أجاثا كريستي – Agatha Christie
ولدت أجاثا كريستي في (توركاي، ديفون) عام 1890 من أب أمريكي وأم إنجليزية، وعاشت في بلدة (توركاي) معظم طفولتها، ووصفت كريستي طفولتها بأنها “سعيدة جدًا”، وكانت محاطة بمجموعة من النساء منحنها الشخصية القوية والمستقلة منذ سن مبكرة.
تقول عن نفسها: (إنني قضيت طفولة مشردة إلى أقصى درجات السعادة، تكاد تكون خالية من أعباء الدروس الخصوصية، فكان لي متسع من الوقت لكي أتجول في حديقة الأزهار الواسعة وأسبح مع الأسماك ما شاء لي الهوى! ويرجع الفضل في ذلك إلى والدتي التي سهلت اتجاهي إلى التأليف،
فقد كانت سيدة ذات شخصية ساحرة، وذات تأثير قوي وكانت تعتقد اعتقاداً راسخاً أن أطفالها قادرين على فعلِ كلِ شيء، وذات يوم أصبت ببرد شديد ألزمني الفراش قالت لي: خير لكِ أن تقطعي الوقت لكتابة قصة قصيرة وأنت في فراشك.
فأجبتها: ولكني لا أعرف، فقالت: لا تقولي لا أعرف، ثم حاولت ووجدت متعة في المحاولة، فقضيت السنوات القليلة التالية أكتب قصصاً قابضة للصدر! يموت معظم أبطالها! كما كتبت مقطوعات من الشعر ورواية طويلة احتشد فيها، عدد هائل من الشخصيات بحيث كانوا يختلطون ويختفون لشدة الزحام، ثمَّ خطر لي أن أكتب رواية جرائم، ففعلت واشتد بي الفرح حينما قبلت الرواية ونشرت، وكنت حين كتبتها متطوعة في مستشفى تابع للصليب الأحمر إبان الحرب العالمية الأولى).
اشتغلت كريستي في المستشفى خلال الحرب العالمية الأولى قبل زواجها وتكوين أسرة في لندن. وقالت إن بدايتها غير ناجحة في نشر أعمالها، ولكن في عام 1920 نشرت روايتها (قضية ستايلز غامضة) في صحيفة رئيس بدلي ومن هنا كانت انطلاقة مسيرتها الأدبية.
-
تعليمها
تلقت أجاثا تعليمها في البيت مثل فتيات كثيرات من العائلات الميسورة حسب التقليد آنذاك، ثمَّ التحقت بمدرسة في باريس وجمعت بين تعلم الموسيقى والتدريب عليها وبين زيارة المتاحف والمعارض الكثيرة في فرنسا ولم تعجب بأساطين الرسم الزيتي في القرنين السادس عشر والسابع عشر وتلك مسألة تنم عن غرابة وخروج على المألوف في مثل هذه الحالات.
-
الخيال الخلاق: منهج أجاثا كريستي في الكتابة
لطالما ردَّدت هذه الكاتبة، أن أعظم متعة يحس بها المؤلف هي اختراع الحبكاتِ..!! ففي قصصها ورواياتها كما في مسرحياتها نجد ذلك الكم الهائل من (الألغاز) و(الحبكات الغامضة) سواء كان ذلك في البناء القصصي أو المعمار الدرامي أو في الحوار أو الشخصيات، بل حتَّى في اختيار مواقع الأحداث التي غالباً ما تكون مشوقة: مواقع أثرية، مدن شرقية، معابد، قصور ذات طابع، فنادق مميزة، قطارات أو طائرات، مضايق صحارى مقطوعة، أنهار لها تاريخ… الخ،
في العادة تلجأ الكاتبة إلى تكنيك قصصي يستند إلى (الحيلة أو الخدعة) كأسلوب إثارة وتشويق مفعم بالغموض، محرك لخيالها الخصب، يستدرج لغتها السيالة الانسيابية في تيار متصل من السرد النثري المجرد والمتصف أحياناً بالأطناب والإطالة، ولكي تبعد الملل عن القارئ تعمد إلى إقحام بعض الألغاز والرموز التي تحتمل التأويلات والتفسيرات المتضادة في آن معاً، وبذلك تشد القارئ إلى متابعة الحدث دون أن تبتعد به عن المحور الأساسي للبناء الدرامي الذي خططت له بإتقان، لكي لا يخرج عملها مسطحاً فجاً.
وفي حالات قليلة تعمد إلى إدخال واقعة من حياتها في رواية أو قصة بعد إجراء تمويه يضيع فرصة الكشف عن حقيقتها، من ذلك ما أشار إليه (مالوان) في مذكراته فيما يخص رواية (التجويف) الممسرحة، يقول “وهناك إشارة ترتبط بحدث في حياتي أود أن أذكرها، يقول سير هنري في الرواية: ((هل تتذكرين يا عزيزتي أولئك الأشقياء الذين هاجمونا في ذلك اليوم في الجانب الآسيوي من البسفور؟
كنت أصارع اثنين منهم كانا يحاولان قتلي، وما الذي فعلته لوسي؟ أطلقت رصاصتين، لم أكن أعرف أنه لديها مسدس، كانت أصعب نجاة في حياتي)) هذه حكاية حقيقية والفرق الوحيد أن أجاثا على خلاف الليدي انكاتيل في الرواية كانت قد سلَّحت نفسها ليس بمسدس بل بصخرة مدورة.
“لم تأخذ أجاثا كريستي كروائية جرائم، أحداث رواياتها من سجلات الشرطة، أو المحاكم، كما فعل غيرها من كتَّاب روايات الجرائم أمثال روايات (مع سبق الإصرار والترصّد) ترومان كابوت 1967 و(أغنية الجلاد) نورمان ميللر 1979 و(إني اتهم) غراهام غرين 1981 و(جرائم قتل في أطلنطا) جيمس بولدوين 1985 وكذلك قصص سومرست موم المختلفة.
ثمَّة منهج مميز للكاتبة، أنها تبتعد عن التأويل الرمزي للحدث ومنح القارئ متعة الوصول إلى التأويل الواقعي وفك طلاسم الغموض والغوص في بحر التشابك الساحر لعلاقات أشخاص الرواية ببعضهم من جهة وبالحدث من جهة أخرى، وتضع الجميع: القارئ والحدث وأبطال الرواية تحت رهبة قدسية المكان الذي اختارته مسرحاً لأحداثها وغالباً ما يكون هذا الموقع كما ذكرنا أسطورياً ساحراً.!! وميزة أخرى: أنها تحرك الأبطال والأشخاص وفق صيغ دراماتيكية مزدحمة بالخلفيات والتفاصيل،
وتتصاعد حرارة الأحداث لتصدم القارئ بنهايات مفجعة، بيد أن الكاتبة تقدم تراجيديًا الفجيعة على أنها حدث عابر يتقبله القارئ المستمتع على أنه أمر لابدَّ منه. هكذا هي الحياة برأي أجاثا كريستي، تيار جارف متصل مفعم بالتفاصيل والمفردات لا تتوقف لانتظار أحد أو للحزن عليه، وكأنما بذلك تنبأت بنهاياتها، هكذا كان رحيلها يوم 12 يناير 1976، يقول (مالوان): عندما وصلت إلى الصفحات الأخيرة من هذه المذكرات توفيت عزيزتي أجاثا بسلام بينما كنت أدفع كرسيها ذي العجلات إلى حجرة الجلوس بعد تناول طعام الغذاء،
لا يعرف سوى القليلين معنى العيش بانسجام بجانب ذهن واسع الخيال مبدع يلهم الحياة بالحيوية، لقد كانت أجاثا كريستي، روائية مدهشة حقاً، امتلكت لغتها وأسلوبها وطريقتها في بناء الرواية، واحتفظت بذاكرة قوية تخدم تعاقب الأحداث في رواياتها وقصصها وتتفنن في تحريك أبطالها وفق السياق الدرامي الذي اختارته لكل رواية، وقد استخدمت الألغاز والخرافات والحقائق التاريخية أو المعاصرة على حد سواء وبنفس الدرجة من الوضوح أو الغموض.
- موقعها في الأدب البوليسي
تربعت أجاثا كريستي على عرش روايات الجرائم الإنكليزية طوال نصف قرن دون مزاحمة، ولعل دراسة الناقدة البريطانية (جوليان سيمونز) عن أدب الجريمة وتقنيات روايات الجرائم التي صدرت بعدة طبعات منذ عام 1985، تمنح أجاثا كريستي المكانة التي حققتها في ميدان أدب الجريمة على صعيد عالمي، وقارئ كريستي بالإنكليزية يلحظ دون أدنى شك أنها استخدمت لغة وسطى سلسة وسياله، أنها لم تكتب بلغة (شكسبيرية) عالية رغم أنها ارتقت بأعمالها عن مستوى الإنكليزية المتداولة أعني لغة المحادثة اليومية ولعل هذا يفسر رواج قصصها ورواياتها لدى الأوساط الشعبية في بريطانيا وأوروبا وما وراء البحار، كما يفسر سهولة ترجمتها إلى مختلف لغات العالم.