منبرُنا

أنا رباطي… أنا سلاوي

لم تتوقف تداعيات تصريح الريسوني في وسائل التواصل «غير» الاجتماعي، حتى انتقل الحديث من إقحام موريتانيا، في صراع مفتعل، إلى استدعاء تونس لتصبح موضوع هذه الوسائل، إثر استقبال «الزعيم» الثوري. أما ليبيا فقد بدأ التلويح بالحرب بين أطرافها بسبب عدم التوافق بين مكوناتها.


إنها الحرب التي لا تتوقف إلا لتبدأ مجددا. لا يمكن لهذا الوضع الذي تعرفه المنطقة المغاربية إلا أن يدفع إلى التساؤل: إلى متى سيظل الصراع الداخلي قائما في ليبيا؟ وإلى متى هذا التمادي في التعادي؟ وإلى متى سيظل العمل الذي لا يتوقف، منذ نصف قرن، وبكل الوسائل، لتوسيع المغرب العربي ليصبح كبيرا فعلا بإضافة دولة سادسة؟

أظن أن الذين ظلوا يرفضون نعت المغرب بالعربي، مسرورون الآن جدا. فالمغرب الكبير الذي طرحوه بديلا، يحمل دلالات قوية على ما كانوا يحلمون به، وهم يحاربون «ثقافة» بـ»سياسة» وتاريخا بجغرافيا. فصارت مشاكله تزداد كبرا، وباتت مغاربيته تمزقا، والعلاقات بين شعوبه تفرقا، والتناقضات الداخلية تزداد اتساعا، والحلم بإضافة دويلة سادسة إليه توسيع لكبره، وتوليد لرغبات كامنة في تكبيره بخلق دويلات أخرى.

حين تحدثت عن التاريخ والجغرافيا، كنت أقصد أن هم الشعوب المغاربية يكمن في العيش في سلام ووئام. ومن يعمقون التناقضات لا يخدمون إلا الأهداف الاستعمارية التي ترمي إلى ترسيخ المشاكل وتعميق الجراح. فصار كل طرف يبحث له عما يبرر اختلافه، ويسوغ خلافه، في تناقض صارخ مع جيرانه وأشقائه.

كنا نستمتع بأوبيربيت الموسيقار محمد بن عبد السلام في أوائل السبعينيات: «أنا رباطي، أنا سلاوي». مغنيان يذكر كل واحد منهما مفاخر مدينته، معتزا بها، معليا من شأنها مقارنة مع غيرها. يحتكم المغنيان إلى من يفصل بينهما، وكل منهما يود أن ينتصر له ضد خصمه. يفصل بين المدينتين وادي أبي رقراق، فصارتا العُدوتين، على غرار العُدوتين (المغرب والأندلس) كما كان مصطلحا على ذلك في الكتابات القديمة. وما يزال الأذان إلى الآن يرفع حسب توقيت العدوتين وما جاورهما. فرّق الوادي بينهما فصارتا «العدُوتين». وكل معتز بانتمائه وأصله.

كنا نستمتع بأوبيربيت الموسيقار محمد بن عبد السلام في أوائل السبعينيات: «أنا رباطي، أنا سلاوي». مغنيان يذكر كل واحد منهما مفاخر مدينته، معتزا بها، معليا من شأنها مقارنة مع غيرها.

إن التناقض والتناحر بين الجيران قديم قدم العلاقات الاجتماعية، أيا كان الجيران، من العائلة إلى القبيلة فالدولة. وما نشهده حاليا على المستوى العالمي يؤكد ذلك. وحين يسود التناقض بين مكونات مجتمع فمعنى ذلك أنه يعيش لحظة انحسار وانحدار.

عندما كانت الدول المغربية قوية لم تكن التناقضات بين القبائل والمناطق موجودة، بل إن إمبراطورية المرابطين والموحدين، وحتى المرينيين امتدت شمالا وشرقا وجنوبا. لكن سقوط الأندلس، ووصول الأتراك إلى وجدة، إبان حكم السعديين (القرن 16) فرض على المغرب عزلة قاتلة. لقد صار محاصرا من الشرق، ومن الشمال والغرب، وأيضا من الجنوب بعد استحواذ الإسبان والبرتغاليين على التجارة التي كانت مع افريقيا.

ولم يكن توقف الأتراك عند حدود وجدة حائلا دون استمرار التحرشات الإيبيرية على الشواطئ الشمالية والغربية، فكانت الحرب سجالا، وكلما تحررت مدينة شاطئية، ظلت أخريات محتلة. أمام ضعف الدولة المغربية، وتربص العدو الخارجي سيعرف تاريخ المغرب وضعا مزدوجا، ومتناقضا: فهو يتوحد لمواجهة الغزو الخارجي (الاتحاد والجهاد). وهو يتفرق حين تشتد التناقضات الداخلية، وتكثر أحلام الراغبين في السلطة (المخزن والسيبة).

إن من يتحدث عن المخزن الآن بطريقة قدحية لا يعرف تاريخ المغرب، ولا تاريخ السيبة التي تعني الفوضى والتسيب، كانت كل قبيلة تفرض وجودها، وتقوم بالسلب والنهب، وسرقة الممتلكات، وسبي النساء. ظهر مصطلح المخزن في عهد السعديين ليعني المخازن المركزية التي تجمع فيها الزكاة، والضرائب، لتسيير وتدبير الشؤون الإدارية والعسكرية.

ثم صار المصطلح دالا على الدولة. هذا المخزن هو الذي حافظ على وحدة المغرب، وعلى استمرار المؤسسات المختلفة التي وجدها الاستعمار في المغرب. إنه يعني الاستقرار، والأمن، والحفاظ على وحدة البلاد. وفي لحظات الضعف، كان يشتد الخلاف بين بلاد المخزن، وبلاد السيبة التي تعني انعدام الأمن، والفوضى العارمة. كما كان يقع الخلاف داخل المخزن حول من يمكن التسليم له بزمام الأمور.

حاولت الحركة الوطنية توحيد المغاربة حول شعار الاستقلال، وكانت ثورة الملك والشعب جزءا من الحركة. كانت الوحدة تقابلها التفرقة. وظلت السيبة تظهر بين الفينة والأخرى، وكل يتصور الاستقلال بالشكل الذي يرتضيه. وظلت الأحاسيس الخاصة تسعى إلى التفاخر، وإعلان التفوق، وبالتالي إلى التفرقة.

قال الحكَم: أنت رباطي، وأنت سلاوي، «ما قضيتم؟» عليكم بناء الوطن، وأن تتوحدوا. خلال أربعة عقود ظلت سلا مختلفة عن الرباط. ومنذ الألفية الجديدة أقيمت عدة جسور عملاقة تربط بينهما، وصارت الطرقات أكثر مما كانت عليه وأصبح حوض أبي رقراق يزدهي بالمنشآت الضخمة والمنتزهات الجميلة التي كنا نحلم بها.

فلم يبق لأحد أن يقول أنا سلاوي، أو أنا رباطي، كما كان ذلك في زمان مضى.
إن الدعوة إلى التفرقة، ضد رغبات شعوب المنطقة، وتفاخرَنا بتاريخ قديم لجغرافيا جديدة لا يؤسس دولة عصرية، ولا يحقق كرامة شعوب تحلم بالحرية والتعايش والتعاون.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى