أبو ظبي في كتابات الرحالة الغربيين

تتمتع إمارة ومدينة أبوظبي بموقع جيوستراتيجي يقوم على أُسس ومقومات كامنة في الأرض والسكان، تتداخل معا، عبر عنه الكاتب الفرنسي جان جاك بيريبي بقوله: “لقد كان من شأن هذا المصير التاريخي الفريد أن خلق لدى سكان الخليج (يقصد ساحل عمان المهادن) ضميرا تاريخيا اجتماعيا موحدا كأنه لون من ألوان الوطنية التي لا مجال للشك فيها”1.

فقد عاشت على أرض أبوظبي مجموعات عربية أظهرت تمسكها بهذه الأرض رغم الصعوبات المعاشية، التي مرت بها، مع ذلك استقروا، بها ومارسوا حياتهم عليها بحرا وبرا، فقد عرفت واحات ورياض أبوظبي والعين الاستقرار والزراعة منذ عصور ما قبل التاريخ، كما أن بنادرها كانت ملاذا آمنا للبحارة والغاصة، ومقرا لكثير من الطواويش، الذين كانوا يقصدونها بحثا عن اللآلئ المميزة.

وقد زار أبوظبي في القرنين التاسع عشر والعشرين العديد من الرحالة الغربيين، دونوا مذكراتهم ويومياتهم، وما وقعت عليه أعينهم، وما لفت انتباههم، وما أثار انطباعاتهم على ما فيها من تحيز وتحامل في بعض الأحيان، إلا أن لكُتب أدب الرحالة أهمية خاصة، فهي تُقدِّم وصفا لكثير من جوانب الحياة، مما يوفر ثروة تاريخية غير يسيرة، لها قيمتها في توضيح الأحداث واستقرائها.

يصف كتاب “عمان والساحل الجنوبي للخليج الفارسي” الصادر عن شركة الزيت العربية الأمريكية في عام 1952، أبو ظبي بأنها جزيرة تقع على مقربة من الطرف الجنوبي الغربي لساحل الصلح البحري، وهي كذلك مدينة على هذه الجزيرة، وإمارة عاصمتها تلك المدينة.

و”إمارة أبوظبي هي أكبر السبع إمارات أو مشيخات التابعة لساحل الصلح البحري في شرق جزيرة العرب، التي لها معاهدات خاصة مع بريطانيا العظمى… أنشئت مدينة أبوظبي حوالي عام 1175ه/ 1761م على أيدي عرب من آل بو فلاح، ومن المحتمل أنه قد اشترك معهم في إنشائها أفراد آخرون من قبيلة بني ياس”.

ويصف التقرير أبوظبي بأنها مدينة ذات مرسى جيد، يُقارب عدد سكانها عشرة آلاف نسمة، وتتألف في الأغلب من أكواخ مصنوعة من سعف النخيل، ومبان قليلة مُشيدة من أحجار، ومن بين هذه المباني المسجد الكبير وقصرين للحاكم.

وتستمد ماءها من آبار قليلة تقع جنوبي المدينة، ومن حفر ضحلة على مقربة من قلب الجزيرة، ومقادير أخرى بواسطة القوارب من برك صخرية تقع في جزيرة مجاورة. والتمر الذي تُغله هذه الأراضي رديء الصنف يُستخدم علفا للماشية، أما المئونة الرئيسة من التمر، الذي يأكله أهالي أبوظبي فترد من قرى البريمي وعُمان2.

يُقدم المساح البريطاني جورج بارنز بروكس Bruks Gorge Barrens، والذي قام بمسح المنطقة من رأس الخيمة إلى دبي، خلفا للكابتن جاي، بين عامي (1820-1825)، تقريرا يشتمل على العديد من التفصيلات الدقيقة.

ويُحدد بروكس أبوظبي بخطوط الطول ودوائر العرض، ويُلاحظ أنها جزيرة رملية تُعدّ موقعا لرئاسة قبيلة بني ياس، فشيخها طحنون بن شخبوط (1818-1833) يسكنها، ويُضيف إن عدد نفوس قبيلة بني ياس، التي هي من القبائل الرئيسة في شبه الجزيرة العربية،

حيث يكونون فيها عنصرا مستقلا يصل إلى حوالي ألفين وأربعمائة رجل، وهناك أيضا نحو خمسة آلاف من المناصير والقبائل الأخرى، التي تعترف بسلطة الشيخ، ويسكن معظمهم في مناطق متفرقة من الداخل تُدعى الظفرة.

ويُقدّر بروكس عدد سكان مدينة أبوظبي فقط بنحو ألف ومئتي رجل، يتضاعف هذا العدد في موسم الغوص على اللؤلؤ، حيث تقصدها القبائل التي تُقيم في الداخل، كما يقصدها البانيان الهنود الذين يعملون في التجارة والصناعة.

يصف بروكس أبوظبي فيقول “إن فيها بيتا حصينا وبُرجا صغيرا، وتظهر في مناطق متفرقة منها أبراج صغيرة أخرى، إضافة إلى قريتين أو ثلاث، ويعمل سكان المدينة في الغوص، الذي يُعدّ المصدر الرئيس للدخل، فأرضهم مجدبة لا تكاد تفي إلا بالقليل، أو ربما أنها قد لا تفي بشيء أبدا، ويملك السكان عددا من القوارب التجارية”، ويُشيد بالشيخ طحنون، الرجل الوسيم، الكريم، أفضل شيوخ الساحل3.

يقوم الرحالة والباحث والمبشر الأمريكي صموئيل زويمر Samuel Zwemer)1867- 1952) خلال عامي 1900-1901 بثلاث رحلات في الإمارات وشمال عمان، أخذته الرحلة الأولى برا من الشارقة إلى شناص وصحار على ساحل الباطنة العماني، والثانية عن طريق البحر من أبوظبي إلى الشارقة، أما الثالثة فقد سافر فيها برا من أبوظبي إلى صحار عن طريق العين.

وقد لقي زويمر الترحيب الحار أينما ذهب، وخاصة حين حل ضيفا على الشيخ زايد بن خليفة (1855-1909) في أبوظبي، حيث قام بتصوير قصر الحصن4. ويكتب في مقاله المنشور عام 1907 يصف أبوظبي يقول: “تُعَدّ أبو ظبي أولى المُدن التي تتمتَّع بأهميَّة على ساحل القراصنة.

وكانت قبيلة بني ياس هي أولى القبائل التي استوطنت تلك المنطقة، وأسَّست مجتمعا يسكن هذه البقعة من الساحل، والمدينة مُستقلة، وهي تحت حُكم الشيخ زايد ذو النفوذ القوي الممتد حتى قبائل الجبل الأخضر…

لا يتعدَّى تعداد سكَّان أبو ظبي العشرة آلاف نَسَمَة بأي حال من الأحوال؛ وباستثناء بعض الأفراد الذين جاؤوا من إقليم السِّند الواقع غربيّ الهند، فإنَّ أغلب سكَّانها من العرب أو الزنوج (إذ إنَّ تجارة العبيد لا تزال سائدة في شرق الجزيرة العربيَّة).

وفيما عدا بضعة بيوت وقلعة واحدة، فإن جميع المباني في المدينة قد بُنيت بجَريد النَّخل وسَعفِهِ، وهي تمتد على شريط الساحل لما يربو عن ثلاثة كيلومترات. والغوص على اللؤلؤ هو المهنة السائدة على تلك الشواطئ، بالإضافة إلى تجفيف السمك، بهدف التصدير. 

وقد أطلق بطليموس في خريطته اسم آكلو السَّمك على هذه المنطقة، وكَتَبَ نيبور قائلا: إنَّ الأسماك موجودة بوفرة في هذا الساحل، ويسهل اصطيادها ليس من أجل إطعام الأبقار والحمير والحيوانات الأخرى فحسب؛ بل أيضا كسماد للحقول… ومن المثير للاهتمام أن الجِمَال قد اعتادت اتباع ذلك النظام الغذائي المعتمِد أساسا على الأسماك المُجفَّفَة”5.

يقوم الرحالة والسياسي الدبلوماسي البريطاني بيرسي كوكس  Percy Cox) 1864 -1937)، المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي (1904-1920)، في عام 1902 برحلة بدأها من أبوظبي إلى مسقط مرورا بالعين والجبل الأخضر، ورافقه في هذه الرحلة البحرية سلطان مسقط على متن يخته البخاري المسمى “نور البحر”، حيث كان السلطان على موعد مع الشيخ زايد بن خليفة، الذي يُطلق عليه كوكس لقب “عظيم ساحل القراصنة الكهل”، ومرت السفن بمحاذاة هوامش جوف اللؤلؤ العظيمة.

وحين وصل الجميع إلى أبوظبي جرى استقبالهم استقبالا حسنا من قبل حاكمها، حيث أقام لهم استعراض فروسية خاصا على الأراضي الرملية الواقعة خلف المدينة، ويلتقط كوكس صورة يظهر فيها الشيخ زايد وأبناؤه وهم يترجلون من على جيادهم في أعقاب هذا الاستعراض.

