معركة قرقور: أول تحالف دولي ضد زحف آشور وأول ظهور تاريخي للعرب

في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، تتابع جيوش آشور حُدودها غربا، باحثة عن الغنائم، النفوذ، وطرق التجارة باتجاه البحر المتوسط. خلال عهد الملك شلمنصر الثالث، بدأت حملة كبرى نحو أرام (سوريا) في عام 854 ق.م تقريبا، امتدت عبر المسارات النهرية (دجلة والفرات) مشمولة بمدن مثل “حلب” التي خضعت مؤقتا.

حين وصلت قواته إلى ممرات الشمال الغربي، واجه شلمنصر لأول صدام حقيقي من التحالف الذي شكّله ملوك المنطقة لمقاومته. كانت مدينة قرقُور على نهر العاصي نقطة محورية في هذا الصراع، وقد ذُكِرت في النقش الأشوري “نصب كورخ” كأرض المعركة الكبرى.

لم يكن هذا التحالف العريض مفاجئا — إنما رد فعل من ممالك تعيّ أن المواجهة الفردية مع جحافل آشور ستكون كارثية. بحسب نقش شلمنصر، فقد انضمّ إلى الحلفاء:

النقش يصف أن التحالف ضم ما يقارب 12 ملكا (ربما عدد رمزي يجمع عدة قوى محلية) وحشد آلاف العربات، الفرسان، والمشاة.

وفق النقوش، قدم بن هدد 1,200 عربة، 1,200 فارس، و20,000 جندي مشاة. إيروليني أرسل 700 عربة و700 فارس و10,000 مشاة. أما أخآب فذُكر أنه أرسل 2,000 عربة و10,000 جندي. كما قدّمت مدن صغيرة أعدادا متفاوتة.

لكن مثل هذه الأرقام لا ينبغي أن تُؤخذ حرفيا بالكامل، فالنقوش الملكية عادة ما تميل إلى المبالغة في ذكر القوى والضحايا لدعم رواية النصر. العديد من الدراسات المعاصرة تشير إلى أن هذه الأرقام ربما كانت مُضخَّمة لأغراض الترويج الملكي.

قُرّرت المعركة عند منطقة Tell Qarqur الحديثة قرب نهر العاصي داخل محافظة حماة في سوريا، وطبيعة التضاريس بين السهول ونهر العاصي جعلتها مجالا مناسبا لعرض القوات والتحركات الحربية.

الاستراتيجية الآشورية كانت تعتمد على تسلسل الحملات الطويلة، أولا استجداء خضوع المدن أثناء المسير ثم مواجهة المعارضين في المعاقل الكبرى — إلا أن تحالف الملوك أجبر شلمنصر على خوض معركة كبيرة هي من أكبر المعارك المسجّلة في ذلك العصر. (Encyclopedia)

من أبرز ما يجعل معركة قرقُور تاريخية هو ظهور اسم جندبو (Gindibu) ملك العرب كجزء من التحالف. هذا هو أول ذكر موثَّق لعرب في بُعد سياسي/حربي في المصادر الحضرية المعتمدة، مما يعطي دلالة على أن العرب، رغم البداوة والتهميش نسبيا، كانوا يُعتبرون فئات تستدعيها الأحلاف الإقليمية.

هذا الظهور يؤكّد أن العرب لم يكونوا مجرد عوامل هامشية، بل كانوا مشاركين فاعلين في الصراعات الكبرى، وربّما مع قوات متميزة (فرسان، جمال) في التحالف متعدد اللغات والثقافات.

كان الملك شلمنصر الثالث قد غادر نينوى في الرابع عشر من أيار (853 ق.م)، ضمن حملته السنوية التي تهدف لتوسيع النفوذ الآشوري باتجاه الأناضول وسوريا. اجتاز نهري دجلة والفرات دون مقاومة تُذكر، واستقبل الجزية من مدن عديدة، من بينها كركميش وحلب، التي أعلنت خضوعها دون قتال.

لكن مع اقترابه من مملكة حماة، بدأ التحالف المعادي بالتحرك. أدركت القوى المحلية أن الآشوريين لن يتوقفوا قبل السيطرة على كامل المشرق، فاختاروا المواجهة في ميدان مفتوح قرب قرقور على نهر العاصي، لتبدأ إحدى أضخم معارك العصور القديمة. (Kurkh Monoliths – British Museum)

تميّزت الجيوش الآشورية بانضباطها العالي واستخدامها للتكنولوجيا العسكرية المتقدمة في تلك الحقبة، خاصة العربات الحربية الثقيلة والمشاة المدرّعين والرماة. كان شلمنصر يقود بنفسه، محاطا ب”حرس القصر”، وهي نخبة عسكرية ضاربة. كما استخدم العجلات الحربية ذات الأربعة أحصنة، القادرة على اختراق صفوف الخصوم بسرعة.

أما قوات التحالف فكانت متنوعة وغير متجانسة، إذ جمعت بين مقاتلين آراميين وإسرائيليين وفينيقيين وعرب. اعتمدت تكتيكات المناورة السريعة والمشاة الخفاف، مستفيدة من تضاريس نهر العاصي ومناخه.

تولّى بن هدد الثاني قيادة الجبهة الأساسية، بينما انتشر أخاب الإسرائيلي في الجناح الأيسر بعرباته السريعة، وسانده جندبو العربي بوحدات من الفرسان والجمال من الجنوب.
(Battle of Qarqar – Wikipedia)

بدأت المواجهة في منتصف النهار تقريبا. هاجم شلمنصر الثالث الجبهة المركزية لجيش التحالف، في محاولة لاختراقها بسرعة وتفريق صفوفها. إلا أن العربات السورية والإسرائيلية صدّت الهجوم الأول بفعالية.

مع حلول المساء، اشتدت المعركة عند ضفاف العاصي، حيث أُجبر الآشوريون على القتال في أرض موحلة حدّت من فعالية عرباتهم الثقيلة. تذكر النقوش أن الآشوريين تسببوا في سقوط 14,000 قتيل من الحلفاء، لكن هذا الرقم يُعتبر مبالغا فيه وفق التحليل الحديث، إذ لم يتمكّن شلمنصر من استثمار هذا “النصر” عسكريا، ولم يحتل المدن السورية بعد المعركة مباشرة. (The Kurkh Monoliths, British Museum, Object W 1848.1104.1).

تُظهر النصوص الملكية الآشورية دائما اتجاها دعائيا لتضخيم الانتصارات وتجاهل الهزائم. لذلك، يُرجّح أن شلمنصر لم يحقق نصرا حاسما في قرقور، بل تعادلا استراتيجيا على أكثر تقدير.

الأدلة التاريخية تُشير إلى أن الممالك المعادية، مثل دمشق وحماة، بقيت مستقلة بعد المعركة، واستمرت في مقاومة آشور لسنوات عديدة لاحقة. (Younger, K. Lawson. “The Kurkh Monoliths and the Battle of Qarqar.” Journal of the American Oriental Society, Vol. 119, No. 1, 1999.).

أول تحالف دولي في التاريخ القديم: جمعت معركة قرقور بين 12 ملكا من خلفيات سياسية وثقافية ودينية مختلفة، بهدف واحد هو مقاومة التوسع الإمبراطوري.
أول ذكر موثّق للعرب: عبر جندبو ملك قيدار، ما يمنح العرب موقعا في التاريخ العسكري قبل الإسلام بقرون عديدة.
تحديد تزامن زمني مع الأحداث التوراتية: إذ تُمثل أول نقطة التقاء بين النصوص التوراتية والسجلات الآشورية المؤرخة.

كانت قرقور نقطة تحوّل في تاريخ المشرق القديم، إذ أثبتت أن التوازن الإقليمي قادر على كبح حتى أعظم إمبراطوريات العصور القديمة. لكنها أيضا كشفت أن التحالفات المتعددة القوميات، رغم قوتها العددية، كانت تفتقر إلى التنسيق والإرادة السياسية للاستمرار.

