الرهطوريقا (Rhétorique): تحولات في الفكر الغربي الحديث

من أداة الإقناع إلى تحليل الخطاب

عندما نتتبع مسار الرهطوريقا بعد العصور الكلاسيكية، نرى أنها لم تَبقَ حكرا على قواعد الخطابة أو نظرية الإقناع فحسب؛ بل انفتحت تدريجيا على مشكلات أوسع: طبيعة الخطاب كإنتاج معرفي، علاقته بالسلطة، آليات التمثيل الاجتماعي، ووظائفه في تصميم الواقع. هذا المقال يدرس التحولات المفاهيمية والمنهجية التي نقلت الرهطوريقا من إطار تقني إلى إطار نقدي/أنطولوجي يُحلّل الخطاب بوصفه بنية اجتماعية وسياسية.

في الفترات التاريخية اللاحقة للنهضة، انحصر الاهتمام بالبلاغة تدريجيا تحت ضغط تصاعد مناهج العقلانية العلمية والمنطق الصوري. بدلا من أن تُعدّ البلاغة علما منظما لبناء المعنى العامّ، تم تقليصها في مناهج تعليم الخطاب والآداب.

لكن ذلك لم يَقضِ على وظائفها الاجتماعية: فقد حافظت البلاغة على دورها في التنشئة السياسية والثقافية، بينما بدأت مفاهيم أخرى (مثل «الخطاب» discourse) تستأثر بالتحليل النظري المعمق للنظام الدلالي داخل المجتمع.

المغزى المنهجي: هذا الانحسار سمح لاحقا لظهور مناهج بديلة تطرح الأسئلة الكبرى: كيف تُوَظَّف اللغة لصوغ المعرفة؟ من الذي يملك حقّ تحديد معنى الأشياء؟

التبدّل المفصلي حدث حين نظر المفكّرون في القرن العشرين إلى الخطاب بوصفه إطارا يُنظّم المعرفة ويُؤسس للسلطة. روّج ميشيل فوكو لفكرة أن «الخطاب» ليس مجرد تجميع كلامي بل نظام إنتاج للمعرفة: ممارسات خطابية تُنظّم ما يمكن قوله، ما يُحسب معرفة، ومن يملك سلطة التحدث. هذا التحوّل يجعل من الرهطوريقا أداة لفهم كيف تُنتج المؤسّسات المعنى وتُشرعن ممارسات معينة.

آثار منهجية: تحليل الخطاب لم يعد يعنى بكيفيّة إقناع جمهورٍ ما فحسب، بل بكيفية تشكيل مجالات المعرفة نفسها (الطب، الجنون، الجنسانية، القانون…).

ملاحظة نقدية: مقاربة فوكو تركز على العلاقات السّلطوية داخل الممارسات الخطابية، فتضع الرهطوريقا أمام سؤال أوسع: كيف تُستَخدم استراتيجيات الإقناع لتأسيس نظم حكم ومعرفة؟

مرجع مركزي: Michel Foucault, The Archaeology of Knowledge.

في موازاة البحوث البنيوية والنقدية، أخذت فلسفة اللغة منحى براغماتيا يركّز على الأفعال الكلامية (speech acts). جون أوستن وصلا إلى نتيجة مفادها أن القول ليس مجرّد نقل محتوى، بل فعل يُنجز أمورا (وعد، أمر، تعهّد…). هذا التوجّه أعاد النظر في وظيفة الخطاب: ليس فقط نقل معلومات، بل إحداث تغيير في العالم عبر الكلام.

الربط بالرهطوريقا: الرهطوريقا الحديثة تستعير من نظرية الأفعال الكلامية فَهْما عمليّا للخطاب: أي تحليل للآثار الفعلية للخطاب في العالم الاجتماعي (التشريع، السياسة، العقود).

مراجع: J. L. Austin, How to Do Things with Words؛ John Searle، مقالاته عن الأفعال الكلامية.

نموذجان مهمان أثّرا في إعادة تأهيل الرهطوريقا:

أهمية منهجية: كلا النموذجين حرَّكا الرهطوريقا بعيدا عن التزيين الكلامي إلى دراسة قواعد النقاش والفحص النقدي للمنطق العملي للحوار.