وبعد الحصول على تصريح من الشيخ زايد بالسفر إلى العين جاب كوكس مدينة أبوظبي، ثم رافقه الشيخ صقر بن زايد حتى المقطع، ويصفه بأنه “شابا يتميز بالوسامة والذكاء، والتعطش للمعرفة عن العالم الواسع”. ويذكر كوكس أن الشيخ زايد، شيخ أبوظبي، قد تعدى سن الثمانين، وله اثني عشر ابنا، والعدد الكامل من الزوجات6.

يبدأ هيرمان بورخارت في شتاء 1903-1904 رحلته بموازاة ساحل الجزيرة العربية، مُفضلا ركوب المراكب المحلية الصغيرة على استعمال الرحلات المنتظمة على متن السفن البخارية، وبعد زيارة الكويت والبحرين، أخذ المركب إلى العقير على ساحل الإحساء، ثم ولى ظهره للساحل وتوجه إلى واحة الإحساء، ومن الهفوف سافر برا إلى الدوحة في قطر، ثم استقل مركبا إلى أبوظبي،

التي وصلها في الثاني من فبراير عام 1904، وعندما نزل أبوظبي تم اصطحابه لمقابلة الشيخ زايد بن خليفة، الذي كان مجلسه منعقدا في تلك الأثناء، وبعد الانتهاء من أعماله ذلك اليوم، عرض حاكم أبو ظبي على بورخارت الطعام والمقام، ووجد منه استقبالا طيبا، ولقي الضيافة الكريمة طوال الأيام الست التي أمضاها في المدينة،

وصرح له بالتجوال في أنحائها، والتقاط ما شاء من الصور، والتقط صورة للشيخ زايد أثناء عقد مجلسه في الهواء الطلق خارج القلعة. ويكتب بورخارت عن ذلك يقول: “فقط في اليوم الأول أزعجني الصراخ وما واجهني من تهكم… ولكن الأمر الصادر من الشيخ كان كفيلا بوضع حد لهذا الازعاج”7.

يزور أبوظبي الرحالة والمبشر الطبيب الأمريكي بول هاريسون Harrison Poul)  1962 – 1883)، عضو الإرسالية الأمريكية في البحرين. ويكتب انطباعاته عنها عام 1919، في مقال نُشر بدورية الإرسالية “العربية المهملة” بعنوان “لقاء حميم بعد سنوات”.

يقول: “كان لقائي بهذه المدينة أشبه بلقاء صديق قديم لم أره منذ زمن بعيد، وفي أبوظبي أقمنا في مجلس الحاكم الشيخ حمدان بن زايد (1912-1922)، ووجدت العرب كما هم في بقية الإمارات الأخرى يحمل جميعهم البنادق فوق أكتافهم، وذوي لحى سود غير مرتبة، وتلازمهم البنادق مثلما نرتدي نحن ربطات العنق،

والرجل هنا بدون لحية وبندقية يعتبر وكأنه لا يُلبي اللباس الوطني. وفي مجلس الشيخ حمدان كان علينا أكل بعض الحلوى العُمانية المشهورة قبل أن نشرب القهوة…، وفي جميع هذه المناطق كان استقبال الناس لنا وديا جدا، وقابلنا الأهالي بكرم كثير وحصلنا على ولائم لا تُعدّ ولا تُحصى”8.

يصف الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسجر (Wilfred Thesiger) 1910- 2003  في كتابه “الرمال العربية” رحلاته الأربع، التي عبر فيها الربع الخالي، وتجول فيما حوله بين عامي (1945-1949)9. ويصف أبوظبي بأنها بلدة صغيرة متداعية تمتد في محاذاة ساحل الخليج،

ويُضيف “كانت قلعة كبيرة تطل على البلدة الصغيرة المتداعية التي امتدت بمحاذاة الشاطئ، حيث القليل من أشجار النخيل، وعلى مقربة منها بئر ماء… ثم توجهنا إلى القلعة ننتظر خارج الجدران استيقاظ المشايخ من قيلولة العصر… كانت أبواب القلعة موصدة… وعلى مقربة منها بعض المدافع الصغيرة نصف مطمورة بالرمال”.