كانت معركة قرقور (853 ق.م) أكثر من مجرد مواجهة عسكرية بين جيش شلمنصر الثالث الآشوري والتحالف السوري–الكنعاني بقيادة هدد إيزر (بن هدد الثاني) ملك دمشق وبدعم من الملك آخاب الإسرائيلي وحكام المدن الكنعانية والحثّيين والعرب. لقد شكّلت هذه المعركة اختبارا استراتيجيا لمفهوم التوازن الإقليمي في المشرق القديم، ورسخت لأول مرة فكرة مقاومة الإمبراطورية بالقوة الجماعية.

1. تراجع مؤقت للنفوذ الآشوري:

رغم إعلان شلمنصر الثالث النصر في حولياته المنقوشة على مسلّة قرقور، إلا أن أغلب الباحثين المحدثين (مثل مارغريت يونغ وDonald Wiseman) يرون أن المعركة انتهت دون حسم واضح.

فلم يتمكن الآشوريون من التوغّل إلى قلب سوريا أو فرض الجزية على دمشق، ما يعني أن التحالف نجح – ولو مرحليا – في إيقاف التوسع الإمبراطوري الآشوري غرب الفرات.

هذا التوقف سمح لممالك مثل حماة ودمشق بإعادة ترتيب أوضاعها السياسية والعسكرية، مما أبطأ التمدد الآشوري لأكثر من عقدين.

2. تعزيز مكانة دمشق كقوة إقليمية:

برزت مملكة دمشق الآرامية بوصفها القوة القيادية في بلاد الشام بعد قرقور، إذ خرجت من المعركة دون خسائر كارثية واحتفظت بجيشها المنظم.

انعكس ذلك في ازدياد نفوذها على الممالك المجاورة، مثل إسرائيل الشمالية وعمون ومؤاب، وبدأت دمشق تمارس دورا “راعويا” لتحالف المدن السورية، في مقابل الانقسام الداخلي في إسرائيل بعد وفاة آخاب.

3. انحسار دور الممالك العبرانية:

بالنسبة للمملكة الإسرائيلية، كانت المشاركة في التحالف ضد آشور ذروة استقلالها العسكري، لكنها لم تلبث أن انهارت سياسيا بعد مقتل آخاب في معركة راموت جلعاد بعد سنوات قليلة.

أدى ذلك إلى تراجع إسرائيل إلى موقع التابع بدل الشريك في السياسة الإقليمية، بينما ظلت دمشق تمثل رأس الحربة في مقاومة النفوذ الآشوري حتى عهد حزائيل.

1. إعادة تعريف الحرب في المشرق:

أظهرت قرقور أن التحالفات العابرة للعرقيات والديانات قادرة على مجابهة الإمبراطوريات، لكنها تفتقر إلى الديمومة.
فقد جمع التحالف جيشا من اثنتي عشرة مملكة، من الآراميين والعرب والكنعانيين والحثيين، وهو ما مثّل تطورا غير مسبوق في التفكير العسكري الإقليمي، لكنه أيضا كشف حدود التنسيق الميداني بين قوات ذات لغات وثقافات ومصالح متباينة.

كانت تلك التجربة بمثابة درس مبكر في فشل التحالفات الاضطرارية التي تقوم على الخوف أكثر من الرؤية المشتركة.

2. تثبيت مفهوم الجيوش المركّبة:

شهدت المعركة استخداما واسعا للعربات الحربية، والفرسان، والمشاة الخفيفة، مما يعكس تطور التكتيك القتالي في المنطقة.

لكن في المقابل، أدركت آشور أن القوة العددية وحدها لا تكفي، فبدأت بعد قرقور بإعادة تنظيم جيوشها على نحو أكثر مرونة، مهيئة الطريق لتوسعات لاحقة في عهد تغلت فلاسر الثالث.

3. تراجع فكرة “الجيش الإمبراطوري الذي لا يُقهر”:

فشل شلمنصر الثالث في تحقيق انتصار ساحق كان له وقع نفسي كبير؛ إذ تحطمت هيبة الجيش الآشوري مؤقتا، وبدأت الممالك الصغيرة ترى أن التمرد ليس مستحيلا.

ومن هنا يمكن القول إن قرقور كانت أول شرارة لوعي سياسي جماعي بأن مقاومة المركز الإمبراطوري ممكنة عبر العمل المشترك.

  1. استمرار المقاومة السورية:
    بعد قرقور، واصلت دمشق بقيادة حزائيل سياسة المقاومة المنظمة ضد آشور لعقود، حتى اضطرت الأخيرة إلى عقد اتفاقات مؤقتة بدل المواجهة المفتوحة.
  2. بروز الكيانات العربية الشمالية:
    تُظهر النصوص الآشورية إشارات متزايدة إلى مشاركة “الجند العربي” (عريبو) في التحالف، ما يُعد من أوائل الإشارات إلى الدور العربي السياسي والعسكري المبكر في الدفاع عن المشرق.
    هذا الحضور سيزداد تدريجيا حتى يتبلور لاحقا في كيانات عربية أكثر تنظيما في بادية الشام وشمال الجزيرة.
  3. إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمشرق:
    من نتائج قرقور غير المباشرة نشوء توازن جديد بين القوى الكبرى (آشور – دمشق – إسرائيل – حماة)، وهو ما حافظ على قدر من الاستقرار النسبي حتى منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، حين استأنفت آشور زحفها من جديد.
المحور النتيجة
المستوى السياسي ترسيخ زعامة دمشق وتراجع إسرائيل بعد مقتل آخاب
المستوى العسكري ظهور التحالفات المتعددة القوميات كنموذج مقاومة جديد
المستوى الحضاري بداية وعي جماعي بوحدة المصير في المشرق القديم
الأثر التاريخي قرقور مهّدت لتشكّل “النظام الإقليمي” الأول في تاريخ سوريا الكبرى

لم تكن معركة قرقور (853 ق.م) مجرّد واقعة عسكرية عابرة، بل شكلت لحظة مفصلية في التاريخ الحضاري للمشرق القديم. لقد كشفت عن إمكانية تجاوز الانقسامات العرقية والدينية والجغرافية لصياغة موقف جماعي في وجه القوة الإمبراطورية الصاعدة. وبذلك، يمكن اعتبار قرقور أول تمرين تاريخي على التضامن المشرقي في مواجهة مركز قاهر يسعى إلى السيطرة الشاملة.

1. وحدة المصير في مواجهة الهيمنة:

كان التحالف الذي خاض معركة قرقور مكوَّنا من شعوب متعددة: آراميون، كنعانيون، عرب، يهود، حثّيون، وفينيقيون.
ورغم أن دافعهم المباشر كان الدفاع عن أراضيهم ضد الغزو الآشوري، إلا أن التجربة الميدانية المشتركة أنتجت وعيا جديدا بوحدة المصير.

لقد أدركت هذه الشعوب أن بقاء أي مملكة في المشرق مرتبط ببقاء الأخرى، وأن التهديد الآشوري ليس سياسيا فقط، بل ثقافيا وحضاريا أيضا، لأنه يسعى لفرض نموذج موحد في اللغة والديانة والإدارة.

يقول الباحث السوري عبد الرحمن الأنصاري في كتابه “تاريخ المشرق القديم” (2005):
“لقد كانت قرقور أول مناسبة في تاريخ المنطقة تُدرك فيها الكيانات المحلية أن الدفاع عن الأرض لا يمكن أن يكون محليا، بل جماعيا وحضاريا في آنٍ واحد.” (ص. 212)

2. تحوّل في مفهوم “التحالف”:

قبل قرقور، كانت التحالفات الإقليمية قصيرة الأمد ومبنية على المصالح التجارية أو الدفاع عن الحدود المشتركة.
أما بعد قرقور، فقد اتخذت بعدا جديدا، إذ بدأت تظهر مراسلات دبلوماسية بين الممالك السورية والفينيقية تشير إلى التعاون العسكري والثقافي، مثل تبادل الرسائل بين دمشق وصور، ما يشير إلى نشوء فضاء سياسي–ثقافي مشترك، لا مجرد تحالف ظرفي.

1. تبلور فكرة “العدو المشترك”:

أحدثت قرقور نقلة في الخطاب السياسي؛ إذ لم يعد يُنظر إلى العدو باعتباره قبيلة أو مملكة منافسة، بل قوة غريبة تهدد النظام القيمي العام للمنطقة.

هذا التحول في المفهوم السياسي خلق ما يشبه الهوية الدفاعية المشتركة، التي ظهرت لاحقا في النقوش والكتابات الفينيقية والآرامية بوصف آشور “الأجنبي” أو “الغاصب”.

2. تأثيرها في النصوص الدينية:

تتردد في بعض النصوص العبرانية إشارات إلى أحداث تشبه معركة قرقور، خصوصا في سفر الملوك الثاني، حيث تبرز فكرة التحالف ضد الغزو كواجب ديني–أخلاقي.

وهذا يعكس كيف تحولت الواقعة التاريخية إلى رمز أخلاقي للمقاومة والعدالة، مما جعل قرقور تتجاوز زمنها لتصبح جزءا من الذاكرة الدينية المشتركة لشعوب المنطقة.

1. التنوع كقوة لا كضعف:

أظهرت قرقور أن التنوع اللغوي والثقافي في المشرق – من الآرامية إلى الكنعانية والعربية القديمة – لم يكن عائقا أمام الوحدة السياسية المؤقتة، بل كان مصدر ثراء في التنظيم العسكري والتواصل.

ومن هذه النقطة بدأت تتشكل بذور الفكرة المشرقية القائمة على التنوع المتكامل، وهي الفكرة التي ستتطور لاحقا في الحضارات الهلنستية والرومانية والإسلامية.

2. من ساحة المعركة إلى الذاكرة الجماعية:

تحولت قرقور عبر القرون إلى رمز للتوازن الحضاري بين المركز والأطراف. فكلما حاولت قوة إمبراطورية (آشورية، فارسية، رومانية…) فرض هيمنتها على المشرق، استُحضرت قرقور بوصفها النموذج الأول للممانعة والتضامن الإقليمي.

وفي الدراسات التاريخية الحديثة، ينظر المؤرخون إلى قرقور كبذرة مبكرة لفكرة “المشرق كحضارة مشتركة لا كجغرافيا متفرقة”.

ويؤكد المؤرخ العراقي طه باقر في كتابه “مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة” (الجزء الثاني، ص. 187):
“لقد كانت قرقور لحظة التقاء بين السياسة والحضارة؛ إذ أسست لأول مرة لمعنى أن الدفاع عن المدينة هو دفاع عن الإنسان، وعن ثقافة المنطقة في وجه التنميط الإمبراطوري”.

المجال المضمون الحضاري المستخلص
الهوية ترسيخ وعي مشترك بالمشرق ككيان حضاري متعدد اللغات والثقافات
الفكر السياسي بروز فكرة “التحالف الثقافي” ضد الهيمنة الخارجية
الخطاب الديني إدماج مفاهيم المقاومة والعدالة في النصوص المقدسة
الذاكرة التاريخية تحوّل قرقور إلى رمز للتماسك الإقليمي في مواجهة الإمبراطوريات

لقد كانت معركة قرقور أكثر من انتصار أو هزيمة؛ كانت ولادة فكرة حضارية جديدة ترى في المشرق وحدة وجودية لا تُختزل في مملكة أو حدود، ومن رحم تلك اللحظة تبلور وعيٌ بأن القوة لا تُقاس بعدد الجنود، بل بقدرة الشعوب على صياغة مصيرها المشترك أمام التاريخ.

بين الرواية الآشورية والروايات المحلية

المصدر الرئيس لكل ما نعرفه عن معركة قرقور هو نقش كورخ (Kurkh Monolith)، وهو لوح حجري ضخم دوّن عليه الملك شلمنصر الثالث تفاصيل حملته العسكرية في العام السادس من حكمه.

يُعد هذا النقش اليوم حجر الأساس لفهم الحدث، لكنه في الوقت نفسه مصدرٌ إشكالي، لأنه يمثل وجهة النظر الإمبراطورية المنتصرة ذاتيا.

1. طبيعة النقش ومضمونه:

يصف النقش كيف هزم شلمنصر التحالف المكوّن من اثني عشر ملكا، وكيف قتل 14 ألفا من أعدائه وغنم آلاف الخيول والعربات.

غير أن النقوش الآشورية – كما هو معروف في الدراسات المسمارية – لم تكن تسجّل الوقائع بتجرد تاريخي، بل كانت أدوات بروباغندا ملكية هدفها تمجيد الملك وتعزيز شرعيته.

يوضح الباحث البريطاني A. K. Grayson في كتابه “Assyrian Royal Inscriptions” (1976):
“لم تكن النصوص الآشورية تكتب التاريخ، بل تكتب صورة الملك كما أرادها أن تُرى. وكل انتصار فيها يجب قراءته بعيون النقد والتحليل”. وبذلك فإن وصف شلمنصر لنصره في قرقور لا يمكن قبوله دون تمحيص أو مقارنة بمصادر أخرى.

1. صمت الممالك السورية والكنعانية:

رغم أهمية المعركة، لا توجد نقوش آرامية أو فينيقية توثّقها بشكل مباشر. ويرجّح الباحثون أن السبب يعود إلى الدمار اللاحق الذي طال مدنهم، وإلى ضعف التقاليد الكتابية مقارنة بالنظام الأرشيفي الآشوري. لكن هذا الصمت نفسه يفتح باب التأويل:
هل صمتوا لأنهم هُزموا فعلا؟ أم لأنهم لم يعتبروا ما حدث هزيمة تستحق التدوين؟

2. المصادر الكتابية (التناخية):

تظهر إشارات غير مباشرة إلى التحالف مع بن هدد في سفر الملوك الأول (إصحاح 20) والثاني (إصحاح 8)، حيث يرد ذكر تحالفات عسكرية بين آرام وإسرائيل ضد قوى أجنبية.

إلا أن النصوص لا تذكر قرقور بالاسم، ما جعل الباحثين يختلفون حول ما إذا كانت المعركة المذكورة هي نفسها تلك المسجلة في كورخ.

ويذهب المؤرخ الإسرائيلي Gershon Galil في مقاله “The Wars of Ahab and the Assyrians” (1996) إلى القول إنّ:
“غياب ذكر قرقور في النصوص العبرية لا ينفي وقوعها، بل يعكس موقفا لاهوتيا يريد التركيز على علاقة إسرائيل بالرب لا على تحالفاتها السياسية”.

الجدل الآثاري حول موقع قرقور

1. الهوية الجغرافية للموقع:

يُعتقد أن قرقور تقع قرب نهر العاصي في موقع أثري يُعرف اليوم باسم تل قرقور (Tell Qarqur)، في شمال غرب سوريا.
الحفريات التي أجرتها بعثة جامعة أريزونا بين عامي 1993 و2010 أكدت وجود طبقة دمار تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، ما يعزز فرضية وقوع المعركة هناك.

2. المفارقة الأثرية:

رغم العثور على دلائل الدمار، لم يُعثر على آثار لمعسكر آشوري ضخم أو لعدد من الجثث يوازي الرواية الملكية (14 ألف قتيل)، مما يعزز فرضية أن شلمنصر بالغ في وصف انتصاره. كما لم تُعثر على آثار توحي بسيطرة آشورية طويلة المدى بعد المعركة، وهو ما يتناقض مع أي “نصر ساحق”.

