تربية وتعليم

الرياضيات مفتاح النهوض بالتعليم العالي في الوطن العربي

ثمة سؤال مشروع، كثيراً ما يطرحه بعض الأكاديميين العرب، وبخاصة أولئك الذين ليسوا على وفاق مع الرياضيات، وهم كثر؛ وهو: لماذا يجب أن تشكّل الرياضيات جزءاً من المناهج الجامعية في معظم الحقول المعرفية، إن لم نقل كلها؟ لأنه، عموماً، ليس من الضروري أن يكون هناك علاقة بين كل العلوم على اختلاف أنواعها. حتى وإن وجدت هذه العلاقة، فتكون بسيطة، أو تغطي بعض الجوانب. في حين أن علاقة الرياضيات بالعلوم الأخرى متداخلة، وأحياناً عضوية، لا يمكن الاستغناء عنها، بسبب التماهي الحاصل بينها.


بل وكثيراً ما نجد أن تقدم بعض العلوم مرهون بتقدم الرياضيات ذاتها، أو بحسن الاستفادة منها. ويمكن القول بأن الرياضيات أضحت رافعة التعليم العالي في الدول المتقدمة. وهذا يظهر، على نحو خاص، في العلوم الأساسية المختلفة، وفي الاختصاصات الهندسية جميعها، وفي الاقتصاد، وغيرها كثير. وحتى العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، أضحى جزء من تطورها، في تلك البلدان، يعتمد على مدى استفادتها من التطبيقات الرياضية.

وعندما يدخل أحد الحقول المعرفية في بنية علم آخر مختلف عنه، فهو ليس من الضروري أن يدخل في بقية العلوم الأخرى، كما هو حال الرياضيات، التي أصبح خيرها يعم معظم العلوم المعاصرة تقريباً، لما تقدمه من خدمات معرفية جليلة.


ولمعرفة ما تستبطنه طبيعة الرياضيات لا بد من الوقوف عند تلك الطبيعة المفارقة لماهية معظم العلوم الأخرى. ففيها تكمن قوة الرياضيات، وسحرها الأبدي. فالرياضيات تختلف عن غيرها من العلوم، في أنه من الصعب فهم كنهها، إلّا بعد أناة، ومكابدة كبيرة؛ فضـلاً عن ذلك لا نستطيع أن نتوقع إلى أين تصل تخومها. ورؤيتنا هذه متجهة صوب دور العلوم الرياضية في مناهج غير المختصين في الرياضيات، لأن مناهج المختصين لا خلاف عليها، ومعني بها المختصون فقط، وهي خارج اهتمام هذا الإطار.


من المعروف أن ثمة تقسيمات عديدة للعلوم، ولكن الأكثر انتشاراً هو أن العلوم تقسم إلى نوعين: الأول، العلوم الصورية (الشكلية) (Formal Science)، وتشمل الرياضيات، والمنطق، وبعضهم يضيف أحياناً إليها ما كان منها مدانياً، مثل علوم الحاسوب النظرية (Theoretical Computer Science)، ونظرية المبارزة (المباراة ((Game Theory)، ونظرية القرار (Decision Theory)، وجزء من علم اللسانيات (اللغويات) (Linguistics)، كون أن جزءاً من قوام هذه العلوم هو الفكر الرياضي، على الرغم من تناولها مواضيع مختلفة عن الرياضيات.

والنوع الثاني من العلوم يشمل ما يسمى العلوم الإخبارية (Informative Science)، ويتضمن بقية العلوم الأخرى التطبيقية (الطبيات، والهندسات، وغيرها)، والإنسانية، والاجتماعية دون استثناء. وهذا التقسيم له أهميته الخاصة لأنه يُبرز طبيعة الرياضيات الصورية (المجردة)، التي ترشحها لأن تقوم بدور مميز، وأساسي، في حياة الإنسان العقلية، والعملية. لذلك تحظى الرياضيات بمكانة خاصة في المناهج الجامعية في عديد من الجامعات، وعلى نحو خاص في الجامعات النخبة في العالم.

وهذه الميزة «الصورية» الفريدة منحت الرياضيات، كأداة، قوة خاصة تتميز بها عن غيرها من العلوم. يشير الفيزيائي وفيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنيس (Roland Omnes) في كتابه فلسفة الكوانتم إلى حقيقة مفادها أن: «الرياضيات أيضاً أداة لاكتساب المعرفة.

ولكن يبدو أنه لا يوجد بين المؤيدين لهذا الوضع رأي عام مشترك حول أسباب الكفاءة المذهلة التي تظهرها الرياضيات عندما تستخدم في علوم أخرى»‏[1]. إضافة إلى ذلك، فإن الدقة المتناهية التي تتسم بها الرياضيات تساعد دارسي العلوم الأخرى على بلوغ أعلى درجات الصرامة العقلية، ومن ثم على قرع أبواب الإبداع.

يقول رولان أمنيس: «وغاوس على أي حال جدير بكل تقدير، لأنه أعلن أن الصرامة هي أم الإبداع»‏[2]. ويقصد الرياضي والفيزيائي الألماني كارل فريدريك غاوس (C. F. Gauss) (1777 – 1855)، والرياضيات هي أم العلوم التي تتبنى الصرامة في التفكير.

لذلك بدأ كثير من الجامعات في العالم يعي أهمية الرياضيات في أمرين؛ الأول منهما تعليمها كمتطلب جامعي (University Requirement) لكل طلاب الجامعة، بغض النظر عن اختصاصاتهم الجامعية، وذلك في الجامعات التي تتبنى نظام الساعات المعتمدة (Credit Hour System). وهذا كثيراً ما نجده في الجامعات المتميزة في العالم.

وهدفها من ذلك هو تزويد خريجيها بمهارات عقلية خاصة تمنحهم القدرة على المحاكمة العقلية السليمة، واكتساب القدرة على التفكير المنطقي، والتحليلي، والاستدلال الكمي، والتفكير النقدي، الذي أضحى من أهم مواصفات خريج الجامعة في هذا العصر. فضـلاً عن ذلك، فإن الرياضيات تمنح دارسها القدرة على التجريد، التي تساعده على «رؤية» أشياء يصعب أن يراها غيره.

لأن قوام عملية التجريد، ببساطة، هي التخلّص من كل ما ليس له قيمة في السياق، والتركيز على «العلاقات» التي تتحكم بهذا السياق، وصولاً إلى التفكير المفاهيمي الذي يعد ضرورياً في بعض الدراسات. لذلك يقول الرياضي البريطاني – الأمريكي المعاصر كيث ديفلن (Keith Devlin) في كتابه مدخل إلى التفكير الرياضي (Introduction to Mathematical Thinking): «إن الرياضيات تجعل غير المرئي مرئياً». ويصعب تحقيق كل تلك المواصفات، للخريج الجامعي، بعيداً من تدريس الرياضيات، التي تساعد طبيعتها في نمو هذه المواصفات، إن أُحسنَ تدريسها.

والأمر الثاني الذي بدأت تهتم به عديد من الجامعات في العالم المتقدم هو في زيادة جرعة الرياضيات في معظم الاختصاصات العلمية، والنظرية، على حد سواء. فلم يعد هناك حقل معرفي يستطيع أن ينأى بنفسه عن تأثير الرياضيات. بل أضحى كثير من الجامعات المتميزة يعتمد مناهج الرياضيات نفسها للمختصين لتدريسها لغير المختصين.

لأنه من المعروف أن عديداً من الجامعات (ومنها معظم الجامعات العربية) تدرّس مناهج الرياضيات لغير المختصين على نحو مختلف كثيراً عن مناهج المختصين. حيث تركّز مناهج غير المختصين على تدريس نصوص المبرهنات (النظريات) الرياضية، والنتائج، وتطبيقاتها، دون الخوض في الجوانب النظرية، التي تعد من النوافل، وأنها تثقل كاهل الطالب، من وجهة نظر هؤلاء.

أي أن هذه المناهج تكون مجتزأة، وذات طابع «خدمي» بحت، ولا يدخل هذا الطالب في عمق المفاهيم الرياضية، بل يبقى عائماً عند هوامشها. لذلك يبقى الطالب (غير المختص)، في هذه الحالة، غريباً عن تلك المفاهيم، ويفتقد المرونة العقلية اللازمة لتطبيق الرياضيات في مجال اختصاصه العلمي، لأنه لا يعي، تماماً، أواصر قرابتها مع اختصاصه، وأنها اللغة التي يمكن أن نستعملها للتعبير عما تعجز عنه اللغات الأخرى لفهم ما يجري في عديد من الحقول المعرفية. فضـلاً عن أن هذا يلغي دور الرياضيات التربوي.

وهذه القوة الساحرة للرياضيات المعاصرة نابعة مما تستبطنه من تجريد كبير، وهذا على خلاف ما يتوقعه بعضهم. فصحيح أنها أصبحت أكثر تجريداً مع تزايد تطورها، بيد أنها أضحت أكثر «تعبيراً» عن الواقع، من الرياضيات التقليدية التي كانت تركّز على إجراء «الحسابات» على اختلاف أنواعها.

لأن «الشحنة الفكرية» التي أصبحت تحملها الرياضيات الحديثة، وبخاصة الرياضيات المعاصرة، كانت على حساب تراجع العمليات الحسابية، وضمورها، حيث أصبح الحاسوب (الكومبيوتر) يقوم بجزء كبير منها. وهذه «الشحنة الفكرية» سهّلت على الرياضيات الحديثة الاهتمام بمجالات رحبة جديدة، ذات طبيعة فكرية. كما أهّلتها لأن تتناول أموراً كان يصعب على الرياضيات التقليدية الولوج إليها، أو حتى مقاربتها.

وصحيح أن هذا أضفى عليها نوعاً من الصعوبة، وتتطلب مكابدة ذهنية خاصة، وهذا شيء طبيعي، بسبب تجريدها العالي، بيد أن ذلك منحها سمة غير متوقعة، وتبدو، للوهلة الأولى، أنها متناقضة ذاتياً. وهي أنها تكون أكثر تعبيراً عن الواقع، كلما كانت أكثر تجريداً، على الرغم من أن ذلك يجعلها أكثر تعقيداً.

في حين أن تعبير الرياضيات البسيطة عن الواقع يكون ضعيفاً، وتزداد وتيرته مع زيادة تجريدها. وربما أوضح مثال على ذلك، يعرفه الجميع، هو أن مبرهنة (نظرية) فيثاغورث المعروفة (في الرياضيات المدرسية) التي تنص على أنه: «في المثلث القائم الزاوية، يكون مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين»، تعبيرها عن الواقع محدود جداً، ومن ثم تطبيقاتها ليست واسعة، ومحصورة في حالات المثلثات القائمة فقط. في حين أن التطبيقات العملية للمنطق الضبابي (العائم) Fuzzy Logic، مثـلاً، عديدة جداً، يصعب حصرها، لأنها في نمو دائم، وطيفها واسع جداً، وفي عديد من الحقول المعرفية المتباعدة.

بدءاً من الذكاء الصنعي(Artificial Intelligence) في علوم الحاسوب (Computer Science)، ومروراً بتطبيقاته في علم الدلالة (Semantics) (وهو فرع من اللسانيات والمنطق يهتم بدراسة المعنى في اللغات)، وفي أنظمة الامتحانات الجامعية التي تعتمد النظام النسبي (الذي يعتمد على معالجة الدرجات الخام، وترتيب الطلاب بالنسبة إلى بعضهم)، بدلاً من النظام المطلق (الذي يستخدم الدرجات الخام كما هي، والشائع استخدامه في بلادنا العربية).

وصولاً إلى دراسة تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA). أي أن الرياضيات الحديثة بدأت تعالج طيفاً واسعاً من المواضيع الشائكة ذات الطابع الفكري، وتقدم حلولاً ناجعة في هذا الخصوص، بسبب طبيعتها الصورية المتقدمة جداً.


 محمود باكير: دكتوراه في الرياضيات البحتة، وعضو هيئة تدريسية في جامعة اليرموك الخاصة (دمشق) حالياً.


للاطلاع على الدراسة كاملة


  • المصادر:

 نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 454.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى