البحث العلميتربية وتعليم

هجرة العقول النابغة وآثارُها الاقتصادية

  • الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تحصل على 75 % من المهاجرين العرب
  • 200مليار دولار خسائر عربية بسبب هجرة العقول إلى الخارج
  • 100ألف من العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء يهاجرون سنويا من 8 دول عربية
  • مطالب بوضع استراتيجية عربية متكاملة للتصدي لمشكلة هجرة الكفاءات
  • التعاون مع المنظمات الدولية لإقامة مشروعات ومراكز علمية في البلدان العربية
  • 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية عرب
  • 50% من الأطباء و23 % من المهندسين و15 % من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا

«اصطياد العقول»… سياسة الدول المتقدمة لسرقة الأدمغة العربية، خاصة الولايات المتحدة الأميركية… وخسائر عربية جراء هجرة العقول للخارج، بسبب عوامل سياسية واقصادية، لتظل الفجوة بين الشمال والجنوب.


وشهدت الدول العربية حالة من استنزاف المواهب في كافة المجالات، خاصة المجالات الحيوية كالطب والطاقة النووية والاقتصادـ في الوقت الذي تحملت فيه ضخ استثمارات في تعليم هولاء المواهب.


  • فوائد ومخاطر

يكشف تقرير صادر عن البنك الدولي أن الهجرة العالمية انتشلت الملايين من الناس من براثن الفقر وعززت النمو الاقتصادي، غير أن بلدان المقصد تخاطر بفقدان قدرتها على المنافسة عالميا على المواهب، وترك فجوات كبيرة في أسواق العمل بعدم تنفيذ سياسات تتعامل مع قوى سوق العمل وعدم إدارة التوترات الاقتصادية قصيرة المدى.


ويرصد التقرير الذي يحمل عنوان «الانتقال من أجل الرخاء: الهجرة العالمية والعمل» أسباب الهجرة، فيشير إلى أن الفوارق الكبيرة والمستمرة في الأجور في جميع أنحاء العالم تمثل الدافع الرئيسي للهجرة الاقتصادية من البلدان منخفضة الدخل إلى البلدان مرتفعة الدخل.


مشيرا إلى أن كثيرا من المهاجرين تمكنوا من مضاعفة أجورهم ثلاث مرات عندما ينتقلون إلى بلد جديد، مما يساعد ملايين المهاجرين وأقاربهم في بلدانهم الأصلية على الإفلات من براثن الفقر.


وغالبا ما تستفيد بلدان المقصد، حيث يقوم المهاجرون بأدوار مهمة، من تطوير أحدث التكنولوجيات في وادي السيليكون إلى بناء ناطحات السحاب في الشرق الأوسط.


وﺗﺗرﮐز ﺗدﻓﻘﺎت اﻟﮭﺟرة ﺑدرﺟﺔ ﮐﺑﯾرة حسب المكان والمهنة. ففي الوقت الحالي، تجذب أكبر 10 بلدان مقصد 60 في المائة من نحو 250 مليون مهاجر على الصعيد العالمي. ويعيش في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ثلثا المهاجرين ممن حصلوا على التعليم الجامعي.


وفي أعلى قمة المواهب، توجد في الولايات المتحدة نسبة مذهلة تبلغ 85 في المائة من جميع الفائزين بجائزة نوبل للعلوم.


  • تجريف العقل العربي

وتعاني الدول العربية أزمة معرفية تجسّدت في نزيف هجرة كفاءاتها وأدمغتها نحو الغرب. أظهرت بعض الدراسات التي قامت بها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونيسكو والبنك الدولي أن العالم العربي يساهم في ثُلث هِجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن 50 في المائة من الأطباء، و23 في المائة من المُهندسين، و15 في المائة من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المُتحِدة وكندا، مما يفرز تبعات سلبية على مستقبل التنمية العربية، ويعد من بين أكبر عمليات تجريف العقول في العالم.


وتشير الإحصاءات إلى أن ثلاث دول غربية غنية وهي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تصطاد 75 في المائة من المهاجرين العرب، بل أكثر من ذلك قامت بعض الدول الغربية بمنح جنسياتها للعقول العربية المهاجرة كي تنسب إبداعاتها لها بالكامل. حيث يهاجر سنويا 100 ألف من العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر.


