صياغة العنوان وفق الشروط والضوابط المنهجية

يَعتقدُ بعض الكُتَّاب أن العنوانَ غيرُ ذي جدوى، وأنه مجردُ مَلمحٍ للمقال، ولا يستحق اهتماما مُفرِطا أو عناية خاصة. ويرى البعض الآخر؛ أن الاهتمام الحقيقي يجب أن يَنصبَّ على النص أو المقال ذاتِه لا على جُزئية العنوان. فالعنوانُ يَبقى مجرّدَ عنوانٍ؛ مهما أبدعْنا في صياغتِه أو تَفنَّنا في تشكيلِه ونَحتِه مفرداتِه وعبارتِه.

هناك مقولة ذائعة الصيت تقول؛ “كل جوهرٍ يُعرف من عنوانِه”، إلا أن هذه المقولة ليست صحيحةً تماما، فقد يكون الجوهرُ رديئاً فيما يَظهر عنوانُه أنيقا وجيِّدا وجذَّابا، وقد يكون الجوهرُ قَيِّماً ولكن عنوانَه لا يدُلُّ عليه ولا يَحمِل في تركيبِه خصائصَ هذه القيمة وهذه الجودة، وبالتالي؛ قد لا يُلتفَتُ إليه ولا يُؤبَهُ به.

لذك وجَبَ وضعُ ميزانٍ علمي ومنهجيّ لقياسِ جودة كل من العنوان والجوهر (النص/ المقال..) الذي يدل عليه، حتى لا يَنخدع البعضُ بسحر العنوان وإثارتِه، وحتى لا يُهمَلَ ويُقصى نصٌّ أو مقالٌ قيّمٌ وجيدٌ بسبب ضُعف عنوانِه وركاكتِه.

نُنبِّه بدايةً؛ أننا نتحدث في مقالنا هذا عن عناوين المقالات والبحوث والرسائل العلمية، ولا نقصد أبدا النصوص الأدبية أو الإنشائية، فهذه النصوص لا تَخضَعُ لضوابطَ منهجية في صياغة عناوينِها، ويعتمدُ الأديب في صياغتِها على مُخيِّلَتِه وقُدرتِه التصويرية والتجريدية والانزياحية.

تحتاج صياغة العنوان إلى ضوابط لا بد منها، يدخل بعضُها في منهجية الكتابة العلمية والأكاديمية الـمُتبعة في صياغة العناوين، وبعضها الآخر يندرج ضمن الأمانة العلمية وعدم تمويه القارئ أو الاستخفاف به أو استغفالِه أو خِداعه.

هناك شروط لا بد مِن توفرها لتمكين الكاتب من صياغة عناوينَ جيدة مستوفية للشروط المنهجية ومنها:

بعض العناوين الممتازة والجيدة، تبدو عند بعض القراءِ غيرَ مناسبة أو بعيدة عن الموضوع الذي وُضِعتْ له، وقد يكون مَرَدُّ ذلك إلى الإلمام القاصر والمحدود بالموضوع من طرف القارئ.

يمكن صياغة عنوانٍ ثُمَّ الشروعُ في كتابة مقالٍ له، وهذا يجعل الكاتب أمام وجهة محددة ومعلومة في الكتابة لا يجب الخروج عنها، ويتحتم على الكاتب الالتزام بالعنوان الذي وضعه. كما يمكن كتابةُ مقالٍ عن موضوع معين ثم استخلاص عنوانٍ منه، وهذه الطريقة تبدوا أسهل من النموذج الأول.

وهو أن يكون العنوان حاضرا وجاهزا في ذهن وتصور الكاتب، ويكونُ غالبا عند الكُتَّاب الـمُلِمِّينَ بموضوع أو قضية معينةٍ تطرحُ إشكالية تؤرق الكاتب، فيضل العنوانُ حاضراً في ذهنِه، في انتظار أن يَشرع في صياغة مقال له، في هذه الحالة يتوجب على الكاتب الانتباه إلى تطابق المقال مع العنوان، بمعنى أن تكون عناصر العنوان حاضرة في المقال كله، حتى لا يسرح به المقال بعيدا عن مَقْصَدِيَّة العنوان.

وهذه الطريقة مِن أصعب الطُّرق في صياغة العنوان، وتحدث عندما يعكف الكاتب على كتابة مقال ذو وِجهات موضوعاتية مُتفرعة، بحيث يجد نفسَه في أخر المطاف أما مقالٍ أو بحثٍ مُتشعب يخوض في مواضيعَ كثيرة وأحيانا متنافرة.

