حلب تنعي تاريخها

   أرسل لي صديقي “رامي” مقطعَ فيديو قصير منشور في موقع “يوتيوب” يتحدث عن الفوال الحلبي الشهير “أبو عبدو”، أو “حج عبدو” كما يناديه زبائنه، بعنوان “حلب تخسر ذاكرتها”. 


أرسل لي صديقي رامي ذلك التسجيل بالصوت والصورة في منتصف العام ٢٠٢١ الميلادي، أي بعد وفاة الفوال عبد الرزاق المصري (حج عبدو) بثلاث سنوات تقريباً، كان ذلك الفيديو بعنوانه الشيق وتوقيت تداوله المثير، دعوة صريحة مفتوحة للعموم، ولأهالي حلب على وجه الخصوص، للتمرد على النسيان، ولشحذ الذاكرة بمشاهدة محتوى الفيديو الثري. 

ولكي يشحذ صديقي رامي ذاكرتي المتعبة، هاتفني بعد إرسال الفيديو مباشرةً قائلاً:


أضاءت البسمة المرتسمة عفواً على شفاهي عتمة وجودي، سرحتُ قليلاً في عوالم طيش الشباب ورغد تلك الأيام، تنهدتُ وأجبته:

ضحك رامي ودافع عن اقتراحه القديم الغريب وأصرّ على إمكانية تنفيذه في ذلك الوقت واليوم، قال لي:


تحشرج صوتي وأنا أقرُّ بجهلي مرةً ثانية على الهاتف، بلعتُ خيبتي مع ريقي وقلتُ:

قاطعته معترضاً:


صمت صديقي رامي لبرهة من الوقت، ثم استدرك قائلاً:

استغربتُ هذا السؤال من صديقي الذي يتسم بالفهم السريع، ابتسمتُ وقلت:

داهمني رامي قائلاً بمكر:

أما دمار العمار فيمكن تعويضه بالترميم وإعادة البناء، وبذلك يبقى عمار حلب حاضراً في ذاكرة المدينة وأركان وجودها المادي. 

أجبتُ بهدوء مختتماً مكالمتنا الهاتفية بأسى واضح:

حلب يا صديقي لم تخسر ذاكرتها قط، حلب تنعي تاريخها الذي نشهد موته المستمر في ظل سكوتنا الطويل! 

فمنذ نصف قرن وحتى اليوم تتعرض حلب لاغتيال تاريخها بشكل ممنهج، منذ بدأت الجرافات بهدم باب الفرج وبحسيتا وباب النيرب بغطاء مشروع تجميل المدينة، منذ اغتيال أشجار شارع فيصل بغطاء توسيع الطريق، منذ هدم المقصف العمالي وقلع أشجاره الباسقة لينهض مكانهم برج شاهق لركن السيارات وسوق بيع وشراء، منذ بيع مقهى القصر لرأسمال تجار البناء ليغدو محلاً لبيع الأحذية بدلاً من مركز تجمع المثقفين، منذ هدم إعدادية الحكمة بلا حكمة ولا ذريعة سوى الجشع والطمع… منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وانتهاءًا بهذا الخراب العظيم، يُقتَل تاريخ حلب ونحن نتفرج بصمت. 


   بعد أشهر معدودة زارتنا إحدى الصديقات الحلبيات في ذات اليوم الذي توفي فيه مطرب حلب العظيم صباح فخري، هي قرأتْ الخبر من موبايلها وأعلنته علي وعلى زوجتي وقالت:

ردتْ زوجتي رجاء بكلمة رثاء:

.. أحمدُ الله أنني رأيته في عز أيامه بكامل البهاء، نعم لقد حضرتُ له بعض الحفلات التي غنى فيها حتى الصباح ورقص فيها الحضور حتى التعب، خسارة موتك يا صباح يا فخر حلب. 

علّقتُ قائلاً:

حلب الولّادة ستحبل يوماً بصباح آخر يمشي على دربه في “درب حلب ومشيته كله سجر زيتون”*… لقد قال لي رحمه الله في نهاية حفلته على مسرح قلعة حلب ذات يوم: 

(لطالما يولد مثل هذا الطفل الذي رقص مثلي وقلد رقصتي على المسرح الليلة، فلا خوف على صباح فخري من الفناء). 


جهاد الدين رمضان 

فيينا، الخامس من تشرين الثاني /نوفمبر ٢٠٢١ 


*درب حلب ومشيته كله شجر زيتون: من أغاني المرحوم صباح فخري المشهورة. 

Exit mobile version