مقامات بديع الزمان الهمذاني

المقامة القريضية – مقامات بديع الزمان الهمذاني

 

حَدّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: طَرَحَتْنيِ النّوَى مَطَارِحَهَا حَتّى إذَا وَطِئْتُ جُرْجَان الأَقْصى. فاسْتَظْهَرْتُ عَلَى الأَيامِ بِضِياعٍ أَجَلْتُ فِيهاَ يَدَ الْعِمَارةِ، وَأَمْوَالٍ وَقَفْتُهَا عَلى التّجَارَةِ، وَحَانُوتٍ جَعَلْتُهُ مَثَابَةٍ، وَرُفْقَةٍ اتّخَذْتُهَا صَحَابَةً، وَجَعَلْتُ لِلْدّارِ، حَاشِيَتَيِ النّهَار، وللحَانُوتِ بَيْنَهُمَا، فَجَلَسْنَا يَوْمًا نَتَذَاكَرُ القرِيضَ وَأَهْلَهُ، وَتِلْقَاءَنا شَابّ قَدْ جَلَسَ غَيْرَ بَعِيدٍ يُنْصِتُ وَكَأَنّهُ يَفْهَمُ، وَيَسْكتُ وَكَأَنّهُ لَا يَعْلَمُ حَتّى إِذَا مَالَ الكَلَامُ بِنَا مَيْلَهُ، وَجَرّ الْجِدَالُ فِينَا ذَيْلَهُ،

قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمْ عُذَيَقَهُ، وَوَافَيتُمْ جُذَيْلَهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَلَفْظْتُ وَأَفَضْتُ، وَلَوْ قُلْتُ لأَصْدَرْتُ وَأَوْرَدْتُ، وَلَجَلَوْتُ الْحقّ في مَعْرَضِ بَيَانٍ يُسْمِعُ الصُّمَّ، وَيُنزلُ الْعُصْمَ، فَقُلْتُ: يَا فَاضِلُ أدْنُ فَقَدْ مَنَّيْتَ، وَهَاتِ فَقَدْ أَثْنَيتَ، فَدَنَا وَقَالَ: سَلُونِي أُجِبْكُمْ، وَاسْمَعُوا أُعْجِبْكُمْ. فَقُلْنَا: مَا تَقُولُ فِي امْرِىءِ الْقَيسِ؟ قَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ وَقَفَ بِالدِّيارِ وَعَرَصَاتِهَا، وَاغْتَدَى وَالطَّيرُ فِي وَكَنَاتِهَا، وَوَصَفَ الْخيلَ بِصِفَاِتهَا، وَلَمْ يَقُلِ الشِّعْرَ كَاسِيًا. وَلَمْ يُجِدِ القَوْلَ رَاغِبًا، فَفَضَلَ مَنْ تَفَتَّقَ للْحِيلةِ لِسَانُهُ، وَاْنتَجَعَ لِلرَّغْبَة بَنَانُهُ، قُلْنَا: فَما تَقُولُ فِي الْنَّابِغَةِ؟ قالَ:

يَثلِبُ إِذَا حَنِقَ، وَيَمْدَحُ إِذَا رَغِبَ، وَيَعْتَذِرُ إِذَا رَهِبَ، فَلَا يَرْمي إِلَّاصَائِبًا، قُلْنَا:فَمَا تَقُولُ فِي زُهَيرٍ؟ قَالَ يُذِيبُ الشِّعرَ، والشعْرُ يُذيبَهُ، وَيَدعُو القَولَ وَالسِّحْرَ يُجِيبُهُ، قُلْنَا: فَمَا تَقُولُ فِي طَرَفَةَ: قَالَ: هُوَ ماَءُ الأشْعَارِ وَطينَتُها، وَكَنْزُ الْقَوَافِي وَمَديِنَتُهَا، مَاتَ وَلَمْ تَظْهَرْ أَسْرَارُ دَفَائِنِهِ وَلَمْ تُفْتَحْ أَغْلَاقُ خَزَائِنِهِ، قُلْنَا: فَمَا تَقُولُ فِي جَرِيرٍ وَالْفَرَزْدَقِ؟ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ؟ فَقَالَ: جَرِيرٌ أَرَقُّ شِعْرًا، وَأَغْزَرُ غَزْرًا وَالْفَرَزْدَقُ أَمْتَنُ صَخْرًا، وَأَكْثَرُ فَخْرًا وَجَرِيرٌ أَوْجَعُ هَجْوًا، وَأَشْرَفُ يَوْمًا وَالْفَرَزْدَقُ أَكَثَرُ رَوْمًا، وَأَكْرَمُ قَوْمًا، وَجَرِيرٌ إِذَا نَسَبَ أَشْجَى، وَإِذَا ثَلَبَ أَرْدَى، وَإِذَا مَدَحَ أَسْنَى، وَالْفَرزدقُ إِذَا افْتَخَرَ أَجْزَى، وَإِذَا احْتَقرَ أَزرَى، وَإِذا وصَفَ أَوفَى، قُلنَا: فَمَا تَقُولُ فِي المُحْدَثِينَ منْ الشُّعَراءِ والمُتَقَدِّمينَ مِنهُمْ؟ قالَ: المُتَقَدِّمونَ أَشْرفُ لَفْظًا، وَأَكثرُ منْ المَعَاني حَظًا، وَالمُتَأَخِّرونَ أَلْطَفُ صُنْعًا، وَأَرَقُّ نَسْجًا، قُلْنا: فَلَو أَرَيْتَ مِنْ أَشْعارِكَ، وَرَوَيْتَ لَنا مِنْ أَخْبارِكَ، قالَ: خُذْهَما في مَعْرِضٍ واحِدٍ، وَقالَ:

أَما تَرَوْني أَتَغَشَّى طِمْرًا *** مُمْتَطِيًا في الضُّرِّ أَمْرًا مُرًّا

مُضْطَبنًا عَلى اللَّيالي غِمَرًا *** مُلاقِيًا مِنْها صُرُوفًا حَمْرَا

أَقْصَى أَمانِيَّ طُلُوعُ الشِّعْرى *** فَقَد عُنِينَا بِالأَمَاني دَهْرًا

وَكانَ هذَا الحُرُّ أَعْلى قَدْرًا *** وَماءُ هذَا الوَجْهِ أَغْلى سِعْرَا

ضَرَبْتُ لِلسَّرّا قِبَابًا خُضْرَا *** فِي دَارِ دَارَا وَإِوَانِ كِسْرى

فَانْقَلَبَ الدَّهْرُ لِبَطْنٍ ظَهْرا *** وَعَادَ عُرْفُ العَيْشِ عِنْدي نُكْرَا

لَمْ يُبْقِ مِنْ وَفْرِى إِلَّاذِكْرَا *** ثُمَّ إِلى اليَوْمِ هَلُمَّ جَرَّا

لَوْلا عَجُوزٌ لِي بِسُرَّ مَنْ رَا *** وَأَفْرُخٌ دونَ جِبَالِ بُصْرَى

قَدْ جَلَبَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمْ ضُرَّا *** قَتَلْتَ يَا سَادَةُ نَفْسي صَبْرَا

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ، فَانَلْتُهُ مَا تَاحَ. وَأَعْرَضَ عَنَّا فَرَاحَ. فَجَعَلْتُ أَنْفيهِ وَأُثْبتُهُ، وَأَنْكِرُهُ وَكَأَنِّي أَعْرِفُهُ، ثُمَّ دَلَّتْنِي عَلَيهِ ثَنَاياهُ، فَقُلْتُ: الإِسْكَنْدَريُّ وَاللَّهِ، فَقَدْ كَانَ فَارَقَنَا خِشْفًا، وَوَافانا جِلْفًا، وَنَهَضْتُ عَلى إِثرِهِ، ثَمَّ قَبَضْتُ عَلَى خَصْرِهِ، وَقُلْتُ: أَلَسْتَ أَبَا الفَتْحِ؟ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ فَأَيُّ عَجُوزِ لَكَ بِسُرَّ مَنْ رَا فَضَحِكَ إِليَّ وَقَالَ:

وَيْحَكَ هذَا الزَّمَان زُورُ *** فَلَا يَغُرَّنَّكَ الغُرُورُ

لَا تَلْتَزِمْ حَالَةً، وَلكِنْ *** دُرْ بِالَّليَالِي كَمَا تَدُورُ.

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى