لم يكن احتلال الولايات المتحدة لهايتي عام 1915 حدثا عابرا في سياق العلاقات الأمريكية الكاريبية، بل يُمثل نموذجا مبكرا لما عُرف لاحقا بـ”عقيدة التدخل الوقائي” تحت غطاء نشر الاستقرار والديمقراطية. هذا التدخل العسكري الذي استمر حتى 1934 كشف عن البعد الإمبريالي الاقتصادي والسياسي في السياسات الخارجية الأمريكية، خاصة تجاه دول الجنوب الضعيفة.
في هذا المقال، نتناول حيثيات هذا الاحتلال، جذوره، مبرراته الرسمية، دوافعه الحقيقية، وأساليبه، إضافة إلى انعكاساته طويلة الأمد على الدولة الهايتية.
- السياق الجيوسياسي لهايتي قبيل الاحتلال
في مطلع القرن العشرين، كانت هايتي تعاني من:
- اضطرابات سياسية متكررة (أكثر من 7 رؤساء خلال عقد واحد)
- تدخلات أوروبية متزايدة (خاصة من ألمانيا وفرنسا)
- أزمات اقتصادية خانقة
- انعدام للاستقرار المؤسسي
كل هذه العوامل جعلت هايتي هدفا مثاليا للتدخل الأمريكي تحت ذريعة “حماية مصالح المواطنين الأمريكيين وحفظ الاستقرار”.
- المبررات الرسمية الأمريكية للاحتلال
عقب اغتيال الرئيس الهايتي فيليبر سام في يوليو 1915، أرسلت الولايات المتحدة قواتها البحرية إلى العاصمة بورت أو برنس. أعلنت واشنطن أن هدفها:
- حماية الرعايا الأمريكيين
- ضمان الاستقرار الداخلي
- منع التدخل الأوروبي
لكن وراء هذه الذرائع كانت تكمن أهداف استراتيجية واقتصادية أعمق.
- الدوافع الحقيقية: السيطرة على الاقتصاد والبنك الوطني
واحدة من أبرز الدوافع غير المعلنة كانت الرغبة في السيطرة على النظام المالي الهايتي:
- تولت الولايات المتحدة فعليا إدارة البنك الوطني لهايتي.
- أُعيد تنظيم نظام الضرائب لصالح المصالح الأمريكية.
- فُرضت معاهدات تمنح أمريكا حق التدخل في شؤون البلاد الإدارية والمالية.
يشير مؤرخون مثل Hans Schmidt إلى أن الاحتلال كان “تعبيرا واضحا عن الإمبريالية الاقتصادية في أوجها”.
- ملامح الحكم العسكري والهيمنة المباشرة (1915–1934)
أهم مظاهر الاحتلال:
- إدارة أمريكية مباشرة لمؤسسات الدولة.
- إنشاء دستور جديد عام 1918 سمح بملكية الأجانب للأراضي، بعد أن كانت محظورة دستوريا (خدمة للشركات الأمريكية).
- قمع المقاومة المحلية (خصوصا ثورة “كاكوس” الريفية بين 1915 و1920).
- استغلال موارد هايتي الطبيعية والبشرية دون مقابل إنمائي حقيقي.
خلال مقاومة “كاكوس”، قُتل أكثر من 15,000 هايتي على يد القوات الأمريكية والجيش المحلي الموالي لها، وفق تقديرات أرشيفية.
- نتائج الاحتلال وتداعياته بعيدة المدى
رغم انسحاب القوات الأمريكية عام 1934، فإن الاحتلال خلّف آثارا عميقة:
- ترسيخ النخبة الاقتصادية المرتبطة بالمصالح الأمريكية.
- ضعف المؤسسات الوطنية وتبعية مالية دائمة.
- تعزيز النموذج النيوليبرالي في الاقتصاد والسياسة.
- تعزيز صورة أمريكا كقوة استعمارية في الوعي الشعبي الهايتي.
كما شكّلت تجربة هايتي نموذجا أوليا لما أصبح لاحقا سلوكا نمطيا في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية ودول الجنوب.
- الاحتلال في ضوء نظرية “الهيمنة البنيوية”
وفقا لنظرية “الهيمنة البنيوية” لـ Robert Cox، فإن الهيمنة لا تُمارس فقط بالقوة العسكرية، بل من خلال فرض نمط مؤسسي واقتصادي يُنتج التبعية. وهذا ما حدث بالضبط في هايتي:
- فرض مؤسسات خادمة للنظام الرأسمالي الأمريكي.
- استبدال السيادة الوطنية بالإدارة التكنوقراطية الأمريكية.
- تهميش النخب الوطنية المعارِضة.
خلاصة:
يُعد الاحتلال الأمريكي لهايتي بين 1915 و1934 تجربة كلاسيكية في التدخل الإمبريالي المقنّع بشعارات أخلاقية. فقد أُخضعت هايتي بالقوة، لا لحمايتها، بل لتحويلها إلى فضاء اقتصادي مفتوح أمام المصالح الأمريكية. وهي تجربة مهدت لتدخلات لاحقة أكثر تنظيما و”شرعية”، في أماكن كأفغانستان والعراق، ولكن بأساليب مشابهة في جوهرها.
- قائمة المراجع العلمية:
- Schmidt, Hans. The United States Occupation of Haiti, 1915-1934. Rutgers University Press, 1995.
رابط - Renda, Mary A. Taking Haiti: Military Occupation and the Culture of U.S. Imperialism, 1915-1940. University of North Carolina Press, 2001.
رابط - Wikipedia (باللغة العربية):
https://ar.wikipedia.org/wiki/احتلال_الولايات_المتحدة_لهايتي_1915 - Dubois, Laurent. Haiti: The Aftershocks of History. Metropolitan Books, 2012.
رابط - Cox, Robert W. Production, Power, and World Order: Social Forces in the Making of History. Columbia University Press, 1987.
رابط