واستضافهم الشيخ شخبوط بن سلطان، شيخ أبوظبي (1928-1966) في بيت على مقربة من سوق المدينة، التي مكث فيها ويلفريد ثيسجر عشرين يوما، ويقول إنها “بلدة صغيرة تضم حوالي ألفي نسمة، وكان الشيوخ يقومون بزيارتنا كل صباح، قادمين ببطء من القصر، وكان الشيخ شخبوط بشخصيته المهيبة وعباءته السوداء يتقدم إخوته قليلا، ويتبعه حشد من الحراس المُسلحين،

فكنا نتكلم لساعة أو أكثر، ونشرب القهوة ونأكل الحلويات، وبعد أن يُغادروا نقوم بزيارة السوق، حيث نجلس مُتربعين في الدكاكين الصغيرة نتبادل الأحاديث، ونشرب المزيد من القهوة، أو نمشي بمحاذاة الشاطئ نُراقب تجديد مراكب البوم، وطلائها بزيت سمك القرش، وتجهيزها لموسم صيد اللؤلؤ، ونُشاهد الأولاد يستحمون على الشاطئ، وصيادي السمك ينقلون صيدهم إلى البر”10.

يقول بكماستر Bakmaster في تقريره أنه وصل أبوظبي في وقت مبكر من صباح يوم 11 مارس 1952، يرافقه مساعده العربي علي البستاني، والتقيا حاكمها الشيخ شخبوط، “متطلعا تماما إلى قيام هذه البعثة، وكان قد أرسل في وقت سابق لأخيه زايد للإعداد لهذه الرحلة وتنظيمها”، ويحكي بكماستر عن الأيام التي قضاها في منطقة العين في جناح داخلي في بيت شبيه بالقلعة غير المأهولة، من أملاك الشيخ محمد بن خليفة ابن عم الشيخ زايد،

ويقع هذا البيت في منطقة “المعترض” التي هي إحدى المستوطنات الست التي يديرها البوفلاح في البريمي. ويستقي بكماستر معلوماته عن قبائل أبوظبي من الشيخ زايد ومرافقيه من كبار رجال القبائل، ومن استفساراته من بعض البدو الذين التقاهم في رحلته في البادية، فجاءت معلوماته وافية إلى حد بعيد. فبنو ياس هم إحدى أقوى القبائل وحدة وتماسكا في ساحل عمان المتصالح،

وأفقها يمتد ليُغطي كافة الأراضي التي يحكمها شيخ أبو ظبي، الذي تمثل هذه القوة القبلية أساس قوته وعمادها. وأورد بكماستر عشائر بني ياس على النحو التالي: البوفلاح، الهوامل، المزاريع، الرميثات، المرر، البوفلاسة، المحاربة، القبيسات، البوخيل، الرواشد، البوحمير، القمزان، الظواهر، المشاغين، الأحبابي، البومهير، السودان. أما القبائل المتحالفة مع بني ياس فهي: العوامر، المناصير، البورحمة، البوشعر11.

1 – جان جاك بيريبي: الخليج العربي، نجدة هاجر وسعيد الغز (ترجمة)، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، 1959)، ص 22.

2 – شعبة البحث بشركة الزيت العربية الأمريكية: عمان والساحل الجنوبي للخليج الفارسي، (القاهرة: مطبعة مصر، 1952)، ص 223- 233

 3 – عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم: روايات غربية عن رحلات في شبه الجزيرة العربية، الجزء الأول 1500-1840، (بيروت: دار الساقي، 2013)، ص428.

– Zwemer S. M.: “Three Journeys in Northern Oman”, The Geographical Journal, Vol. XIX, No. 1 (1902), pp. 54-64.

5- Zwemer S. M.: “Oman and Eastern Arabia”, Bulletin of the American Geographical Society , Vol. 39, No. 10 (1907), pp. 597-606.

6 –  وليام فيسي وجيليان غرانت: أوائل المصورين في الإمارات العربية المتحدة، (لندن: مركز لندن للدراسات العربية، 1995)، ص 12.

 – 7 Hermann Burckhardt: Ost-Arabien van basra bis maskat auf Grund fur Erdkunde Z. 4 Vol XLL (Berlin: 1906). pp. 305-322.

 8 – خالد البسام: القوافل، رحلات الإرسالية الأمريكية في مدن الخليج والجزيرة العربية 1901-1926، (المنامة: مؤسسة الأيام للصحافة والنشر، 1993)، ص 155، 156.

– Walfred Thesiger: “A Further Journey Across the Empty Quarter”, The Geographical Journal, Vol. CXIII, (June 1949), PP. 21-46.

10 –  ويلفريد ثيسجر: الرمال العربية، (أبو ظبي: موتيف ايت للنشر، 1992)، ص 265، 266، 268.

11 – عبد العزيز عبد الغني إبراهيم: روايات غربية عن رحلات في شبه الجزيرة العربية، الجزء الثالث 1900-1952، (بيروت: دار الساقي، 2013)، ص 378-402.

د. علي عفيفي علي غازي / أكاديمي وصحفي.

Exit mobile version