فرادة الرؤية الأنطولوجية عند بلانشو تكاد تتحرَّر من قيد الشرطية الـمعرفية التي تلهث وراء رسم دقيق للماهيات والتصورات، بل تخلق حرجًا للكشف عن المفارقة التي تُعشِّش بداخلها.

يتخذ من موضوع «الـموت» تمثيلًا لهذا التمدّد الانعكاسي للآلام، وذلك لا ينبع إلا من فراغ أو خواء سحيق ليتم الانغماس في الواقع الإنساني وطبقاته العميقة.

وهذا الالتفات هو التفاف لانـهائي، لينكر أن يكون هناك أي ملجأ نلوذ إليه، وأيّ مـحاولة لذلك ستبوء بالفشل؛ لأن بلانشو يرى أنه لا يوجد شيء وهذا «اللاشيء» يحمل في عدميته وجودًا أكثر.

مفاد هذا أننا لا نستطيع العيش على أكمل وجه أو التفكير باستكانة، نضالنا من أجل الحياة هو حقيقة عمياء أو كفاح من أجل الـموت، فالفخاخ التي تربطنا بالوعي وبالظاهريّ والـمرئيّ لا جدوى لها عندما تتضاءل أمام الشقّ اللامرئي للواقع والحياة.

لهذا يرى بلانشو أنه إذا كان الـعيش أملنا فالـموت خلاصنا، فاليأس يلفُّنا والأمل يدمِّرنا، أملٌ نأمل أنْ يكون علامة على اليأس، الإنصات إلى اليأس بما لديه من قيمة تحرُّرية تدفعنا إلى المضيّ قدمًا حيث ما لا نأسف عليه هو بالضبط ما نسمّيه عيشًا.

تُسائِل الكتابة عند بلانشو فضاءً وجوديًّا مقلقًا في هدوئه، متأمِّلة بجمود هَسْهَسَة الـمحو الذي يكون الأثرَ الخفي لصفائح الـمكتوب. لماذا يكون المضي قُدمًا في مغامرة الكتابة؟ لماذا نتحرَّك إلى الأمام عبر الحبر من دون أن نخلِّف آثارًا وعلاماتٍ؟ الـمحو في الكتابة يجعلك تتحرّك بكلّ حرية، تتحرّك داخل الفراغ، لتتحرّى مكان البداية ولحظة الـمآل.

هل الدائرة السردية أو كتابة الكتابة هي كشف لما يعرفه الإنسان من سرائر أنه لا يعرفها؟ هل الكتابة هي محاولة كتابة ما يتعذَّر كتابته؟ هنا يجد الكاتب نفسه عبر سلسلة الإرجاءات الـممدودة حائرًا مُدانًا أمام ما لا يمكن محوه.

إنّ الكلام الأدبي احتواء عدميّ؛ فاللغة تنبع فقط من الفراغ وليس من الامتلاء، فالسارد لا يتكلّم من أجل قول شيء بل «لا شيء» يتطلَّب الكلام، فاللاشيئية النصية تكمن في كونها كلامًا أو كتابة أصلية كون الكلام لا شيء.

العدمية أو السلب أو اللايقين يمكن أن يتكلَّم أكثر من أيّ وقت مضى، عندما ننظر إلى ذلك الشيء الأساسي الذي يفتقر إليه أي شخص في أثناء التعبير عنه.

عبر ذلك الفقدان اللامـحدود، أمام العوز والافتقار للصبر والانتظار، في نهاية الـمطاف كان يتصوَّر قدرته على اشتقاق قوة؛ من دون الصبر أو من دون نفاده بين اللاموافقة واللارفض، حيث يكون التخلي من دون التخلي،

وهو ما يجعلها تتربع في منطقة من دون ألوان، وتتحرَّك داخل جمود وحزن مع اليقين الهادئ في شعوره أنه لن يكون قادرًا مرَّة أخرى على قول «أنا».

كما يجد الكاتب نفسه في حالة سخيفة متزايدة من عدم وجود أيِّ شيء للكتابة، من عدم وجود وسيلة للكتابة، وكونها مقيّدة من جانب الضرورة المطلقة للكتابة دائمًا. يجب عدم اتخاذ أي شيء للتعبير عنه في أكثر الطرائق الحرفية. وأيًّا كان ما يودُّ أن يقوله، فإنه لا شيء. العالم، والأشياء، والمعرفة لها معالم عبر الفراغ فقط.

هنالك تُلغَى الصُّور وتُبدَّد الاستعارات. تُكسَر الكلمات الـمفتوحة. من الآن فصاعدًا، ليس هناك سوى عُمق في العقل، أو قصيدة غير قابلة للتنفيذ، نص مفتوح على غياهب الوجود، في نوعٍ من الاعتراف بالطاعة الـمطلقة لهذا الغياب.

يصف بلانشو بانتظام تخريبي كبير فضاء «الأدب» كنَفْيٍ أو مَنْفى، مثل توبوس الصحراء أين يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف والشطحات، لهذا تُعد الصحراء هندسة متميزة للحرية والعزلة واللاانتماء، هناك يُنفَى الأدب من العالم ومن إنجازاته القيمية، لتعفيه من مطالبه ومطالباته.

الصحراء كمكان آمن يتنصّل من كل مسؤولية، ملجأ صامت ينتقل فيه المرء من العزلة إلى الخلوة، بساطة لا مبرّر لها أو خور يمكن للمرء عبرها أن يصل إلى أعماقه المنفية حتمًا.

ومن ثم، تتجلّى الكتابة عبر اللحظة أو الخطفة أو وَمَضَات الحاضر، أين يلجأ الكاتب إلى عزلته، ليُلامس قلقه بنعومة ويُحدّث أطيافه بوقار. عندما يتسلّل إلى الزمن الـميّت الذي ليس بوقته أو وقت الآخر أو أيّ وقت مشترك بين أناه وهواه ولكن زمن شخص ما.

استقلالية منزوعة أنطولوجيًّا لشخص موجود عندما لا يوجد أحد هناك. تبتغي الكتابة الوقوف عند تلك الظلال الـمعتمة، في ذلك الخارج الذي ينتمي إلى بُعدٍ لا يمكن إلقاء الضوء عليه، مكان خفي، خبيء، سرّ لا يمكن الكشف عنه.

الكتابة تلتزم الصمت أمام ذلك الفضاء الذي لا بُعْدَ له لأنه غامض أساسًا، وكلّ ما يدخل إلى فوهته يصبح مجهول الهوية وغير صحيح وغير واقعي حتى لو كان نورًا، في تلك الخطفات أو الومضات نكون أقرب إلى مشهدية موتنا.

هل ذلك الشخص يـمثل جزءًا منا؟ أم أننا ننتمي إليه؟ هل يقوم بانتحال شخصية هناك، حيث لا يوجد أحد، هناك ذلك الخارج الذي يمنع بطريقة أو بأخرى أي إمكانية لأي اتصال شخصيّ.

مـصادر الـمقال:

1) Maurice Blanchot, Faux pas, Gallimard, 1943.
2) Maurice Blanchot, La part du feu, Gallimard, 1949.
3) Maurice Blanchot, Lautréamont et Sade, éditions Minuit, 1949.
4) Maurice Blanchot, L’espace littéraire, Gallimard, 1955.
5) Maurice Blanchot, L’entretient infini, Gallimard, 1969.
6) Maurice Blanchot, L’écriture du désastre, Gallimard,1980.

الفيصل