وتعتبر منظمة اليونيسكو، أن هجرة العقول، نوع سلبي من أنواع التبادل العلمي بين الدول، يتسم بالتدفق في اتجاه واحد صوب الدول المتقدمة، لأن في هجرة العقول نقلا مباشرا لأحد أهم عناصر الإنتاج، وهو العنصر البشري.


  • 30 مليون مهاجر

أورد تقرير أخير للبنك الدولي، أن عدد المهاجرين في العالم العربي بلغ حتى عام 2013 قرابة 30 مليون مهاجر، وهناك ازدياد طفيف في هذا العدد، سواء باتجاه دول الخليج أو أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا، حيث يهاجر منهم 31.5 في المائة لدول الخليج، فيما يهاجر 23 في المائة للغرب بسبب قيود السفر والهجرة الحالية للغرب، والباقي لدول أخرى مختلفة آسيوية وأفريقية ولاتينية.


وأوضح التقرير أن ما يقارب 20 مليون مهاجر من الشرق الأوسط يعيشون حول العالم، أي إن 5 في المائة من مجموع سكان العالم العربي قد هاجروا من الشرق الأوسط، أغلبهم من مصر والمغرب، الدولتين اللتين يهاجر منهما أكبر عدد من المواطنين إلى دول أُخرى حول العالم، وتليهما الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالعراق، والجزائر، واليمن، وسوريا، والأردن ولبنان.


وبحسب تقرير البنك الدولي والجامعة العربية، ينتقل ما يقارب 40 في المائة من مهاجري الشرق الأوسط إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ويهاجر 23 في المائة منهم إلى دول متقدمة أُخرى، و31.5 في المائة يهاجرون إلى دول داخل الشرق الأوسط، و1 في المائة فقط من المهاجرين ينتقلون إلى دول نامية أُخرى في العالم.


وأن 54 في المائة من الطلاب العرب، الذين يدرسون في الخارج، لا يعودون إلى بلدانهم، ويُشكِل الأطباء العرب في بريطانيا 34 في المائة من مجموع الأطباء فيها.


  • تونس وسوريا ومصر

وتحتل تونس المرتبة الثانية عربيا على مستوى هجرة الكفاءات، بعد سوريا التي تأتي في المرتبة الأولى وفق تقرير عربي صادر عام 2009. مع وجود ما لا يقل عن 8233 تونسية وتونسيا من مهندسين وجامعيين وأطباء ومحامين وباحثين في الخارج.


وتأتي مصر في مقدمة الدول المصدرة للعقول إلى الخارج، خاصة كندا والولايات المتحدة وألمانيا، وطبقا لبيانات اتحاد المصريين بالخارج، فإن تعداد علماء وأكاديميي مصر المقيمين بالخارج، يبلغ نحو 86 ألف عالم وأكاديمي، منهم 1883 في تخصصات نووية نادرة، كما يضمون 42 رئيس جامعة حول العالم. وتشير خريطة العلماء المصريين في مجال الطاقة الذرية، إلى وجود 180 عالما مصريا في المجال النووي، يعيشون خارج مصر.


وفي سياق متصل، بلغت الأدمغة الجزائرية المهاجرة في العالم بين 1996 و2012، نصف مليون شخص 90 في المائة منهم في فرسا والباقي بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، حسب تقرير الأمم المتحدة.


وأصدرت الجامعة العربية عشرات التقارير التي حذرت فيها من أن العالم العربي يعاني من فقر علمي وخسارة 200 مليار دولار بسبب هجرة الكفاءات العلمية والعقول العربية إلى الدول الأجنبية، ودعت للسعي لاستعادة هذه العقول، خصوصا في ضوء التفوق التكنولوجي لدولة الكيان الصهيوني وتحول الصراع العربي الإسرائيلي تدريجيا إلى صراع تفوق تكنولوجي.


  • براءات الاختراع

وتشير التقارير إلى انخفاض نصيب الدول العربية من براءات الاختراعات التكنولوجية على مستوى العالم، فيما بلغ نصيب أوروبا من هذه البراءات 47.4 وأميركا الشمالية 33.4 في المائة واليابان والدول الصناعية الجديدة 16.6 في المائة.