مع بروز البنيوية والسيميائية في القرن العشرين، انفتح التحليل البلاغي على نماذج تُعالج «النظام الدلالي» في النصوص والمرئيات. رولان بارت فصّل آليات «الأسطورة» وكيف تتحوّل العلامات إلى رسائل ثقافية؛ أمبرتو إيكو بحث في نظم العلامات وإمكانيات التأويل. هذه المدارس زوّدت الرهطوريقا بأدوات تحليل طبقات الدلالة وتداخلها في الأنساق الثقافية.

استنتاج: قدرة مُحسّنة على فك تشفير معاني الإعلانات، وأساليب الدعاية، والصور الإعلامية كأنظمة رمزية مركبة.

طرح ميخائيل باختين مفهوم الحوارية (dialogism) الذي يرى المعنى كسياق تواصلي دائم التشكّل عبر تعددية الأصوات (heteroglossia). هذا التقدّم يجعل تحليل الرهطوريقا يستوعب الضجيج الصوتي لخطابات المجتمع: تعدد الفاعلين، تقاطعات الأيديولوجيات، وتداخل الأزمنة النصية.

تبعات منهجية: بدل أن يكون النص وحدة مغلقة تُحَلَّل، صار علينا تحليل شبكات الأجاويب (responsiveness) والعلاقات الخطابية بين الأصوات المختلفة.

في القرن الحادي والعشرين، سمات الوسائط الجديدة (التداخُل، السرعة، الانتشار الفيروسي، الخوارزميات) أعادت صياغة أدوات التحليل البلاغي:

استنتاج منهجي حديث: تحليل الرهطوريقا المعاصر يجب أن يجمع بين النقد النصي التقليدي، منهجيات تحليل الشبكات الرقمية، ونماذج قياس التأثير (engagement metrics) — لأن التأثير اليوم لا يقاس بالنطق وحده بل بمدى الاستجابة الرقمية والتفاعلية.

التحولات أعلاه تفتح أمام الباحث العربي إمكانات منهجية مهمة:

خلاصة عامة:

  1. تحوّل معنى الرهطوريقا: من مهارة إقناع فردية إلى إطار نظري لتحليل أنظمة المعنى والسلطة.
  2. تعدّد المدارس: براغماتية، سيميائية، نقدية-فوتشيانية، حوارية — كلّها أضافت أدوات تُثري تحليل الخطاب.
  3. منهجية مُعاصرة مطلوبة: دمج نقد النصوص، نظرية الحجاج، تحليل الشبكات الرقمية، ونماذج قياس التأثير لقراءة «رهطوريقا العصر الرقمي».

مراجع:

  1. Michel Foucault, The Archaeology of Knowledge (1969).
    https://archive.org/details/archaeologyofkno0000fouc
  2. J. L. Austin, How to Do Things with Words (1962).
    https://archive.org/details/HowToDoThingsWithWords-JLAustin
  3. Chaim Perelman & Lucie Olbrechts-Tyteca, The New Rhetoric: A Treatise on Argumentation (1958/1969).
    https://archive.org/details/newrhetorictreat00peri
  4. Lloyd F. Bitzer, “The Rhetorical Situation,” Philosophy & Rhetoric 1(1), 1968.
    (نسخة نصية متاحة): https://www.jstor.org/stable/40236875.
  5. Kenneth Burke, A Rhetoric of Motives (1950).
    https://archive.org/details/rhetoricofmotive0000burk
  6. John Searle, Speech Acts: An Essay in the Philosophy of Language (1969).
    https://archive.org/details/speechactsanessa00sear
  7. Frans van Eemeren & Rob Grootendorst, Argumentation, Communication, and Fallacies: A Pragma-Dialectical Perspective (1984).
    تحقق (مقدمة وملخصات): https://www.jstor.org/stable/40236875.
  8. Roland Barthes, Mythologies (1957).
    https://archive.org/details/mythologies00bartrich
  9. Mikhail Bakhtin, Speech Genres & Other Late Essays (1986).
    https://archive.org/details/speechgenresother00bakh
Exit mobile version