في هذه الحالة يكون الكاتب أمامَ خياريْن: فإما أن يُجزِّئ المقالَ بحسب عدد المواضيع التي يُعالجها، ويجعلَ لكلِّ مقالٍ عنوانا مناسبا له، ثم يتوسع فيه بحسب الحاجة. أو يُحاولَ التوليفَ بين وحداتِ العنوان لتعكس الموضوع وتَدُلَّ عليه قدر الإمكان.

إذا كان الأمر يتعلق ببحثٍ أو رسالة جامعية، فإن العنوان الرئيسي يكونُ عنوانا للقضية المركزية التي يُعالجها البحث، وتكون عناوين الفصولِ أو الأبوابِ أو المحاور تفَـرُّعاتٍ أو أجزاءً من القضية الأم. كما يجب الانضباط مع القضية المحورية، حتى لا يتسرب البحث إلى مجالاتٍ أخرى تُعتبرُ مباحثَ مستقلةٍ عما يُعالجُه البحث.

يجب عدم خِداع القارئ عن طريق استمالَتِه بعناوينَ مكذوبة، فإذا كانت هذه الطريقة جائزةً في الكتابة الأدبية، حيث يكونُ العنوانُ الغريب أو الشيِّقُ وسيلة من وسائلِ إغراء واصطياد القُراء، فإن الحال في الكتابات العلمية مختلفٌ تماما، فالعناوين المكذوبة التي تكون شيِّقة ومثيرة ولا تعكس المضمون، مذمومة في الكتابات العلمية.

وتُعتبَر احتيالا على القُراء واستغفالا لهم، إذ يجب على الكاتب احترامُ ذهن وثقافة ومستوى قارئه، وأن يمنحَه مادةً تتوافقُ مع العنوان المبثوثِ على ناصية المقال أو البحث أو الكتاب، فإن أعجبَه العنوان قرأ المقال وإن لمْ يُعجبْه تركَه.

ونضرِب لذلك مِثالا: “حيث إنَّ كاتبا صحفيا عربيا في إحدى الصحف المغمورة التي لا يقرؤُها إلا رئيس التحرير وطاقمُه الصحفي، أراد أن يُحقق نسبةَ قراءةٍ كبيرة للصحيفة، فاحتال في أحد العناوين وكتب بالخط الأحمر العريض على الصفحة الأولى من الصحيفة “انقلاب عسكري في اليمن“.

استبقظ  الناس على صدمة الخبر؛ وانتشرتْ الصحيفة بين القُراء انتشارَ النار في الهشيم، وبيعتْ منها أعدادٌ كبيرة جدا، حتى أن الصُّحُفَ الـمُنافِسة الأخرى؛ تفاجأتْ بالخبر واشترتْ الصحيفة لتتحقق من مصدر الخبر، فتفاجأوا من خلوِّ المقال من أي إشارة لحدوث انقلاب عسكري في اليمن.

وأن المقال لا يتحدث بتاتا عن أيِّ انقلاب عسكري حقيقيّ، والموضوع برمَّتِه يدور حول رَجُلٍ عسكريٍّ في اليمن؛ يَستعمِل حماراً للتنقل بين منزله والتكنة التي يعمل فيها، وبينما هو على الطريق الجبلية الوعرة انزلق به حمارُه وانقلبَ الرجل العسكري مِن على ظهر حمارِه ووقع أرضاً.

وقد تعمد الكاتب عدم تشكيل حُروف العنوان حتى لا يفقد العنوان تأثيرَه وقوتَه الإيحائية؛ حيث سيُصبح العنوان بعد الشكل: ((انقلابُ (رَجُلٍ) عسكريٍّ في اليمن).

في الكتابة الصحفية؛ يجب التفريق بين الصحفي العلمي؛ وهو المَعْنِيُّ بهذا المقال بالدرجة الأولى. وصحافة الخبر التي لا تعنينا في هذا المقال بتاتا، (خصوصا صحافة الخبر في العالَم العربي).

وهي صحافةٌ تجاريةٌ وتسويقيةٌ بالدرجة الأولى، تضع العناوين الكبيرة والضخمة والمُغرية لمواضيعَ ومقالاتٍ ركيكة، مليئة بالأخطاء، تافهة وعديمة النفع والفائدة، تستغفِلُ بها القارئ (العربي) لتحقيق نِسَبِ مبيعاتٍ أو مشاهداتٍ قياسية، ولا يَهُمُّها تقديم منتوجٍ صحفيٍّ راقٍ، جيِّدٍ ومفيد، يحترمُ عقولَ ووعيَ وذوقَ القارئ (العربي).

العنوان؛ هو أولُ ما يُطالعُ القارئ وأولُ ما يُثير انتباهَه، لذلك وجب أن يكون:

العنوان الجيد (عنوان المقالات العلمية ) هو العنوان الواضح والسَّهل والبسيط والمُعَبِّر.

Exit mobile version