وعندما أجرت اليونيسكو إحصاء للأربعين دولة الأكثر تقدما في العالم في التعليم الأساسي لم يكن من بين هذه الدول دولة عربية واحدة إلا الكويت، وجاء ضمن هذه الأربعين دولة كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وأوروبا كلها والولايات المتحدة الأميركية.


  • أسباب الهجرة

تعود هجرة الأدمغة العربية إلى عدة أسباب، منها أسباب سياسية متعلقة بغياب الاستقرار والصراعات الدامية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى عدم تهيئة بيئة مناسبة تشجع على النجاح في الداخل. فضلا عن عدم وجود ملاذ آمن يحمي هذه الكفاءات من العنف واستهداف حرية الإبداع، بعدما أصبحت حياة كثير من هؤلاء معرضة للخطر، سواء بسبب آرائهم أو معتقداتهم السياسية، أو بسبب حالات الفوضى الأمنية.


وتلخص تقارير الجامعة العربية واليونيسكو الأسباب والدوافع الأساسية لهجرة العقول العربية، في عجز الدول العربية والنامية، على استيعاب أصحاب الكفاءات، الذين يجدون أنفسهم عاطلين عن العمل، إضافة إلى ضعف الدخل المادي المخصص لهم، وفقدان الارتباط بين أنظمة التعليم ومشاريع التنمية والتطوير.


وفي الوقت الذي تقدم فيه الدول المتقدمة تسهيلات للكفاءات المهاجرة من الشباب العربي، ما يحفزها على الاستقرار بالدول المستضيفة، فضلا عن الاندماج بالمجتمعات الغربية وما يفرزه من حلقات تواصل كالزواج والاستقرار الاجتماعي، في الوقت الذي تعاني فيه مجتمعاتهم الأصلية من سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنموية ونقص الإمكانيات كحال أغلب بلدان العالم النامي.


ومن ناحية أخرى، يشير بحث حمل عنوان «التدفقات العالمية للمواهب» صادر عن البنك الدولي إلى أن نحو 28 مليون مهاجر من أصحاب المهارات العالية يقيمون في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 2010. أي بزيادة قدرها نحو 130 في المائة منذ عام 1990. وهناك أربعة بلدان فقط منها هي وجهة ما يقرب من 70 في المائة من هؤلاء المهاجرين.


وتوضح الدراسة أن الولايات المتحدة عادة ما تستضيف نصف جميع المهاجرين ذوي المهارات العالية المتوجهين لبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وثلث المهاجرين ذوي المهارات العالية حول العالم.


وأرجعت الدراسة أسباب الارتفاع الضخم في عدد المهاجرين ذوي المهارات العالية إلى بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى زيادة الجهود لجذب المواهب من قبل صانعي القرار الذين يستثمرون في رأس المال البشري، والآثار غير المباشرة الإيجابية الناتجة عن تجمع المهارات، وانخفاض تكاليف النقل والاتصالات، وزيادة سعي الشباب وراء التعليم الأجنبي.


لكن التقرير أكد أن «هجرة ذوي المهارات العالية غالبا ما تكون مثيرة للجدل». وأضاف: «بالنسبة للبلدان المرسلة، فإن فقدان العمال ذوي المهارات العالية يثير المخاوف»، ولكن الجانب الإيجابي هو أن أولئك المهاجرين «يمكن أن يكونوا بمثابة روابط مطلوبة بشدة للمصادر العالمية من المعارف ورؤوس الأموال والسلع، وسيعود بعضهم في نهاية المطاف إلى أوطانهم الأصلية بمستويات أعلى من حيث المركز الاجتماعي ورأس المال البشري».


وأشارت الدراسة إلى أن كثيرا من البلدان الأصلية لديها قدرات تعليمية وموارد مالية محدودة لتدريب العاملين أو للقيام بعملية إحلال لمن هاجروا. وأضاف أن البلدان التي شهدت معدلات هجرة مرتفعة للعمالة ذات المهارات العالية إلى مقاصد في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2010 هي في العادة من البلدان الصغيرة المنخفضة الدخل والدول الجزرية.


وقال الخبير الاقتصادي بالبنك الدولي، تشالار أوزدن: «إن الأسباب وراء مغادرة الناس ترتبط بأوضاعهم المعيشية. فإذا استطعت تحسين وتنمية البلاد وتحسين الحياة العامة للمتعلمين، فسوف يبقون». مضيفا أن الحكومات يمكن أن تفعل الكثير من الأشياء للمساعدة في إعادة المواهب. فالجنسية المزدوجة، كما قال، هي مثال على «إقامة روابط» مع هذه المواهب لجعلها تبقى.


  • دور المرأة

وأشارت الدراسة إلى دور النساء «الملحوظ وغير المسبوق» في ارتفاع أعداد هجرة أصحاب المهارات العالية، مشيرا إلى أن عدد المهاجرات اللواتي يتمتعن بمهارات عالية في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ارتفع بنسبة 152 في المائة بين عامي 1990 و2010، من 5.7 مليون إلى 14.4 مليون. وفي عام 2010، فاق عدد المهاجرات ذوات المهارات العالية أقرانهن من الذكور. 


وأوضحت الدراسة أن أفريقيا وآسيا شهدتا أعلى معدل نمو للمهاجرات ذوات المهارات العالية، مشيرا إلى أن التفاوتات بين الجنسين وتحديات سوق العمل هناك لعبت دورا محتملا بالتحول إلى قوى طاردة. وحذر أوزدن قائلا: «إن فقدان المتعلمات تعليما عاليا مشكلة، لأن الأمهات لهن أكبر الأثر على الأطفال. وستكون هناك خسائر على المدى البعيد لأن الأمهات المتعلمات هن أطفال متعلمون».


تعتبر منظمة اليونيسكو أن هجرة العقول أو الكفاءات «شكل من أشكال التعاون والتبادل العلمي الشاذ أو غير السليم بين الدول»، باعتباره يعني تدفق هجرة العلماء في اتجاه واحد نحو الدول المتقدمة، فيما تميز منظمة التعاون والتنمية الدولية بين مفهوم «تبادل العقول»: ومفهوم «إهدار العقول»، على اعتبار أن «تبادل العقول: «أمر طبيعي ناجم عن تفاعل الحضارات وحوار الثقافات.


وربما لهذا السبب دافع البعض عن هجرة الكفاءات باعتبارها تؤدي إلى تأمين المليارات من العملة الصعبة للبلدان الأصلية للمهاجرين وتسهم في تحسين الوضع الاجتماعي، إلا أن تعدد النواحي السلبية لظاهرة هجرة الكفاءات وعلى رأس ذلك توسيع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة جعل النظر إلى تلك الظاهرة يتركز ـ في الغالب على تأثيراتها السلبية.


وأشارت دراسة صادرة عن إدارة السياسات السكانية والهجرة بجامعة الدول العربية خلال السنوات الأخيرة إلى أن مجموع عدد الكفاءات العلمية العربية في الخارج يصل إلى مليون و91 ألفا و282 كفاءة علمية، وجاءت الجزائر في مقدمة أكثر الدول هجرة لعقولها البشرية بعدد 215 ألفًا و347 كفاءة، يليها المغرب بـ207 آلاف و117 كفاءة، ثم مصر بـ147 ألف كفاءة و835، فلبنان بـ110 آلاف و960 كفاءة، والعراق بـ83 ألفًا و465 كفاءة، وتونس بـ68 ألفًا و190 كفاءة، فيما تعد كل من سلطنة عمان وقطر الأقل من حيث عدد العقول والكفاءات البشرية المهاجرة منهما بإجمالي 1012 و1465 كفاءة على الترتيب.


وبحسب دراسات أخرى للجامعة العربية، يهاجر نحو مائة ألف من أرباب المهن وعلى رأسهم العلماء والمهندسون والأطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر، كما أن 54 في المائة من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم،


كما تشير هذه الدراسات إلى أن 20 في المائة من خريجي الجامعات العربية يهاجرون إلى الخارج، ونحو 60 في المائة ممن درسوا في الولايات المتحدة خلال الثلاثين عامًا الأخيرة لم يعودوا إلى بلادهم، و50 في المائة ممن درسوا في فرنسا لم يعودوا أيضًا إلى بلادهم.


وبحسب هذه الدراسات، فإن الوطن العربي يساهم بنحو 31 في المائة من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية ككل، كما أن نحو 50 في المائة من الأطباء و23 في المائة من المهندسين و15 في المائة من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا، و75 في المائة من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة إلى ثلاث دول، تحديدًا هي بريطانيا وأميركا وكندا.


