بلاغة وحِجاجسيميائيات

جماعة «مو» (Groupe µ): من البلاغة البنيوية إلى السيمياء البصرية

تأسيس علم جديد للخطاب والمعنى

  • النشأة والسياق التاريخي لتشكّل جماعة «مو» البلجيكية

تُعدّ جماعة «مو» (Groupe µ) واحدة من أبرز المجموعات البحثية التي تركت أثرا عميقا في الدراسات البلاغية والسيميائية المعاصرة في أوروبا. نشأت الجماعة في أواخر ستينيات القرن العشرين، داخل جامعة لييج (Université de Liège) في بلجيكا، تحديدا ضمن مركز دراسات الشعرية الذي كان يشكّل آنذاك فضاء خصبا لتجارب النقد البنيوي وتطبيقاته على اللغة والأدب.

وقد جاءت هذه النشأة في سياق معرفي يتّسم بتزايد الاهتمام باللسانيات البنيوية، وبتحوّل البلاغة التقليدية إلى علم للخطاب والدلالة، في محاولة لتجاوز الفصل القديم بين الشكل والمضمون.

اختارت الجماعة اسمها الرمزي «مو» (µ) المأخوذ من الحرف اليوناني «مي»، والذي يدلّ في تصوّرها على المِـيتافور (الاستعارة) والمِـيتونيميا (المجاز المرسل)، وهما ركيزتان أساسيتان في بنية التفكير البلاغي. هذا الاختيار لم يكن اعتباطيا، بل كان إعلانا عن مشروع معرفي جماعي يسعى إلى إعادة تأسيس البلاغة على أسس علمية دقيقة تستند إلى اللغة والمنطق والسيمياء، بدل الاقتصار على المقاربات الأدبية أو الجمالية التقليدية.

اتسمت الجماعة بميزة مؤسسية فريدة، إذ فضّلت نشر أعمالها باسم «Groupe µ» دون ذكر الأسماء الفردية لأعضائها، التزاما بمبدأ العمل الجماعي البحثي على غرار تجربة مجموعة «بورباكي» (Bourbaki) في الرياضيات. وقد مثّل هذا الاختيار موقفا علميا مقصودا ضدّ النزعة الفردانية في الإنتاج الفكري، وميلا إلى اعتبار البحث البلاغي والسيميائي نشاطا تراكميا يتجاوز حدود الشخص إلى الجماعة العلمية.

ظهر أوّل عمل تنظيري كبير للجماعة سنة 1970 تحت عنوان «Rhétorique générale» (البلاغة العامة)، الذي مثّل منعطفا في الدراسات البلاغية الحديثة بإعادة تعريف المفاهيم الكلاسيكية ضمن منظور بنيوي ولساني جديد. ولم تتوقف الجماعة عند حدود اللغة، بل واصلت توسيع مجال تطبيقها ليشمل الصورة والرمز والإدراك البصري، وصولا إلى مؤلفها المرجعي «Traité du signe visuel» (1992)، الذي أسّس لنظرية متكاملة في العلامة البصرية والبلاغة المرئية.

تُبرز هذه المسيرة أن جماعة «مو» لم تكن مجرّد مدرسة فكرية عابرة، بل مشروعا علميا متدرجا أعاد صياغة العلاقة بين البلاغة والسيمياء، وبين النص والصورة، مما جعلها مرجعا رئيسا في تطور علم العلامات الأوروبي، ونقطة التقاء بين النقد الأدبي والدراسات البصرية وفلسفة اللغة في النصف الثاني من القرن العشرين.

  • الإسهام النظري والمنهجي لجماعة «مو»: نحو رهطوريقا عامة وسيمياء بصرية

مثّل المشروع النظري لجماعة «مو» (Groupe µ) نقلة نوعية في تاريخ الدراسات البلاغية، إذ انتقل بالرهطوريقا من فضاء الوصف الأدبي والذوقي إلى مجال التحليل البنيوي والسيميائي المنظّم. كان طموح الجماعة يتمثل في بناء «علم عام للبلاغة» (Rhétorique générale) يدرس الظواهر البلاغية بوصفها أنساقا معرفية قابلة للنمذجة، وليس مجرّد أساليب تزيينية للخطاب كما في البلاغة التقليدية.

  • أ. البلاغة العامة: من الزخرفة إلى البنية:

في مؤلفهم المرجعي «Rhétorique générale» (1970)، قدّمت جماعة «مو» تصورا جديدا للبلاغة باعتبارها علما للبنى الشكلية التي تُحدث أثرا دلاليا في المتلقي. فبدل المقاربة التفسيرية الكلاسيكية التي كانت تكتفي بوصف الاستعارات والكنايات والطباقات، اقترح أعضاء الجماعة مخططا تحليليا يستند إلى أدوات اللسانيات البنيوية لتحليل العلاقات التي تُنتج الأثر البلاغي نفسه.

لقد أصبح «الانزياح» (écart) عندهم ليس انحرافا عن القاعدة فحسب، بل آلية دلالية منظمة يمكن تحديدها ضمن شبكة العلاقات التركيبية والدلالية للنص. وبهذا، تحوّلت البلاغة إلى نظام تحليلي يدرس وظيفة الصورة البلاغية داخل الخطاب، وكيف تُعيد تشكيل المعنى وفق بنيات عقلية ولغوية متكررة.

  • ب. من رهطوريقا اللغة إلى رهطوريقا الصورة:

بعد عقدين تقريبا من صدور «البلاغة العامة»، وسّعت الجماعة أفق بحثها لتشمل المجال البصري، من خلال مؤلفها المهم «Traité du signe visuel» (1992)، الذي يُعدّ اليوم أحد النصوص التأسيسية في السيمياء البصرية.
في هذا العمل، اقترحت الجماعة نموذجا تحليليا يعامل الصورة بوصفها خطابا له نحو خاص، أي بنية دلالية وقواعد تركيبية تنظم إنتاج المعنى البصري.

وقدّمت مصفوفة تحليلية تتكوّن من مستويات إدراكية وبلاغية متداخلة — مثل التكوين (composition)، اللون (couleur)، الإطار (cadre)، والزمن البصري (temps visuel) — تُسهم في تفسير كيف تنتج الصورة أثرها الرمزي والجمالي.
أهمية هذا التحول تكمن في أنه نقل البلاغة من النص إلى الصورة، وربط بين النظرية اللغوية ونظرية الإدراك البصري، مما أسس لتقليد بحثي جديد في الفنون البصرية والإعلام وتحليل الخطاب المرئي.

  • ج. أدوات ومفاهيم معيارية:

أثمرت أعمال الجماعة عن تطوير مجموعة من الأدوات المفاهيمية التي أصبحت لاحقا مراجع معتمدة في تحليل الخطاب البصري والإعلامي. من أبرز هذه الأدوات:

  • تصنيف الانزياحات البلاغية (Typologie des figures) الذي يتيح تحليل الظواهر المجازية وفق معايير بنيوية.
  • مفهوم تعدد الأيزوتوبيات (polyisotopie) الذي يفسر تعدد مستويات الدلالة داخل الخطاب الواحد.
  • نظرية الإحالة البصرية (référence visuelle) التي تربط بين التمثيل البصري والواقع المرجعي بطريقة يمكن قياسها ووصفها.

وقد أصبح لهذه النماذج حضور واسع في مجالات تحليل الإشهار، والسينما، والرسوم المصوّرة (comics)، والدراسات الإعلامية، حيث يُستفاد منها في تفكيك بنية الخطاب البصري وآلياته البلاغية والإقناعية.

إنّ مشروع جماعة «مو» لا يمكن اختزاله في بعده النظري فحسب، بل هو محاولة لإعادة صياغة علاقة الإنسان بالعلامة والمعنى، سواء أكان هذا المعنى لغويا أم بصريا. لقد أسسوا لنموذج معرفي يتجاوز حدود التخصصات، يجمع بين البلاغة، واللسانيات، والسيمياء، ونظرية الإدراك، مما جعل أعمالهم مرجعا عابرا للحقول المعرفية في القرن العشرين.

  • أثر جماعة «مو» وتطبيقاتها العملية في الحقول الأدبية والبصرية
  • في النقد الأدبي والشعر:

أحدثت مقاربات Groupe µ تحولا جذريا في آليات قراءة النصوص الأدبية، خصوصا الشعرية منها، عبر نقل البلاغة من مستوى الزخرف الأسلوبي إلى مستوى البنية الدلالية المنظمة. إذ اعتبر أعضاء الجماعة أن الظواهر البلاغية – مثل الاستعارة والكناية والمجاز – ليست مجرد تزيينات لغوية، بل آليات معرفية تنظم إدراك القارئ للعالم النصي.

وقد مكّن هذا التحول من تحليل الأثر الجمالي في الشعر والسرد الحديث انطلاقا من البنى التركيبية والإيقاعية التي تنتج “التأثير الشعري” بشكل موضوعي قابل للوصف البنيوي، بعيدا عن التقديرات الانطباعية. هذه الرؤية انعكست بوضوح في دراسات شعراء الحداثة الأوروبيين والفرنكفونيين، حيث أصبحت أدوات Groupe µ معيارا لتفكيك البنية الدلالية وتحديد طبقات المعنى المتراكبة في النص. Université du Québec à Chicoutimi

  • في الدراسات البصرية وتاريخ الفن:

امتدت تأثيرات الجماعة إلى مجال الصورة والفنون البصرية، من خلال أدوات تحليلية دقيقة تفكك مستويات إنتاج المعنى البصري في اللوحات، والإعلانات، والمواد الإعلامية.

اعتمد الباحثون على تصنيفاتهم لتحليل العلاقات بين التكوين (composition) واللون والإطار، باعتبارها مكونات رمزية تحدد البنية الإدراكية للصورة. كما ساعد «النموذج الرهطوريقي البصري» الذي طوّروه في تحديد كيفية تشكل الرسائل البصرية في وسائط متباينة: من اللوحة الكلاسيكية إلى الصورة الرقمية.

تعد أعمال Groupe µ مرجعا أساسيا اليوم في السيميائيات البصرية وتحليل الصورة، وتُدرّس ضمن المناهج الجامعية الأوروبية في تخصصات الإعلام والفنون. Sémiotique et communication visuelle

  • في دراسات الهزل (Comics) والوسائط المتعددة:

امتدّ تأثير الجماعة إلى دراسات القصص المصوّرة (Comics) والوسائط التفاعلية الحديثة، حيث وفّرت أبحاثهم أساسا لتحويل الأدوات السيميائية اللفظية إلى أدوات تحليل بصري وسردي. وقد مكّن هذا التوسّع من بناء نماذج تحليل سردي متعددة الطبقات تدمج بين النص والصورة، وتفسّر دينامية انتقال المعنى عبر التتابع الزمني للمشاهد. وبهذا أصبحت تصنيفات Groupe µ أحد المراجع الأساسية في تحليل الأنمي والرسوم المصوّرة والإعلانات المتحركة. Kiel University Comics Research

  • الاستمرارية النقدية والتأثير المعرفي:

تُعدّ نصوص Groupe µ اليوم من أكثر النصوص نقاشا في مجال البلاغة المعاصرة والسيميائيات، إذ انبثقت عنها مدارس فكرية متعددة ومراجعات نقدية غنية. فقد تناول باحثون من أوروبا وأمريكا نقد مقترحات الجماعة أو تطويرها عبر دمجها مع علم النفس الإدراكي ونظريات الثقافة البصرية المعاصرة.

كما أسهم هذا التفاعل العلمي في توسيع إرث الجماعة ليشمل دراسة التأثيرات الذهنية والانفعالية للصور في البيئة الرقمية. ورغم مرور أكثر من نصف قرن على ظهورها، لا تزال نظريات Groupe µ حاضرة في النقاشات المعاصرة حول التواصل البصري والبلاغة الرقمية. Persée – Revue de sémiotique et de communication

  • الإرث النظري والتقييم العام لمشروع جماعة «مو»
  • تجديد البلاغة في ضوء العلوم الحديثة:

يمثل مشروع Groupe µ أحد أبرز التحولات الفكرية في القرن العشرين في حقل الدراسات اللغوية والسيميائية، إذ أعاد تعريف البلاغة باعتبارها علما للمعنى وللتواصل، لا مجرد فنٍّ للزخرفة أو الأسلوب.

لقد استطاعت الجماعة أن تنقل البلاغة من فضاء الفلسفة الكلاسيكية إلى فضاء التحليل العلمي للخطاب، مستثمرة أدوات اللسانيات البنيوية والمنطق الصوري والنماذج الإدراكية. بهذا المعنى، لم يعد المجاز أو الكناية “زخرفا لغويا”، بل بنية معرفية تعبّر عن طريقة العقل في بناء التمثلات والمعاني.

وقد مكّن هذا المنظور الجديد من تجاوز الانقسام القديم بين اللغة والعقل، بين الشعر والمنطق، ليؤسس ما يمكن وصفه بـ”بلاغة معرفية” تتقاطع فيها اللغة، الإدراك، والتأويل.

  • التفاعل مع الحقول المجاورة:

لم تتوقف جماعة «مو» عند حدود البلاغة أو السيمياء، بل انخرطت في حوارٍ خصبٍ مع علوم الإدراك (Cognitive Sciences) ونظريات الاتصال (Communication Theories) وعلم الجمال (Aesthetics). تفاعلت مقارباتهم مع أعمال باحثين مثل رولان بارت وأمبرتو إيكو وجيرار جينيت، لكنها تميّزت عنهم بتركيزها على بناء نموذج تجريبي للمعنى يمكن تطبيقه على الخطاب اللفظي والبصري معا.