بين النص والحدث:

الجانب المقارن الرواية الآشورية الأدلة المادية/التحليل الحديث النتيجة العلمية
نتيجة المعركة نصر آشوري ساحق غياب آثار سيطرة لاحقة؛ استمرار الممالك المستقلة نصر رمزي أو غير حاسم
الخسائر البشرية 14,000 قتيل لا دليل أثري على أعداد ضخمة مبالغة دعائية
الموقع الجغرافي قرب نهر العاصي تأكيد أثري لموقع تل قرقور موثوق نسبيا
الأثر السياسي إخضاع الممالك استمرار التحالفات بعد المعركة مقاومة فعّالة للتحالف
الرؤية التاريخية مركزية آشورية تعددية سردية في المشرق الحاجة لإعادة كتابة التاريخ من منظور الميدان

1. من النص الملكي إلى التاريخ الاجتماعي:

تُظهر الدراسات الحديثة أن التاريخ الآشوري الرسمي لا يمثل سوى طبقة واحدة من الحقيقة. أما الطبقات الأخرى – الاقتصادية، الثقافية، والتحالفية – فقد ظلت مهمشة في السرد التقليدي.
إن إعادة قراءة قرقور تستدعي إذا الانتقال من رؤية الحدث ك”حملة ملك” إلى رؤيته ك”تفاعل شعوب”، بما فيها الممالك الصغيرة التي صنعت الفارق.

2. قرقور في الذاكرة الأكاديمية الحديثة:

تتبنّى مدرسة “التاريخ المقارن للمشرق القديم” اليوم (خاصة في جامعة شيكاغو وجامعة حيفا) مقاربة جديدة ترى في قرقور نموذجا مبكرا للتعددية السياسية، وليس مجرد صدام إمبراطوري.

فالمعركة لم تُنهِ الصراع بين آشور والممالك السورية، لكنها أسست لفكرة المقاومة الجماعية التي ستتكرر لاحقا ضد البابليين والفرس والرومان.

بعد خمسة أجزاء من التحليل، يمكن القول إن معركة قرقور لم تكن مجرّد مواجهة بين جيشين، بل لحظة تأسيسية في الوعي التاريخي للمشرق. فمنها خرجت أول صورة عن التوازن بين القوة والسيادة المحلية، وعن إمكان التحالف العابر للثقافات في وجه المركز الإمبراطوري.

قرقور، إذن، ليست مجرد صفحة في النقوش الآشورية، بل مرآة لروح المشرق حين قرر أن يقول “لا” للتاريخ الإمبراطوري، وأن يكتب سيرته الجماعية بالحجارة، والدم، والذاكرة.

المراجع:

  1. Grayson, A. K. Assyrian Royal Inscriptions. Part 2: From Tiglath-pileser I to Ashur-nasir-apli II. Wiesbaden: Otto Harrassowitz, 1976.
    نسخة PDF متاحة عبر Cambridge Core:
    https://www.cambridge.org/core/services/aop-cambridge-core/content/view/FEFD662429BB93ADEDBDD2FAD58F01D5/S0041977X00108961a.pdf/albert_kirk_grayson_tr_assyrian_royal_inscriptions_part_2_from_tiglathpileser_i_to_ashurnasirapli_ii_records_of_the_ancient_near_east_vol_ii_xix_213_pp_wiesbaden_otto_harrassowitz_1976_dm_84.pdf (Cambridge University Press & Assessment)

  2. Galil, Gershon. “The Wars of Ahab and the Assyrians.” Biblica, Vol. 77, No. 2, 1996.
    رابط التحقق (JSTOR): https://www.jstor.org/stable/605533
  3. Tubb, Jonathan N. Canaanites. London: British Museum Press, 1998.
    نسخة مرجعية في Google Books: https://books.google.com/books?id=dtEUvAEACAAJ (Google Books)
  4. Bagg, Ariel M. Assyrian Warfare and Society. Brill, 2013.
    https://brill.com/display/book/edcoll/9789004413740/BP000004.xml?language=en (Brill)
  5. Baqir, Taha. Muqaddima fi Tarikh al-Hadharat al-Qadima. Baghdad: Ministry of Culture, 1974.

Exit mobile version