وأشارت إحصائيات أخرى إلى أن إجمالي الإنفاق على العلماء في الغرب يعادل ضعف إنتاج النفط العربي سنويًا، وأن 12 في المائة فقط من بلدان العالم تستحوذ على95 في المائة من العلماء.


  • تداعيات سلبية

تفرز هجرة العقول العربية إلى البلدان الغربية عدّة آثار سلبية على واقع التنمية في الوطن العربي، ولا تقتصر هذه الآثار على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية فحسب، ولكنها تمتد إلى التعليم في الوطن العربي وإمكانيات توظيف مخرجاته في بناء وتطوير قاعدة تقنية عربية، ومن أهم الانعكاسات السلبية لنزيف العقول العربية المهاجرة.


تمثل هجرة العقول العربية استنزافًا لشريحة مؤثرة وفاعلة في المجتمع العربي، ولها دور بارز، وبالذات في المرحلة الحالية، حيث شرعت أغلب البلدان العربية وبخاصة النفطية منها بتنفيذ خطط تنموية واسعة النطاق، وهي بلا شك بأمسّ الحاجة إلى الكفاءات العلمية والأيدي العاملة المدربة القادرة على النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقها إلى مستوى الطموح.


وتعتبر هجرة العقول العربية خسارة في مجال التعليم في جميع مراحله، فمن المعلوم أن البلاد العربية تعد من أكثر المناطق في العالم أمية، إذ يبلغ معدل الأمية في الوطن العربي حاليًا نحو 49 في المائة، ويشكل هذا الرقم أحد المعوقات الرئيسية أمام التنمية العربية في عصر تمثل فيه الكفاءات العلمية والتقنية والمعرفة المصدر الرئيسي للميزة النسبية وأساس التفوق والتنافس بين الأمم.


من المخاطر البالغة الأثر لهجرة العقول العربية، تلك الخسائر المتعلقة بهدر الأموال الطائلة التي تم إنفاقها على تعليم وتدريب الطلبة الذين نالوا هذه الكفاءات المتقدمة. وتؤدي هجرة العقول العربية إلى توسيع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة.


لأن هجرة الأدمغة إلى الدول المتقدمة تعطي هذه الدول فوائد كبيرة ذات مردود اقتصادي مباشر، بينما تشكل بالمقابل خسارة صافية للبلدان التي نزح منها أولئك العلماء، خاصة أن التكنولوجيات والاختراعات المتطورة التي أبدعها أو أسهم في إبداعها أولئك العلماء المهاجرون تعتبر ملكًا خاصًا للدول الجاذبة لهم.


تكرس هذه الظاهرة التبعية للبلدان المتقدمة، وتبرز مظاهر التبعية في هذا المجال بالاعتماد على التكنولوجيا المستوردة، والتبعية الثقافية والاندماج في سياسات تعليمية غير متوافقة مع خطط التنمية.


وقدر أحد تقارير منظمة العمل العربية أن الخسائر التي تتكبدها الدول العربية سنويًا لا تقل عن 200 مليار دولار بسبب هجرة العقول إلى الخارج، وتقترن هذه الأرقام بخسائر كبيرة نجمت عن تأهيل هذه العقول ودفع كلفة تعليمها داخل أوطانها، مما يؤكد أن الدول العربية، ومعها سائر الدول النامية تقدم مساعدات إلى البلدان المتقدمة عبر تأهيلها لهذه الكفاءات ثم تصديرها إلى هذه البلدان المتقدمة لتفيد من خبراتها العلمية.


كما تتجلى الخطورة في أن عددًا من المهاجرين العرب في الدول الغربية يعملون في أهم التخصّـصات الاستراتيجية، مثل الطب النووي والجراحات الدقيقة والهندسة الإلكترونية والميكروإلكترونية والعلاج بالإشعاع والهندسة النووية وعلوم الليزر وتكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية، وتشجع الكثير من الدول المتقدِّمة العقول والأدمغة العربية النابغة على البقاء في الدول التي هاجروا إليها.


