ميغيل سيرفيتوس: المفكر المسيحي الذي انتهى محروقا بتهمة الهرطقة

شهد القرن السادس عشر صراعا حادا بين العقائد الدينية التقليدية والأفكار الإصلاحية الجديدة. في خضم هذه الأجواء المتوترة، ظهر ميغيل سيرفيتوس (Miguel Serveto)، الطبيب والمفكر الإسباني الذي تحدى الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية على حد سواء، بأفكاره الجريئة حول التوحيد ونقد الثالوث المقدس.

لكن جرأته الفكرية كلفته حياته، حيث أُعدم حرقا في جنيف عام 1553 بتهمة الهرطقة، بأمر من جون كالفن، أحد زعماء الإصلاح البروتستانتي.

وُلد ميغيل سيرفيتوس في عام 1509 أو 1511 في فيلا نوفا دي سيجورا، إسبانيا، لعائلة مسيحية كاثوليكية. تلقى تعليمه الأولي في إسبانيا، ثم انتقل إلى جامعة تولوز في فرنسا، حيث درس اللاهوت والقانون، لكنه اتجه لاحقا إلى دراسة الطب والفلك.

عُرف بذكائه الحاد واهتمامه بالعديد من العلوم، إذ كان عالما بارعا في:

أفكاره الجريئة التي أغضبت الكنيسة

في عام 1531، نشر سيرفيتوس كتابه الأول “De Trinitatis Erroribus” أو “أخطاء الثالوث”، حيث انتقد فكرة الثالوث المقدس، وطرح تصورا مختلفا عن طبيعة الله، قائلا إن العقيدة المسيحية انحرفت عن تعاليم المسيح الأصلية.

لم يكن نقده مقتصرا على الكاثوليكية، بل رفض أيضا أفكار المصلحين البروتستانت، معتبرا أن جون كالفن ومارتن لوثر لم يذهبوا بعيدا بما يكفي في إصلاح الكنيسة، مما جعله عدوا للطرفين.

أثارت هذه الأفكار غضب الكنيسة الكاثوليكية ومحاكم التفتيش، ما اضطره إلى التنقل بين فرنسا وسويسرا هربا من الملاحقة.

رغم شهرته كـ”هرطوقي”، كان لسيرفيتوس إنجاز طبي عظيم. في كتابه “Christianismi Restitutio” (إصلاح المسيحية)، المنشور عام 1553، قدم أول وصف دقيق للدورة الدموية الرئوية، حيث وصف كيفية انتقال الدم من القلب إلى الرئتين ثم عودته، وهو اكتشاف لم يُعترف به إلا بعد قرون، عندما نُسب إلى العالم الإنجليزي ويليام هارفي.

لكن ما جعل هذا الكتاب أخطر من الناحية الدينية، هو أنه لم يكن مجرد دراسة طبية، بل احتوى أيضا على انتقادات لاهوتية شديدة، مما أدى إلى اعتباره كتابا محظورا من قبل الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية معا.

في عام 1553، أُلقي القبض على سيرفيتوس في فرنسا، وسُجن بتهمة الهرطقة، لكنه تمكن من الهروب واتجه إلى جنيف، حيث كان جون كالفن يفرض نظاما دينيا صارما. لم يكن يعلم أن جنيف ستكون محطته الأخيرة، إذ سرعان ما تم القبض عليه مرة أخرى.

حُوكم سيرفيتوس أمام محكمة دينية بتهم:

  1. إنكار الثالوث المقدس.
  2. إنكار صحة المعمودية التقليدية.
  3. نشر أفكار تتعارض مع التعاليم المسيحية.

أصدر كالفن بنفسه الأمر بإعدامه حرقا، وتم تنفيذ الحكم في 27 أكتوبر 1553، حيث أُحرق حيا على نار بطيئة مع كتابه بجانبه، ليكون عبرة لغيره.

رغم إعدامه، استمرت أفكار سيرفيتوس في إلهام التيارات الدينية والفكرية المعارضة للعقيدة التقليدية، وساهمت في تطور حركة التوحيدية (Unitarianism) التي ترفض عقيدة الثالوث. كما أن اكتشافه للدورة الدموية الرئوية كان إنجازا رائدا في الطب، حتى لو لم يُعترف به في زمانه.

اليوم، يُنظر إلى سيرفيتوس على أنه رمز للعقل الحر، وشهيد الفكر النقدي، وضحية للتعصب الديني في العصور الوسطى.

قصة ميغيل سيرفيتوس تعكس الصراع الأبدي بين السلطة الدينية وحرية الفكر. لقد كان رجلا سبق عصره في العلم والدين، لكنه دفع الثمن غاليا بسبب أفكاره الجريئة. ومع ذلك، فإن تأثيره لم ينتهِ بموته، بل امتد ليُلهم أجيالا من المفكرين والعلماء في سعيهم نحو الحقيقة والحرية.

Exit mobile version