الرهطوريقا: البدايات الإغريقية لفن الإقناع وبناء خطاب الحجاج

Rhetorica

تُعتبر الرهطوريقا (Rhetorica)؛ من أكثر المفاهيم الفكرية حضورا في تاريخ الفكر الإنساني، إذ لم تكن مجرد تقنية لغوية للإقناع، بل شكلت منذ نشأتها في اليونان القديمة منظومة فكرية متكاملة تمزج بين اللغة والمنطق والسياسة والأخلاق.

لقد كانت الرهطوريقا، قبل كل شيء، فنّا مدنيا، هدفه إقناع الجمهور داخل الفضاء العمومي الأثيني، أي في المحاكم والمجالس السياسية، مما يجعلها أصلا لكل تفكير لاحق في الخطاب العام والسلطة الرمزية.

شهد القرن الخامس قبل الميلاد ظهور مفهوم الرهطوريقا بوصفه جزءا من التعليم العمومي في أثينا، المدينة التي كانت الديمقراطية فيها تتأسس على الخطاب والإقناع.

فالمواطن الأثيني لم يكن يمتلك سلطة سياسية إلا من خلال قدرته على الحديث أمام الجمهور. وهكذا ظهرت طبقة من المعلمين سُمّوا السفسطائيين (Sophists)، مثل بروتاغوراس وغورغياس، الذين اعتبروا أن اللغة أداة للسيطرة والتأثير، وأن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية، تُبنى بالخطاب لا بالعقل المجرد.

لكن هذا الفهم العملي أثار نقد سقراط وأفلاطون، اللذين رأيا أن الرهطوريقا، كما مارسها السفسطائيون، تميل إلى التلاعب بالعقول بدل السعي إلى الحقيقة. في حواره فيدروس، وصف أفلاطون الخطابة بأنها “فن الإقناع بلا معرفة”، واعتبرها ظلا زائفا للفلسفة.

جاء أرسطو (384–322 ق.م) ليمنح الرهطوريقا مكانتها العلمية المستقلة، جامعا بين الممارسة الخطابية والفكر الفلسفي.
في كتابه الرهطوريقا (Rhetoric)، وضع أرسطو أول تعريف منهجي لهذا الفن، معتبرا أنه:

“القدرة على اكتشاف الوسائل الممكنة للإقناع في كل حالة.”

لقد حوّل أرسطو الرهطوريقا من مجرد فن عملي إلى علم قائم على مبادئ عقلية، محددا ثلاث ركائز أساسية لأي خطاب ناجح:

  1. اللوغوس (Logos): قوة الحجة المنطقية.
  2. الإيثوس (Ethos): مصداقية المتكلم وسمعته الأخلاقية.
  3. الباثوس (Pathos): التأثير في عواطف الجمهور.

هذه الثلاثية الأرسطية أصبحت لاحقا الأساس النظري لكل أشكال البلاغة الحديثة، بما في ذلك تحليل الخطاب السياسي والإعلامي والإشهاري.

انتقل الإرث الأرسطي إلى روما، حيث طوّره خطباء كبار مثل شيشرون (Cicero) وكوينتيليان (Quintilian)، اللذين اعتبرا الخطابة فنا أخلاقيا وسياسيا في آنٍ واحد.

يقول شيشرون في De Oratore إن الخطابة “هي فنّ توظيف اللغة لخدمة الخير العام”، بينما ركّز كوينتيليان في Institutio Oratoria على أن الخطيب الجيد هو المواطن الصالح، أي أن الإقناع الحقيقي لا ينفصل عن الأخلاق.
بهذا المعنى، أصبحت الرهطوريقا في العصر الروماني مؤسسة للتنشئة السياسية والأخلاقية، وأساسا لتكوين النخبة المتحدثة باسم الدولة.

رغم أن المصطلح “رهطوريقا” لم يدخل الثقافة العربية إلا متأخرا عبر الترجمات، فإن البلاغة العربية الكلاسيكية كانت تمتلك جوهر هذا التفكير منذ بداياتها.

فـ”البيان” و”المعاني” و”البديع” عند العرب، خصوصا عند عبد القاهر الجرجاني، تعبّر عن رؤية متكاملة للخطاب تقوم على التناسب بين اللفظ والمعنى والمقام والمخاطَب، وهي نفس الوظائف التي تحدد طبيعة الرهطوريقا في الفكر اليوناني.

من هنا يمكن القول إن العرب مارسوا الرهطوريقا دون أن يسمّوها باسمها اليوناني، وأنهم أسّسوا بلاغة ذات طابع تحليلي وجمالي في الوقت نفسه.

يُظهر تتبّع نشأة الرهطوريقا أن هدفها لم يكن مجرد تجميل القول أو تزيين اللغة، بل تأسيس ثقافة الحوار والإقناع داخل المجتمع المدني.

فهي جوهر الفعل الديمقراطي: لا سلطة دون خطاب، ولا خطاب دون منطق وحجّة. ومن هنا، اكتسبت الرهطوريقا أهمية جديدة في الفكر الحديث، باعتبارها جذور الوعي النقدي والسياسي، ومرآة تطور الفكر الأوروبي منذ أرسطو حتى هايدغر وهبرماس.

تمثل البدايات الإغريقية للرهطوريقا لحظة تأسيسية في تاريخ الفكر الإنساني، لأنها أرست علاقة ثلاثية بين اللغة والعقل والسلطة.

لقد وُلدت الرهطوريقا كفن للإقناع، لكنها تطورت لتصبح علما لفهم الإنسان والخطاب والمجتمع. وما تزال إلى اليوم مرجعا لا غنى عنه لفهم بنية التواصل البشري وإدراك كيف تُبنى الحقيقة داخل الفضاء العمومي.

  1. Aristotle. Rhetoric. Trans. W. Rhys Roberts. Oxford University Press, 2004.
    archive.org/details/aristotlerhetoric
  2. Kennedy, George A. Classical Rhetoric and Its Christian and Secular Tradition from Ancient to Modern Times. University of North Carolina Press, 1999.
    archive.org/details/classicalrhetorickennedy
  3. Cicero. De Oratore. Trans. E. W. Sutton. Harvard University Press, 1942.
    archive.org/details/deoratoredvol1cice00cice
  4. Quintilian. Institutio Oratoria. Loeb Classical Library, Harvard University Press, 1920.
    archive.org/details/institutioorator01quin
  5. عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز. دار المعارف، القاهرة، 1960.
    archive.org/details/dalaeleljaz
Exit mobile version