  • استراتيجية عربية

وطالبت الدراسة بوضع استراتيجية عربية متكاملة للتصدي لمشكلة هجرة الكفاءات، وينبغي أن تشارك في وضعها كل من جامعة الدول العربية، ومنظمة العمل العربية، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي، والمنظمات العربية غير الحكومية المهتمة بهذا الموضوع، مع الاستفادة من خبرات منظمة اليونيسكو ومنظمة العمل الدولية التي تملك خبرات ودراسات جادة حول هذه المشكلة. وتتمثل هذه الاستراتيجية في:


  • زيادة ميزانية البحث العلمي في كل دولة عربية، وإنشاء مراكز للبحوث التنموية والعلمية، بما يوفر المناخ المناسب للكفاءات وأصحاب المواهب للعمل في هذه الدول والإنتاج العلمي والإبداع بدلاً من الهجرة. 
  • احترام الحريات الأكاديمية وصيانتها، وذلك بإعطاء أعضاء الهيئات الأكاديمية والعلمية حرية الوصول إلى مختلف علوم المعرفة والتطورات العلمية وتبادل المعلومات والأفكار والدراسات والبحوث، وفي استعمال مختلف وسائل التطور الحديثة دون تعقيد أو حواجز.
  • إعادة النظر جذريًا في سلم الأجور والرواتب التي تمنح للكفاءات العلمية العربية، وتقديم حوافز مادية ترتبط بالبحث والإنتاج، ورفع الحدود العليا للأجور لمكافأة البارزين من ذوي الكفاءات وتقديم الحوافز التشجيعية والتسهيلات الضريبية والجمركية للوفاء بالاحتياجات الأساسية، وتقديم الخدمات اللازمة لقيامهم بأعمالهم.
  • بناء شراكة مع العقول العربية المهاجرة، فالعلماء العرب اليوم يوجدون في أعرق المراكز العلمية والجامعية والبحثية والصناعية، ويطلعون ويطورون كثيرًا منها، لذلك فإن بإمكانهم عند تقديم دعوة صادقة لهم للمشاركة من مواقعهم في بعض البرامج القائمة في مراكز البحث والجامعات العربية أن يكونوا خير عون إذا أُحسن الاختيار وصدقت النوايا من الجانبين.
  • حثّ الحكومات العربية على تكوين الجمعيات والروابط لاستيعاب أصحاب الكفاءات المهاجرة من بلدانهم، وإزالة جميع العوائق التي تعيق ربطهم بأوطانهم، ومنحهم الحوافز المادية وتسهيل إجراءات عودتهم إلى أوطانهم للمشاركة في عملية التنمية والتحديث.
  • التعاون مع المنظمات الدولية المعنية مثل اليونيسكو لإقامة مشروعات ومراكز علمية في البلدان العربية لاجتذاب العقول العربية المهاجرة للإشراف على هذه المراكز والإسهام المباشر في أعمالها وأنشطتها، وتقديم مزيد من المساعدات المالية لتوفير فرص عمل للشباب العربي، وبما يساعد أيضًا على الحد من الهجرة غير الشرعية إلى دول أوروبا.
  • مراجعة سياسات التشغيل في الدول العربية والعمل على إعطاء الأولوية في التشغيل لأبناء الوطن أولاً ثم أبناء الدول العربية ثانيًا، ثم للعمالة الأجنبية ثالثًا طبقا للاتفاقيات العربية في هذا الشأن.
  • الإسهام في دعم وتنشيط مكاتب العمل والتشغيل بما يمكنها من حصر فرص العمل في مختلف القطاعات، وإرشادها للشباب النابغين والباحثين عن العمل عن تلك الفرص، وتوفير متطلبات قيامها بدراسة اتجاهات سوق العمل واحتياجاتها في المستقبل.
  • مراجعة نظم التعليم والتدريب للوقوف على مدى ملاءمتها مع احتياجات سوق العمل ومستلزماتها المتطورة من المهن والمهارات، وتنويع مؤسسات التعليم مع تنويع المهارات التكنولوجية المطلوبة في مجالات الإنتاج المختلفة.
  • العمل على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية في الدول العربية لخلق سوق عمل يستوعب الكفاءات في الداخل. 
  • أن تعمل وسائل الإعلام على زيادة نشر الوعي بخطورة ظاهرة هجرة العقول البشرية، من خلال توضيح الآثار السلبية التي تترتب عليها، وحث المسؤولين بالدول على مواجهتها.

حسين البطراوي

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى