في مجال اختصاصي أن تكون مثار الاهتمام والمتابعة؟


عندما لا تتأسس المجلة الأكاديمية على تصور معين، ولا على رؤية دقيقة، ولا تتشكل من لجنة علمية وإدارية ذات مشروع علمي وثقافي مضبوط تتميز به الكلية أو الجامعة، تتساوى مع غيرها من المجلات المشابهة، ولا يكون لها موقع مميز أو خاص ضمن خريطة الدراسات التي تهتم بها.


وحين باتت هذه المجلات منبرا للترقية بدعوى أنها محكمة، أصبحت صندوق بريد لنشر كل ما يصلها من مواد يستعجل أصحابها نشرها للترقي بدون أن يكون ثمة رابط بينها. وحين تتدخل عوامل كثيرة في نشر ما يصل إليها تصبح غير ذات قيمة.


حين لا يكون للمجلة الأكاديمية تصور محدد، ولا تكون ذات مشروع معين تعمل على تطويره من خلال ما ينشر فيها من مواد، ولا تكون رائدة وطليعية في توجيه دفة البحث نحو أفق مستقبلي لا يمكنها أن تضطلع بدورها في الحياة الأكاديمية أو الاجتماعية.


ولذلك حين نقارنها بغيرها من المجلات التي قد تصدر في القطر نفسه، نجدها متخلفة عنها، وغير مثيرة للاهتمام والمتابعة. إن صورة هذه المجلة تعكس فعلا الواقع الحقيقي للجامعة، لأنها الرصيد المادي الذي يبقى مع الزمن، وهو الدال على تدني مستواها علميا واجتماعيا.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى