تُعَدّ موسوعة قصة الحضارة (The Story of Civilization) واحدة من أعظم الإنجازات الفكرية والموسوعية في القرن العشرين، ألّفها المؤرخ والفيلسوف الأمريكي ويل ديورانت بالتعاون مع زوجته الباحثة أريل ديورانت. تتكون الموسوعة من أحد عشر مجلدا ضخما، شكّلت مشروعا فكريا متكاملا استغرق أكثر من أربعين عاما من البحث والتأليف (1935 – 1975م).
لم يكن هذا العمل مجرد سردٍ زمني للأحداث التاريخية، بل رؤية فلسفية موسوعية في فلسفة التاريخ، حاول فيها المؤلفان تتبّع مسيرة الإنسان منذ فجر الحضارات الشرقية القديمة وحتى القرن التاسع عشر، مع تحليل عميق للعوامل السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والفنية التي شكّلت الحضارة الإنسانية.
- منهجية الموسوعة ورؤيتها الفكرية
تتميز موسوعة قصة الحضارة بخصائص فريدة جعلتها مرجعا عالميا:
- شمولية الموضوعات: لم تقتصر على السياسة أو الحروب، بل غطّت مجالات الفكر، الفلسفة، الأدب، الفنون، الدين، الاقتصاد، العلم، والمجتمع.
- منهج تحليلي فلسفي: لم يكتفِ المؤلفان بعرض الوقائع، بل سعيا لتفسيرها وربطها جدليا بمسار الحضارة وتطور الإنسان.
- تعدد المصادر: استند ديورانت إلى آلاف المراجع الأصلية، وقام برحلات بحثية شملت الشرق والغرب، ليجمع مادته العلمية من المخطوطات، الآثار، النصوص التاريخية، والمصادر الأكاديمية.
- توثيق علمي: كل مجلد يضم قوائم مراجع مطوّلة تشكّل ذخيرة للباحثين والدارسين.
بنية الموسوعة ومحتواها:
رغم أن المشروع وُضع في بدايته ليصدر في خمسة مجلدات، إلا أن تشعّب المادة التاريخية واتساعها رفع العدد تدريجيا حتى استقر عند أحد عشر مجلدا تغطي الحضارات الكبرى:
- الحضارات الشرقية القديمة (مصر، بلاد الرافدين، الهند، الصين).
- اليونان القديمة: الفكر الفلسفي والسياسي والفني.
- الحضارة الرومانية: الجمهورية، الإمبراطورية، القانون، والتمدين.
- الحضارة الإسلامية: العلوم، الفلسفة، الأدب، التأثير الحضاري في الغرب.
- أوروبا في العصور الوسطى: الكنيسة، الإقطاع، الحروب الصليبية.
- عصر النهضة الأوروبية: الفنون، الأدب، الفكر السياسي والاقتصادي.
- عصر الإصلاح الديني والثورة العلمية.
- عصر التنوير: الفلسفة، الموسيقى، الأدب، الحداثة السياسية.
- الثورات الأوروبية (الفرنسية، الصناعية، الفكر الليبرالي والاشتراكي).
- أوروبا حتى القرن التاسع عشر: بناء الدولة الحديثة، الاستعمار، التحولات الفكرية.
مكانة الموسوعة في الفكر العالمي:
- تُعَدّ مشروعا موسوعيا فريدا جمع بين الرؤية الفلسفية والتحليل التاريخي.
- ظلّت لعقود مرجعا لا غنى عنه في الجامعات والمكتبات حول العالم.
- حازت إعجاب القراء والنقاد نظرا لأسلوبها الذي يجمع بين السلاسة الأدبية والدقة العلمية.
الترجمة العربية:
أدركت المؤسسات الثقافية العربية أهمية هذا العمل، فبادرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بالتعاون مع دار الجيل – بيروت إلى إصدار الترجمة الكاملة في 42 مجلدا.
وقد شارك في الترجمة نخبة من كبار المفكرين والأكاديميين العرب، منهم:
- د. زكي نجيب محمود
- د. محمد بدران
- د. عبد الحميد يونس
- د. فادي أندراوس
هذه الترجمة لم تكن نقلا لغويا فحسب، بل كانت جهدا علميا تأويليا حافظ على روح النص الأصلي وأوصل فكرته الشاملة إلى القارئ العربي، لتضيف للمكتبة العربية أحد أعظم المشاريع الفكرية العالمية.
- الخلاصة:
إن قصة الحضارة ليست مجرد موسوعة تاريخية، بل مشروع إنساني شامل لفهم الحضارة في تداخلاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية. ولذا ظلّت حتى اليوم أحد أعظم الأعمال المرجعية التي تُعين الباحثين والمهتمين على استيعاب مسيرة الإنسان عبر الزمن.
