اطلب العلم في دوّار القمر!

    دعاني صديقي محمد للذهاب برفقته إلى “دوّار القمر” للدراسة عند الزميل أحمد، لم أكن أعرف أين يقع دوّار القمر، خطر في بالي أنه مكان بعيد بعد القمر عن الأرض، فاعتذرتُ منه قائلاً:

التفتَ محمد بكامل جسده نحوي وردّ على رفضي بقوله مبتسماً:

ضربتُ رأسي بكفي إذ أدركتُ خطأ ظني من خلال سؤاله البديهي، اعتذرت مرةً ثانية منه، لكن عن سوء تقديري المعتمد على ايحاء اسم الحي. 

ضحك محمد هذه المرة وقال مواسياً زلّتي بلهجة ساخرة:

ابتسمتُ وقلت له:

نهض محمد من مقعده ليبحث عن كتاب الرياضيات في خزانة التلفزيون التي تتسع لكل شيء، قال لي:

تملكني الشغف بالحي ذي الاسم الجميل قبل أن أعرفه، فالأذن تعشق قبل العين أحياناً على مبدأ الشاعر الضرير ابن برد. 

نهضتُ من مقعدي قبل أن أكمل شرب قهوتي وقبل أن يجدَ صديقي محمد كتابه، قلت له بحماس:

إلتفتَ محمد نحوي وقال بلهجة آمرة:


   في ذلك العام الدراسي الأول لنا في مدرسة “الشهداء” الثانوية العامة الواقعة على حدود حي المغاير والفردوس، ازدادت اضطرابات أحداث الأخوان المسلمين في حلب، لا يخلو أسبوع من الزمان حتى تنقطع الدراسة في المدارس بسبب نشوب الاشتباكات أو وقوع الإضراب أو إغلاق الشوارع بالمظاهرات وحرائق الدواليب.. 

   إضافة للأحداث، كانت رغبتنا في طلب الحرية خارج أسوار المدرسة، هي السبب الأهم للدراسة الحرة مع التدخين والشاي والدردشة على سطح القمر، عفواً: على سطح بيت زميلنا أحمد في دوّار القمر، فإلى جانب السبورة على السطح، بنى أبيه لأولاده الذكور غرفة مزودة بسريرين وطاولة وبضعة مقاعد للدراسة، فإذا كان الجو ماطراً أو الطقس حاراً أو بارداً، ندلف إلى غرفة الشباب ونذاكر ما فاتنا من دروس، وقد تتحول جلسة الدراسة الجدية في كثير من الأحيان إلى جلسة للعب الورق واللهو.. 

   مع ذلك الانقطاع المتكرر عن المدرسة وكثرة اللهو، نجحتُ ذلك العام – عام ١٩٨٠ – بتفوق وامتياز بفضل زميلنا المجد أحمد وبقية الزملاء، الذين تحولت زمالتهم إلى صداقة العمر. 

   لم نكتفِ – نحن عصبة الأصدقاء التي أسميناها شلّة هارليم – في صيف ذلك العام بالنجاح إلى الصف الثاني الثانوي فحسب، بل أصدرنا مجلة علمية ثقافية تحت عنوان: (من الألف إلى الياء) تيمناً ببرنامج تلفزيوني سوري شهير في ذلك الزمان. 

   ضاعت المجلة في زحمة الإعارات، وضاعت دروبنا بعد متابعة الدراسة في المعاهد والجامعات، تخرجنا من الدراسة إلى الحياة العملية كلٌ في طريق، لكن طرقاتنا دائماً ما تلتقي على المحبة في طريق “دوّار القمر”، حيث انعقدت هناك صداقة سامية استمرت في القلوب رغم الفراق والخراب والظلام، وكم هو مؤسف أنّ الصداقة التي بدأت مع أحداث عام ١٩٧٩، انفرط عقدها مع ربيع عام ٢٠١١ بسبب مواقفنا المختلفة تجاهها. 

   دوّار القمر الحي الشعبي العشوائي جنوب حلب الذي يقطنه الفقراء ولا يمتُّ لإسمه الجذاب بشيء، تعرفت عليه في نهاية عام ١٩٧٩ من خلال الأصدقاء أحمد وعبد المجيد ومحمد (هارليم)، هذا الحي الكادح الفقير خرّج الكثير من طلاب العلم والفنانين والأدباء رغم ظروفه وظروف سكانه الصعبة، بيت صديقي أحمد لوحده خرّج ثلاثة أطباء ومهندس ومدرس، يعيلهم رجل واحد لوحده رحمه الله! 

في هذه الحالة ألا يصدق قول صديقي محمد (قريبي):

اطلب العلم في دوّار القمر!

بلى، وأزيد عليه:

اطلب صدق المحبة في دوّار القمر. 


جهاد الدين رمضان:  في فيينا ٢٦ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٢.

Exit mobile version