هل تسألين النجم عن داري؟

   جلس الأستاذ محمد العمر – رحمه الله – مدرس اللغة العربية خلف الطاولة مستغرقاً في قراءة كتاب ما، رفع رأسه بعد برهة من الوقت ونهض مبتسماً، وقف أمام السبورة وقال:

رد التلاميذ “نعم” وهمهموا فرحين مسرورين، فقد حفظها معظمهم من أيام المدرسة الابتدائية وشرع بعضهم يردد أبياتها الأولى، بينما كان الأستاذ محمد يكمل الدرس قائلاً بصوت مرتفع:

  أمسك قطعة “طبشور” وشرع يكتب أبياتاً مختارة من القصيدة، فوجئنا – نحن تلاميذ الصف الثالث الثانوي في مدرسة الشهداء – بما كتبه الأستاذ من أبياتٍ لم ندرسها سابقاً، سأله بعض الرفاق “المظليين” بنوع من التهكم والتلميح بالسخط:

ضحك الأستاذ محمد ساخراً من تلك الأسئلة المقصودة، قال بثقة تجلت في نبرته القوية:

  بدأ بعد ذلك بسؤالنا عشوائياً عن معاني الأبيات وإعرابها جملاً ومفردات، يبتسم ويقول لمن أحسن الجواب “أحسنت”، ويغضب ويقول لمن أخطأ “اقعد يا كسلان”. 

حان وقت السؤال عن تمييز نوع عاطفة الشاعر في القصيدة، ها هنا ارتبكتُ وشعرتُ بالخوف، فكل الذي تعلمته سابقاً يدور حول أغراض الشعر في الحب والغزل والمدح والذم والشوق والفخر والوقوف على الأطلال… 

أما استنباط العاطفة في القصيدة فهو أمر جديد لم أتعلمه سابقاً، نظرت في السبورة وقرأتُ الأبيات المخطوطة بتمعن قبل أن يمعن الأستاذ في السؤال ويصل إليَ، في هذه الأثناء نهض أحد التلاميذ المعدودين من الشطار وأجاب الأستاذ:

قال له الأستاذ مبتسماً:

المطلوب منك يا ابني أن تتوسع في الشرح لتحدد نوع العاطفة بالضبط، فليست عاطفة الشاعر في قصيدة المدح مثل عاطفته في شعر العشق، وليست في ذات المستوى من الصدق، حاول أكثر مرة ثانية يا ابني. 

   جاء دوري بعد حين، سألني بلهجة فيها رائحة الفخر، فقد كنتُ محسوباً من التلاميذ الأوائل في الصف، قال لي مبتسماً:

حرتُ في أمري إذ اختلطت عليَ مشاعر الشاعر من الحنين للوطن والغيرة عليه وتقريع المحتل ولوم حكام الشعب.. قلت له متردداً:

أجابني أستاذي العمر وقد تلاشت البسمة من وجهه:

لا تقرأ القصيدة بلسانك أنت كتلميذ، اقرأها كأنك أنت من كتبها وضمّنها مشاعره وعاطفته، حينذاك ستتوصل لمعرفة الجواب الصحيح يا جهاد. 

……………………………………………………

   مضى زمن طويل على ذلك الدرس، لم أكن يوماً في مكان الشاعر أبي سلمى لأعرف مشاعر اللاجئ الغريب حق المعرفة، فجاءت أيام عاصفة عصفت بي ولفظتني خارج الوطن وشردتني، هاجرت من بلد إلى بلد كلاجئ يسعى إلى السلام والأمان حتى وصلتُ إلى النمسا، تقدمت بطلب اللجوء وقعدت وحيداً في غرفة صغيرة ضيقة في ريف مقاطعة “بورغنلاند”، التحقتْ بي زوجتي بعد عام تقريباً وسكنتْ معي في ذاك البيت/الغرفة، هالها حجم الغرفة الحقيرة التي يسميها صاحبها بيتاً متكامل الأركان، سألتني تحت تأثير الصدمة بلهجة ساخرة:

لَأحقرُ بيتٍ أقمنا فيه بحلب أفضل من هذا القفص، حتى خمّ الدجاج أوسع منه!. 

تنهدتُ ملتاعاً وسألتها مستنكراً: 

ثم تابعت إنشاد ما حفظته من أبيات قصيدة الشاعر أبي سلمى التي درّسنا إياها معلمي المرحوم محمد العمر ذاك اليوم:

(ملعبنا يوم رفيف المُنى…. ومُلتقى الجارة بالجار 

داري! وفي عيني بعد النوى…. ألا ترى خيالها الساري؟ 

خضّبه الحلم بألوان…. فخضّبتْ بالدمع أشعاري 

جارَ عليها مدَّعٍ بالهوى…. جور عدو في الحمى ضارِ 

والشعب كم من حاكمٍ باسمهِ…. يظلمه ظلمَ سِنمارِ 

في عينه دمعةُ باكٍ…. وفي راحته سكين جزارِ).

   لا أعرف هل ذرفتُ دموعي وأنا أردد تلك الكلمات، أم هي دموع الشاعر اللاجئ ظهرت في عيوني، أم هو دم قلبي ينزف مع كل حرف من كلماتها؟.. 

الله يرحمك يا أستاذي محمد العمر ويطيّب ثراك، انظر ها قد عرفت جواب سؤالك اليوم، فهل كنت تعرف أن تلاميذك وأولادك سيختبرون بأنفسهم عاطفة الشاعر أبي سلمى في تلك القصيدة المختلطة المشاعر في قادم الأيام؟!. 


جهاد الدين رمضان – في فيينا ٣١ تموز/يوليو ٢٠٢٢

Exit mobile version