مقامات بديع الزمان الهمذاني

المقامة النيسابورية – بديع الزمان الهمذاني

حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: كُنْتُ بِنَيْسابُورَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَحَضَرْتُ المَفْرُوضَةَ، وَلَمَّا قَضَيْتُهَا اجْتَازَ بِي رَجُلٌ قَدْ لَبِسَ دَنِّيَّةً وَتَحَنَّكَ سُنِّيَّةً، فَقُلْتُ لِمُصَلٍّ بِجَنْبي: مَنْ هَذا؟ قَالَ:

هَذا سُوسٌ لا يَقَعُ إِلاَّ فِي صُوفِ الأَيْتامِ، وَجَرَادٍ لا يَسْقُطُ إِلاَّ عَلى الزَّرْعِ الحَرَامِ وَلِصٌّ لا يَنْقُبُ إِلاَّ خِزَانَةَ الأَوْقَافِ، وَكُرْدِيٌّ لاَ يُغِيرُ إِلاَّ عَلى الضِّعَافِ، وَذِئْبٌ لا يَفْتَرِسُ عِبَادَ اللهِ إِلاَّ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُحَارِبٌ لا يَنْهَبُ مَالَ اللهِ إِلاَّ بَيْن العُهُودِ وَالشُّهُودِ، وَقَدْ لَبِسَ دَنِّيَّتَهُ، وَخَلَعَ دِينِيَّتَهُ، وَسَوَّى طَيْلَسَانَهُ، وَحَرَّفَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ، وَقَصَّرَ سِبَالَهُ، وَأَطَالَ حِبَالَهُ، وَأَبْدَى شَقَاشِقَهُ، وَغَطَّي مَخَارِقَهُ وَبَيَّضَ لِحْيَتَهُ، وَسَّوَدَ صَحِيفَتَهُ، وَأَظْهَرَ وَرَعَهُ، وَسَتَرَ طَمَعَهُ.

فَقُلْتُ: لَعَنَ اللهُ هَذَا فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَجْلٌ أُعْرَفُ بِالإِسْكَنْدَرِيِّ، فَقُلْتُ: سَقي اللهُ أَرْضَاً أَنْبَتَتْ هَذا الفَضْلَ، وَأَباً خَلًّفَ هذا النَّسْلَ، فَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الكَعْبَةَ، فَقُلْتُ: بَخٍّ بَخٍّ بِأَكْلِهَا وَلَما تُطْبَخْ، وَنَحْنُ إِذاً رِفَاقٌ فَقَالَ:

كَيْفَ ذلِكَ وَأَنَا مُصَعِّدٌ وَأَنْتَ مُصَوِّبُ؟! قُلْتُ: فَكَيْفَ تُصَعِّدُ إِلَى الْكَعْبَةِ؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي أُرِيدُ كَعْبَةَ المُحْتَاجِ، لاَ كَعْبَةَ الحُجَّاجِ، وَمَشْعَرَ الكَرَمِ، لاَ مَشْعَرَ الحَرَمِ، وَبَيْتَ السَّبْيِ، لا بَيْتَ الهَدْيِ، وَقِبْلَةَ الصِّلاتِ، لا قِبْلِةَ الصَّلاةِ، وَمِنَى الضَّيْفِ، لا مِنَى الخَيْفِ، قُلْتُ:

وَأَيْنَ هَذِهِ المَكَارِمُ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

بِحَيثُ الدِّينُ وَالمَلِكُ المُـؤَيَّدْ *** وَخَدُّ المَكْرُمَاتِ بِهِ مُـوَرَّدْ

بِأَرْضٍ تَنْبُتُ الآمَالُ فِـيهَـا *** لأنَّ سَحَابَهَا خَلَفُ بْنُ أَحْمَدُ

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى