فكر وفلسفة

في النقد الفلسفي المعاصر

ماذا تبقّى للفلسفة بعدما انتزعت منها العلوم الدقيقة والإنسانية أهم موضوعاتها، فصارت للإنسان علومه، وللمجتمع علومه، وللطبيعة علومها، وللتاريخ مَباحِثُه؟


يحتل هذا السؤال موقعاً أساسياً في كتاب محمد نور الدين أفاية “في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية” المتوّج بجائزة أهم كتاب عربي لموسم 2015 التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي ببيروت. ولعل عنوان الكتاب يهجس بالجواب. فالحل الذي اهتدت إليه الفلسفة المعاصرة لتجاوز أزمة غياب الموضوع هو اعتماد النقد أفقًا جوهريًا للتفكير.


لذلك عاد أفاية في كتابه إلى “قرن النقد” (القرن 18 الأوروبي) متوقفًا عند كانط، واضعاً أسس الاتجاه النقدي في الفلسفة الغربية، الذي ظل يدافع عن الاستعمال العمومي للنقد في كل المجالات.


أما النمط الثاني من النقد الذي توقف عنده فهو النقد الماركسي. ومعلوم أن ماركس الذي انطلق من نقد الدين إلى نقد الفلسفة إلى نقد الدولة فَنقد المجتمع كان يرى أنه يتعين على النقد، لكي يصبح ذا فعالية، أن يرتبط بالعمل السياسي. فوحده الالتقاء بين النقد والسياسية كفيلٌ بإحداث التغيير في المجتمع.


وبقدر ما حرص المؤلف على متابعة التحولات التي عرفتها الفلسفة المعاصرة، وهي تكرس النقد قاعدةً جوهرية لها مع أجيال من الفلاسفة بدءاً بمفكري النظرية النقدية (ماركوز ومن معه)، حتى فلاسفة الاختلاف (فوكو، دريدا، دولوز)، مروراً بعقلانية هابرماس النقدية.


بقدر ما ظل متوجسًا من الفكر النقدي “المزيف” الذي تنتجه “مراكز التفكير” التابعة لمؤسسات النظام الليبرالي والمرتبطة بلوبياته السياسية ومؤسساته المالية الضخمة، والتي تقدم نفسها كفضاءات حرة لممارسة التفكير النقدي في ما تُستَخْدَم، في الغالب، لتبرير سياسات تحكُّمِية لا تكفّ عن خلق المزيد من أسباب الاستلاب.


فأمثال هذه المراكز لا تتردّد في تسويغ تفكيك كيانات “وطنية” باسم الحق في الاختلاف، دون أن تنتبه إلى أنها تُعرّض “مقومات العيش المشترك” إلى التهديد. فباسم الحق في التنوع فتحتنا العولمة على المزيد من “البلقنة” و”القبلية” و”الطائفية” و”التشنُّج الهوياتي”.


وإذا كان الجزء الأول من الكتاب قد اهتم بالمصادر الغربية للنقد الفلسفي المعاصر، فإن أفاية خصص القسم الأخير لتجلياته العربية ملاحظًا أن الليبرالية والماركسية والوجودية وغيرها من الاتجاهات الفكرية ظلت لدينا سجينة أطُرها المرجعية الأصلية،


قبل أن تتحوّل إلى إيديولوجيا تكرّس اللاعقل في الوقت الذي لا تكفّ عن ادعائه. هكذا صار التضخم الإيديولوجي في فكرنا العربي المعاصر “عائقاً تاريخياً” يكبّل العقل ويساعد على انتعاش التديّن السطحي.


ومع ذلك هناك فلاسفة عرب معاصرون نجحوا في تجاوز “نمط التفكير الإيديولوجي” ليقترحوا علينا مشاريع جادة جعلتهم “ينتمون بجدارة إلى الفكر النقدي الإنساني” بعدما بنوا صروحهم الفكرية في احتكاك مباشر بتاريخ الأفكار الفلسفية التي أنتجها الغرب.


هكذا توقف أفاية عند النزعة النقدية التي سيطرت على فكر عبد الله العروي في “الإيديولوجية العربية المعاصرة” ودعوته إلى إقامة الدولة العصرية وإدماج التاريخانية في الفكر العربي، وأفرد فصلاً كاملاً لمشروع نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري مقارناً إياه بالنقدية الكانطية في نقد العقل الخالص والعملي.


كما توقف عند مفهوم “النقد المزدوج” كما بلوره عبد الكبير الخطيبي الذي استلهم تصوراته الفلسفية من التفكيكية، وكذا ناصيف نصّار الذي لا يُخفي أفاية تعاطفه مع توقه إلى “الاستقلال الفلسفي”.


لكن هل من مستقبلٍ لهذا الأفق النقدي في عالم عربي تتقاسم السيطرة عليه الآلة الكاسحة للاتجاه النيوليبرالي، والنزعة الاستهلاكية من جهة، ومختلف أنواع النزوعات المذهبية والطائفية والقبلية من جهة أخرى؟

ياسيــن عدنـان

ياسين عدنان؛ أديب وإعلامي مغربي. مُعد ومقدِّم برنامج (مشارف) الثقافي الذي يبثه التلفزيون المغربي أسبوعيًا على قناته "الأولى". صدر له في الشعر: (مانيكان) اتحاد كتاب المغرب 2000، (رصيف القيامة) دار المدى بدمشق 2003، (لا أكاد أرى) دار النهضة ببيروت 2007، و(دفتر العابر) دار توبقال بالبيضاء 2012. وفي القصة: (من يصدّق الرسائل؟) عن دار ميريت بالقاهرة 2001، (تفّاح الظّل) مجموعة البحث في القصة بالمغرب 2006، و(فرح البنات بالمطر الخفيف) مختارات قصصية عن دار العين في 2013. أعدّ وحرّر كتاب (شهرزاد المغربية: شهادات ودراسات عن فاطمة المرنيسي) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في يناير 2016. صدر له عن دار مرسم بالرباط كتابان عن مراكش، الأول بالاشتراك مع سعد سرحان تحت عنوان (مراكش: أسرار معلنة) 2008، والثاني جماعي من تنسيقه وتحريره تحت عنوان (مراكش: أماكن دارسة)2018 . وله قيد الطبع (مراكش نوار) أنطولوجيا قصصية من تحريره ستصدر بالإنجليزية عن دار نشر أكاشيك بنيويورك. روايته الأولى (هوت ماروك) صدرت طبعتها الأولى سنة 2016 في طبعة مغربية عن دار الفنك وأخرى عربية عن دار العين بالقاهرة وبلغت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى