المقامة النهيدية – بديع الزمان الهمذاني
حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ: مِلْتُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحابي إِلى فِنَاءِ خَيْمَةٍ أَلْتَمِسُ القِرى مِنْ أَهْلِها، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَجُلٌ حُزُقَةٌ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقُلْنَا: أَضْيافٌ لمْ يَذُوقُوا مُنْذُ ثَلاثٍ عَدُوفاً،
قَالَ: فَتَنَحْنَحَ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا رَأْيُكُمْ يَا فِتْيَانُ فِي نَهِيدَةِ فِرْقٍ كَهامَةِ الأَصْلَعِ، في جَفْنَةٍ رَوْحاءَ، مُكَلَّلَةٍ بِعَجْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ أَكْتارِ جَبَّارٍ رَبُوضٍ الوَاحِدَةُ مِنْهَا تَمْلأُ الفَمَ، مِنْ جَماعَةٍ خُمْصٍ عُطْشِ خِمْسِ، يَغِيبُ فِيهَا الضِّرْسُ،
كَأَنَّ نَوَاهَا أَلْسُنُ الطَّيْرِ يَجْحَفُونَ فِيهَا النَّهِيدَةَ مَعْ أَقْعُبٍ قَدِ احْتُلِبنَ مِنَ الجِلادِ الهَزْمِيَّةِ الرَّبْلِيَّةِ أَتَشْتَهُونَهَا يا فِتْيَانُ؟ فَقُلْنَا: إِي وَاللهِ نَْشَتهيهَا.
فَقَهْقَهَ الشَّيْخُ وَقالَ: وَعَمُّكُمْ أَيْضَاً يَشْتَهِيهَا، ثُمَّ قَالَ: فَما رَأْيُكُمْ يا فِتْيَانُ فِي دَرْمَكٍ كَأَنَّهَا قِطَعُ السَّبَائِكِ تُجَرْثمُ عَلى سُفْرَةٍ حَرْتِيَّةٍ بِها رِيحُ القَرَظِ فَيَثِبُ إِلَيْهَا مِنْكُمْ فتى رَفِيفٌ، لَبِقٌ خَفِيفٌ، فَيَعَجُنُهُ مِنْ غَيْرِ أَن يَرْجُفَهُ أَوْ يَخْشِفَهُ،
فَيُزِيُلهُ دُونَ مَلْكٍ نِاعِمٍ، ثُمَّ يَلُتُّهُ بِالسَّمَارِ أُوْ المَذْقِ لَتّاً غَزِيراً، ثُمَّ يَعْمَدُ إِلَيْهِ فَيَلْويهِ وَيَدَعُهُ في نَاحِيَةِ الصَّيْدَاءِ، حَتَّى إِذَا تَخَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْزُرَ عَمَدَ إِلى قَصَدِ الغَضَا فَأَشْعَلَ فِيهِ النَّارَ فَلَمَّا خبَتْ نَارُهُ، مَهَّدَ لِقُرْمُوصِهِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى عَجِينِهَ فَفَرْطَحَهُ بَعْدَ مَا أَنْعَمَ تَلْويِثَهُ،
ثُمَّ دَحَا بِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ خَمَّرَهُ فَلَمّضا قَفَّ وَقّبَّ أَحالَ عَلَيهِ مِنَ الرَّضْفِ ما يَلْتَقِي بِهِ الأَوَارَانِ، حَتّضى إِذَا غَطَّاهُمَا عَلى المَلَّةِ المُشاكِهَةِ بِطَبَقٍ وَتَفَلَّجَ شِقَاقَاً، وَحَكى قِشْرُها رُقَاقاً، وَاحْمِرَارُهَا احْمِرارَ بُسْرِ الحِجازِ المَشْهُورِ بِأُمِّ الجِرْذَانِ أَوْ عَذِقِ بْنُ طَابٍ شُنَّ عَلَيْهَا ضَرْبٌ بَيْضاءُ كَالثَّلْجِ إِلَى أَوَانِ رُسُوخِها فِي خِلالِ الدِّهانِ،
وَيَشْرَبُ لُبُّ الدَّرْمَكِ ما عَلَيْهِ مِنَ الضَّرْبِ، قُدِّمَتْ إِلَيْكُمْ فَتَلْقَمُونَها لَقْمَ جُوَيْنٍ أَوْ زَنْكَلٍ أَفَتَشْتَهُونَهَا يَا فِتْيَانُ؟ قَالَ: فَاشْرَأَبَّ كُلُّ مِنَّا إِلى وَصْفِهِ، وَتَحَلَّبَ رِيقُهُ وَتَلَمَّظَ، وَتَمَطَّقَ، قُلْنَا: إِي وَاللهِ نَشْتَهيها.
قَالَ: فَقَهْقَهَ الشَّيْخُ وَقَالَ: وَعَمُّكُمْ واللهِ لا يُبْغِضُهَا ثُمَّ قَالَ: ما رَأْيُكُمْ يا فِتْيِانُ في عَنَاقٍ نَجْدِيٍة، عُلْوِيَّةٍ بَرِّيَّةٍ، قَدْ أَكَلَتِ البَرَمَ وَالشِّيحَ النَّجْدِيَّ وَالقَيْصُومَ وَالهَشِيمِ، وَتَبَرَّضَتِ الحَمِيمَ، وَتَملاتْ مِنَ القَصِيصِ فَوَرى مُخُّها، وَزَهِمَتْ كُشْيَتُهَا تُشْحَطُ مُعْتَبَطَةٍ ثُمَّ تُنْكَسُ في وَطِيسٍ حَتَّى تَنْضَجَ مِنْ غَيْرِ امْتِحَاشٍ أَوْ إِنْهَاءٍ،
ثُمَّ تُقَدَّمَ إِلَيْكُمْ وَقَدْ عُطَّ إِهَابُهَا عَنْ شَحْمَةٍ بَيْضاءَ عَلَى خِوانٍ مُنَضَّدٍ بِصَلاِئَق كَأَنَّهَا القَبَاطِيُّ المُنَشَّرُ، أَوِ القُوهِيُّ المُمَصَّرُ، وَقًدْ احْتَفَّتْها نُقْرَاتٌ فِيها صِنَابٌ وَأَصْباغٌ شَتَّى، فَتُوضَعُ بَيْنَكُمْ تَهَادَرُ عَرَقاً، وَتَسايَلُ مَرَقاً، أَفَتَشْتَهُونَهَا يا فِتْيَانُ؟ قُلْنا: إِي وَاللهِ نَشْتَهِيها.
قَالَ: وَعَمُّكُمْ واللهِ يَرْقُصُ لَهَا، فَوَثَبَ بَعْضُنَا إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ: مَا يَكْفِي مَا بِنَا مِنَ الدَّقَعِ حَتَّى تَسْخَرَ بِنَا؟ فَأَتتْنا ابْنَتُهُ بِطَبَق عَلَيْهِ جِلْفَةٌ وَحُثَالَةٌ وَلَوِيَّةٌ وَأَكْرَمَتْ مَثْوَانَا، فَانْصَرَفْنَا لَهَا حَامِدِينَ، وَلَهُ ذَامِّينَ.