هذا التكامل بين الشكل والمضمون، بين النظرية والتطبيق، جعل من مشروعهم نواة لتوجهٍ جديد في الفكر المعاصر يُعرف اليوم بـ «البلاغة السيميائية» (Rhétorique sémiotique)، التي تُدرّس في عدد من الجامعات الأوروبية والأمريكية.
European Semiotics Network – Groupe µ Legacy

  • إرثهم في الفكر الرقمي والإعلام المعاصر:

تتجلى أهمية Groupe µ اليوم في قدرتها على تقديم أدوات صالحة لتحليل الخطاب الرقمي والوسائط المتعددة. فقد وفّرت مفاهيمها حول «البنية البلاغية للصورة» و«الانزياح الإدراكي» و«تعدد الإحالات» إطارا لتفكيك الصور الرقمية والإعلانات التفاعلية ووسائط التواصل الاجتماعي.

يُوظَّف منهجهم الآن في تحليل الأنظمة الرمزية المعقدة مثل واجهات الذكاء الاصطناعي، والفنون التوليدية (Generative Art)، وتصميم التفاعل البصري في الألعاب والواقع المعزز.

إن قدرتهم على تحويل البلاغة إلى منظومة تفسيرية متعددة الوسائط جعلت فكرهم يستمر بوصفه إحدى الركائز النظرية للعلوم الإنسانية الرقمية. Digital Humanities Quarterly – Semiotics and Media Analysis

  • التقييم النقدي والآفاق المستقبلية:

على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على تأسيسها، تظل جماعة «مو» مثالا نادرا على العمل العلمي الجماعي الذي جمع بين الدقة المنهجية والابتكار النظري.

وقد أشار عدد من النقاد (منهم Dominique Maingueneau وJean-Marie Klinkenberg) إلى أن ما يميز Groupe µ هو قدرتها على الجمع بين صرامة اللسانيات ومرونة التأويل الفني، مما منحها موقعا فريدا بين النظرية والممارسة.

لكن بعض الدراسات اللاحقة انتقدت ميلها إلى التجريد الزائد وإهمالها للبُعد التداولي (Pragmatic Dimension) في تحليل الخطاب. ومع ذلك، يبقى أثرها حاضرا في أغلب المشاريع السيميائية المعاصرة التي تسعى إلى دمج التحليل المعرفي بالتحليل الرمزي.

إن إرث Groupe µ، إذن، لا يقف عند حدود ما كتبوه، بل في ما فتحوه من آفاق جديدة أمام الباحثين لإعادة التفكير في العلاقة بين اللغة، الصورة، والفكر الإنساني ذاته. Cahiers de Sémiotique Appliquée – Université de Liège

  • خلاصة:

يُظهر مسار جماعة «مو» أن البلاغة ليست علما منقرضا، بل مشروعا معرفيا متجددا يتطور بتطور الوسائط واللغات. فمن خلال دمج البلاغة بالسيمياء والبصرية والتقنيات الإدراكية، أعادت الجماعة صياغة مفهوم التواصل ذاته، بوصفه نظاما من العلامات المتفاعلة التي تنتج المعنى داخل بنى اجتماعية وثقافية وتكنولوجية متغيرة.

لقد كانت Groupe µ بمثابة جسر بين البلاغة القديمة والعلم الحديث، وما زال فكرها يمثل مرجعا تأسيسيا لأي محاولة معاصرة لفهم اللغة والصورة في زمن الذكاء الاصطناعي والتواصل الفوري.

  • مراجع الدراسة:
  1. Groupe µ. Rhétorique générale. Paris: Larousse, 1970.

  2. Groupe µ. Traité du signe visuel: Pour une rhétorique de l’image. Paris: Seuil, 1992.
  3. Groupe µ – Université de Liège. Site officiel du Groupe µ.
    متاح عبر Université de Liège.
  4. Université du Québec à Chicoutimi. Sémiotique et communication visuelle.
    متاح عبر UQAC.ca.
  5. Kiel University. Comics Research Group.
    متاح عبر Kiel University Comics Research.
  6. Persée – Revue de sémiotique et de communication.
    متاح عبر Persée.fr.
  7. European Semiotics Network – Groupe µ Legacy.
    متاح عبر European Semiotics Network.
  8. Digital Humanities Quarterly (DHQ).
    متاح عبر dhq.digitalhumanities.org.
  9. Cahiers de Sémiotique Appliquée – Université de Liège.
    متاح عبر Cahiers de Sémiotique Appliquée.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى