الهرمنيوطيقاسردياتسيميائيات
أخر الأخبار

السميائيات وموضوعُها

تحتل السميائيات في المشهد الفكري المعاصر مكانة مميزة، فهي نشاط معرفي بالغ الخصوصية من حيث أصوله وامتداداته ومن حيث مردوديته وأساليبه التحليلية. إنها علم يستمد أصوله ومبادئه من مجموعة كبيرة من الحقول المعرفية كاللسانيات والفلسفة والمنطق والتحليل النفسي والأنتروبولوجيا ( ومن هذه الحقول استمدت السمائيات أغلب مفاهيمها وطرق تحليلها).


كما أن موضوعه غير محدد في مجال بعينه، فالسميائيات تهتم بكل مجالات الفعل الإنساني : إنها أداة لقراءة كل مظاهر السلوك الإنساني بدءا من الانفعالات البسيطة ومروار بالطقوس الاجتماعية وانتهاء بالأنساق الإيديولوجية الكبرى.

وعلى الرغم من أن صياغة حدودها النظرية وتحديد مجالاتها لم تبدأ إلا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإننا لا نعدم وجود أفكار سميائية متناثرة في التراث الإنساني بشقيه الغربي والعربي. فقد حفلت كتب الأقدمين بإشارات تخص العلامة ومكوناتها وطرق إنتاجها وتلقيها في محاولة لفهم أسرار الدلالات التي ينتجها الإنسان في تفاعله مع محيطه.

بل يمكن القول إن البدايات الأولى للسميائيات جاءت استجابة للرغبة الملحة في الإمساك بوحدة التجربة عبر الكشف عن انسجامها الداخلي غير المرئي من خلال الوجه المتحقق. فما يمْثُل أمام الحواس شيء متنافر ومتداخل ولا نظام له ولا هوية، ووحدها القواعد الضمنية التي تتحكم في وجوده وتلقيه هي التي تمكن الذات المدركة من التعرف عليه والإمساك بمنطقه.

إن البحث عن هذا الانسجام هو الذي قاد الإنسان إلى استخراج مجموعة من المبادئ يمكن الاستناد إليها من أجل إنتاج كل المفاهيم، أي الانتقال من البعد المادي للعالم الخارجي إلى وجهه المجرد.

فمنذ أن أحس الإنسان انفصاله عن الطبيعة وعن الكائنات الأخرى واستقام عوده وبدأ يبلور أدوات تواصلية جديدة تتجاوز الصراخ والهرولة والاستعمال العشوائي للجسد والإيماءات، بدأ السلوك السميائي في الظهور، وتبلورت أشكال رمزية تستمد قيمتها التعبيرية من العرف والتواضع، وهي الأشكال التي سينظر إليها فيما بعد باعتبارها العلاقة التوسطية بين الإنسان وعالمه الخارجي ( كاسيرير ( E Cassirer) وفلسفة الأشكال الرمزية(.

وليس غريبا أن تركز الأعمال الفلسفية الكبرى اهتمامها على دراسة العلامة باعتبارها الأداة الأولى التي قادت الإنسان إلى الانفصال عن طبيعة موحشة ليلج عالما ثقافيا حيث سيتأنسن ويكتشف طاقاته التعبيرية الجديدة. بل يمكن القول إن” فلسفة اللغة، من الرواقيين إلى كاسيرير، ومن القروسطيين إلى فيكو( Vico)ومن القديس أوغستين إلى فتغنشتاين، لم تكف عن مساءلة أنساق العلامات، وبذلك تكون هذه الفلسفات قد طرحت بشكل جذري قضية السميائيات “. (1)

فالإنسان هو الكائن الوحيد المنتج للدلالات، وهو الكائن الوحيد الذي يحيا بالوسائط، وهو الكائن الوحيد الذي حول الأصوات إلى أشكال حاملة للمعاني، ولهذا ما كان بمستطاعه العيش في هذا الكون دون الاستعانة بالعلامات.

ولهذا لا تتحرج بعض التيارات السميائية في الإعلان عن انتمائها إلى تصورات فلسفية بعينها. ولا يعوزها في ذلك دليل : فما دام موضوع السمائيات الأول والأساس هو المعنى وأشكال وجوده، فإننا لا يمكن أن نتجاهل مقترحات الفلسفة في هذا المجال. ويكفي أن نشير في هذا الإطار إلى أن بعض التصورات السميائية ( مدرسة باريس خير مثال على ذلك ) لا يمكن فهم إجراءاتها التحليلية ولا منطلقاتها النظرية دون التعرف على المبادئ الفلسفية التي تحكم تصورها للمعنى(2).

وذاك أيضا وضع السميائيات عند الفيلسوف والسميائي الأمريكي شارل سندرس بورس. فالمنطق في معناه العام، كما سنرى ذلك في الفصل الثاني، “ليس سوي اسم آخر للسمائيات، ذلك العلم الضروري والشكلي للعلامات” (3).

بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك ورأى في فلسفة كانط تبشيرا بسميائيات قائمة الذات، فالتمييز الذي يقيمه كانط بين الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية يتضمن نظرة سميائية، كما أن كتابه ” الأنتروبولوجيا” يحتوي على نقاش خاص بنظرية العلامات، أما كتابه “المنطق” فيمكن قراءته اعتمادا على مفاهيم من طبيعة سميائية.(4)

ورغم أهيمة هذه الأصول ودورها في تحديد الهوية المعرفية للسميائيات، فإننا سنهتم بموضوعها وحدودها النظرية ومبادئها التحليلية أكثر من اهتمامنا بأصولها الفلسفية وجذورها التاريخية.

ّّ II- إ ن السميائيات لا تنفرد بموضوع خاص بها، فهي تهتم بكل ما ينتمي إلى التجربة الإنسانية العادية شريطة أن تكون هذه الموضوعات جزءا من سيرورة دلالية. فالموضوعات المعزولة، أي تلك الموجودة خارج نسيج السميوز، لا يمكن أن تشكل منطلقا لفهم الذات الإنسانية أو قول شيء عنها.

فليس بمقدورنا أن نتحدث عن سلوك سميائي إلا إذا نظرنا إلى الفعل خارج تجليه المباشر، فما يصدر عن الإنسان لا ينظر إليه في حرفيته، بل يدرك باعتباره حالة إنسانية مندرجة ضمن تسنين ثقافي هو حصيلة لوجود مجتمع. و”وجود المجتمع ذاته رهين بوجود تجارة للعلامات. فبفضل العلامات استطاع الإنسان أن يتخلص من الإدراك الخام، وأن يتخلص من التجربة الصافية، وينفلت من ربقة الزمان والمكان “. (5)

إن كل مظاهرالوجود اليومي للإنسان تشكل موضوعا للسميائيات. وبعبارة أخرى فإن كل ما تضعه الثقافة بين أيدينا هو في الأصل والاشتغال علامات تخبر عن هذه الثقافة وتكشف عن هويتها. فالضحك والبكاء والفرح واللباس وطريقة استقبال الضيوف وإشارات المرور والطقوس الاجتماعية والأشياء التي نتداولها فيما بيننا، وكذلك النصوص الأدبية والأعمال الفنية، كلها علامات نستند إليها في التواصل مع محيطنا.

فكل لغة من هذه اللغات تحتاج إلى تقعيد، أي تحتاج إلى الكشف عن القواعد التي تحكم طريقتها في إنتاج معانيها، مستندة في ذلك، وفي الكثير من الحالات، إلى ما تقترحه العلوم الأخرى من مفاهيم ورؤى.

فبالإضافة إلى دراستها للنسق اللساني، الذي يعد أهم الأنساق وأرقاها، فإن السميائيات وسعت من دائرة اهتماماتها لتجعل من كل الأنساق التواصلية التي يستعين بها الإنسان في خلق حوار مع الآخر موضوعا لدراستها. فجل التصنيفات الخاصة بالأنساق السميائية لا تكتفي بإحصاء العلامات المشتقة من اللسان، كما لا تكتفي برصد الأنساق البصرية التي خلقت تراكما هاما من الناحيتين النظرية والتطبيقية ( الصورة في المقام الأول )،

بل تدرج ضمن حقل دراستها مجمل الصيغ التعبيرية التي يستعملها الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر في حواره مع ذاته ومع الآخر، كالشم واللمس والسمع والذوق. فالحواس تنتج صيغا تعبيرية تتمتع بوضع إبلاغي خاص ونظر إليها دائما باعتبرها دعامة أساسية في التواصل البيإنساني.

وما يمكن التنبيه عليه هو أن هذه الأنساق التواصلية مرتبطة في المقام الأول بالحواس، أي أنها تحدد الحالات الأولى للإدراك الحسي المبني على الالتقاط المباشر لما يوجد خارج الجسد الإنساني بعيدا عن المفهمة والخطاطات المجردة.

فالذوق والشم واللمس والبصر والسمع هي المنافذ الأولى التي تتسرب عبرها المادة الأولية للإدراك. وكما سنرى ذلك لاحقا، فإن سميأة هذه المعطيات الحسية هي وحدها الكفيلة بمنح هذه الأنساق أبعادا ثقافية، أي تحويلها إلى أداة للأحكام والتصنيفات الاجتماعية. وسنكتفي هنا بإشارة عجلى إلى ما يعود إلى النسق الشمي ( وسنخصص الفصلين الثالث والرابع للنسقين الإيمائي والبصري (.

فعلى الرغم من أننا لا نتوفر حاليا على دراسات نظرية للنسق الشمي تستوحي مفاهيمها من السيمائيات ( رغم أن كل التصنيفات السميائية للعلامات تشير إلى التواصل الشمي باعتباره نسقا قائم الذات)، فإننا لا يمكن أن نتجاهل التأثيرات المتعددة والمتنوعة لهذا النسق، وكذا دوره في تحديد مضمون الإرساليات الاجتماعية.

فالنسق الشمي يلعب دورا هاما في تحديد نوعية العلاقات بين الكائنات البشرية : علاقة الرجل والمرأة، علاقة الجسد الحي والجثة، بين الطبيعي والاصطناعي، بين الإفراز الجسدي ( العرق) وبين الرحيق الذي تعطيه الطبيعة.

ويكفي أن نشير إلى المثال الذي تقدمه الإرساليات الإشهارية الخاصة بالعطور الأنثوية. فلأن الرائحة لا يمكن تصويرها فإن الإرسالية تقدم لنا حالة أقرب إلى السلوك الحيواني، فكما أن مجموعهة كبيرة من الحيواتات تعبر عن رغبتها الجنسية أو التعرف على شريكها عن طريق الشم،

فإن المرأة المضمخة بعطر عالي الجودة تستثير حاسة الشم عند الرجل فيتبعها ويهديها الورود أو يعرض عليها الزواج أو يسير وراءها في الشوارع العريضة. وهذه حالة ضمن حالات أخرى متعددة يتحدد داخلها الشم باعتباره بناء ثقافيا يستمد قوته الإبلاغية والتدليلية من وضعه ضمن نسق من العلامات المالكة لقواعد خاصة في الاشتغال.

ومن هنا كان التركيز في السميائيات على طبيعة التدليل لا على المادة التي تشكل سندا للدلالة. فكل شيء يمكن أن يعزل وينظر إليه باعتباره كيانا مستقلا بذاته ويملك سياقاته الخاصة، وقادرا، استنادا إلى عناصر الثقافة، على إنتاج معانيه. فالمعنى المرئي لا قيمة له، أو هو هنا فقط لكي يدشن سيرورة لا تعطي نفسها بسهولة.

وهذا أمر بالغ الوضوح، فالسميوز من حيث الطبيعة والجوهر واحدة، إلا أنها، في الاشتغال والتحقق، تختلف باختلاف الوقائع النصية. فمكونات كل واقعة تقود إلى تحديد نوعية السميوز وطريقة اشتغالها. فللسرد قواعده وللشعر قواعده أيضا، كما أن للمسرح والسينما والصورة قواعد تستند إليها هذه الأشكال التعبيرية من أجل إنتاج دلالاتها.

ولهذا فإننا في ممارساتنا التحليلية – كيفما كان موضوع التحليل- لا نعين معنى، ولا نكشف عن مادة مضمونية مودعة بشكل سابق في الواقعة، فذاك إجراء وصفي لن يمنحنا أية لذة. إننا على العكس من ذلك نتقفى أثر السيرورة المنتجة للمعاني، والمعنى ليس شيئا آخر سوى هذه السيرورة.

فهذه التصنيفات المتنوعة لا تعود إلى طبيعة المعاني التي تنتجها الأشكال التعبيرية المختلفة، إنها المنتوج الذي تفرزه الإكراهات التي يفرضها نمط بناء كل شكل تعبيري على حده. فالتميز والاستقلالية آتيان من السيرورة الإنتاجية لا من جوهر الدلالات. فالسميائيات في جميع هذه الحالات هي بحث في المعنى لا من حيث أصوله وجوهره، بل من حيث انبثاقه عن عمليات بناء نصوص شتى، أي بحث في أصول السميوز وأنماط وجودها.

وربما هذا ما يبرر التمييز بين سميائيات عامة من طبيعة فلسفية، تكتفي بطرح التصورات العامة التي تمكننا من المقارنة بين كل الأنساق المنتجة للدلالة، أي سميائيات هي في الأصل صياغة لمبادئ فلسفية خاصة بالمعنى، وبين سميائيات خاصة تهتم بالوقائع المخصوصة وهي من طبيعة تطبيقية. فلكل لغة سميائياتها الخاصة التي تتكفل بصياغة قواعد بنائها الداخلي.

فهذه اللغات تحتكم إلى “نحو” يحدد لها نمط وجودها ونمط اشتغالها. والمقصود بالنحو في جميع هذه الحالات هو مجموعة من القواعد الخاصة باشتغال كل نسق على حده، وهي قواعد تتضمن في آن واحد ما يعود إلى التركيب وما يعود إلى الدلالة، أي ما يعود إلي طريقة البناء وما يعود إلى المضمون الدلالي. فلا يمكن للصورة مثلا أن تنتج دلالاتها بنفس الطريقة التي ينتج بها السرد مثلا دلالاته. إن الحقل الذي تنتمي إليه الوقائع المدروسة، هو الذي يفرض سلطته وإرغاماته منتجا بذلك مفاهيمه وأدواته الإجرائية الخاصة. ( 6)

استنادا إلى هذا، فإن الموضوع الرئيس للسميائيات هو السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالة، أي ما يطلق عليه في الاصطلاح السميائي السميوز ( sémiosis). والسميوز في التصور الدلالي الغربي هي الفعل المؤدي إلى إنتاج الدلالات وتداولها، إنها سيرورة يشتغل من خلالها شيء ما باعتباره علامة. فالكلمة أو الشيء أو الواقعة ليست كذلك إلا في حدود إحالتها على سيرورة، فلا شيء يمكن أن يدل من تلقاء ذاته ضمن وجود أحادي في الحدود والأبعاد، فالواحد المعزول كيان لا متناه، ووحده التحقق من خلال محمول مضاف يمكن أن ينتج دلالة.

إن هذا التصور القائم على وجود سيرورة نطلق عليها السميوز ( أو الوظيفة السميائية في اصطلاح لويس هالمسليف) تشتغل باعتبارها بداية وغاية لكل فعل سميائي يجد أصوله الأولى، كما سنرى في الفصل الثاني من هذا الكتاب، في تعاليم المؤسسين الأولين فردناند دو سوسير وشارل سندرس بورس، فكلاهما نظر إلى الدلالة باعتبارها سيرورة في الوجود والاشتغال والتداول. فهي لا يمكن أن تكون معطى سابقا أو لاحقا للفعل الإنساني، إنها الفعل ذاته. فكل فعل ينتج، لحظة تحققه، سلسلة من القيم الدلالية التي تستند في وجودها، إلى العرف الاجتماعي وتواضع الاستعمال.

وهذا أمر بالغ الدلالة، فالتسنين الثقافي هو وحده الذي يمكن الذات المتلقية من فهم هذه القيم واستيعاب أبعادها المختلفة. وهذا الطابع يجد مبرره الأساس في طبيعة الفعل ذاته، فكل فعل هو سيرورة مركبة ولا يمكن أن يكون كلية مكتفية بذاتها.

وتلك كانت البدايات الأولى لمسار معرفي جديد سيقوض دعائم كل التصورات القديمة التي كانت ترى في المعنى كمّاَ جاهزا معطى خارج السيرورة. ف” الكل المعنوي” ليس دالا، وليس بمقدوره أن يكون كذلك، فلكي يتحول إلى كيان قادر على التدليل عليه أن يندرج ضمن سيرورة، فالسيرورة هي المبدأ الأساس للإمساك بالأنساق الدلالية والإبلاغية.

وبناء عليه، فأن تكون السميوز نسيجا من العلامات، فهذا معناه أن ما يحدد هويتها ليس مادة أصلية ولا عناصر معزولة، بل مفهوم العلاقة ذاته. فالدال ( الصورة السمعية أو أي كيان يستعمل للإحالة على شيء آخر) باعتباره أداة التعرف الأولى ينتج مدلولا وفق علاقة مبنية على ترابط اعتباطي، وهذه العلاقة هي ما يحدد فعل إنتاج المعاني وتداولها. فالوظيفة الأصلية للعلامة هي وظيفة اختلافية منبثقة عن علاقة وليست حصيلة لمادة مضمونية مكتفية بذاتها. وهذا أمر في حاجة إلى توضيح، فمعرفتنا للعالم تستنتد إلى العلاقات لا إلى المادة المضمونية الكلية الوجود.

وبناء عليه، فإن الوحدات الدالة لا تستمد قيمتها من إحالتها على مضمون إيجابي يكتفي بتسييج مساحة دلالية مفصولة عن أي سياق، بل هي كذلك في حدود إسقاطها لعناصر تتقابل معها وتحدد مضامينها المتحققة والممكنة. فماذا يعني الشر أو الصدق أو الأمانة في غياب مضامين نقيضة كالخير والكذب والخيانة.

ومن جهة ثانية، فإن المضمون الإيجابي في ذاته لا يدرك إلا من خلال شكله، فما ندركه عن الدلالة هو شكل وليس مادة. وهكذا فإن إدراك أي مضمون يقتضي تحويله إلى شكل، وهذا التحول يمر عبر الكشف عن الوحدات الدلالية التي تخبر عن المادة المضمونية، وهي المسؤولة أيضا على إسقاط السياقات المحتملة.

فالرجل هو المذكر والحي والإنسان والراشد، وهذه العناصر هي التي تشكل البدايات الأولى لكل سيرورة تدليلية، أما القيم الأخرى المرتبطة بمفهوم رجل من قبيل “الشهامة” و “الشجاعة” أو “الصمود” فتلك وحدات تأتي بها الثقافة، ولا يمكن أن تفهم إلا استنادا إلى الأسنن التي توفرها هذه الثقافة، وهو ما أطلقنا عليه سابقا السياقات المحتملة.

وعلى هذا الأساس، فإن المعنى ليس محايثا للشيء ولا سابقا عليه، بل هو حصيلة لما تضيفه الممارسة الإنسانية إلى الوجود المادي الذي يميز الأشياء. فالعلامة، كما يقول إيكو، تولد كلما استعمل الإنسان شيئا محل شيء آخر، فالعلاقة بين الإنسان وعالمه ليست مباشرة، إنها محكومة بكم هائل من أشكال التوسط.

والدلالة، استنادا إلى ذلك كله، هي حصيلة العلاقات الممكنة بين الشيء الممثل وأداة التمثيل، وما يبرر كل الإحالات الممكنة الرابطة بين العناصر المكونة للسلوك السميائي هو هذه العلاقات بالذات. فالعلامة عند سوسير، كما هي عند بورس وكل السميائيين اللاحقين، حصيلة لعلاقة بين حدود تعود في أصلها إلى محاولة استيعاب المعطى التجريبي ونقله إلى عالم المفهمة التي يصوغ حدودها اللسان الطبيعي في المقام الأول.

” فلقد كانت اللغة أول أشكال الترميز الموضوعي التي ابتكرها الإنسان، واكتشف معها مقدرته الهائلة على استيعاب ما حوله من خلال تكوين المفاهيم، ثم موضعتها في الخارج عن طريق الكلمات، والاستناد إلى هذه الكلمات بعد ذلك من أجل خلق مستوى آخر من المفاهيم أعلى من سابقه وهكذا في سلسلة متصاعدة رافقت ارتقاءه وتقدمه “. ( 7)

وهذا التصور ليس جديدا، فقد ركز كل الذين اشتغلوا باللغة- كما سنوضح ذلك في الفصول الآتية- على هذه الروابط التوسطية، أي بين ما تعطيه الطبيعة ( أو البيولوجيا ) وبين الأشكال الثقافية المحددة للحياة الإنسانية.

ولقد كان أرسطو كالعادة سباقا إلى تحديد فحوى التوسط الإلزامي بين الحدود المكونة للعلامة. فقد لا حظ، وهو يتأمل الحالات المتنوعة للإبلاغ والدلالة، أن الحوار الإنساني يشترط وجود العناصر التالية : “الكلام” و”الأشياء” و”الأفكار”. فالأشياء ( العالم الخارجي) هي ما تراه حواسنا وما تدركه عقولنا، أما الأفكار ( المفاهيم) فهي أداتنا لمعرفة الأشياء، وأما الكلام ( العلامات اللفظية ) فهو الأصوات المتمفصلة في وحدات، وهي ما يخبر عن الأفكار، فبدون علامات لا يمكن تصور أي شيء.

وسيضيف أرسطو عنصرا رابعا اعتبر في مرحلة من مراحل تاريخ البشرية عنصرا حاسما في شكل الإبلاغ وأدواته، ويتعلق الأمر بالكتابة (8). وعلى الرغم من أن هذا العنصر مشتق من العنصرالثالث ( الكلام)، فإنه شكل تحولا كبيرا في حياة الناس. فلقد أدت الحاجة إلى إخبار الغائب عن الحواس إلى خلق حالة إبلاغ ” مؤجل” أدى إلى ظهور الكتابة، فانتشر تداول العلامات واتخذ أشكالا جديدة.

وهكذا فإن هذه العناصر الثلاثة ( أو الأربعة) لا يمكن أن تشتغل مجتمعة دون أن يكون هناك رابط يجعل منها كيانا قادرا على إنتاج دلالة تخص علاقتنا بالكون الذي يحيط بنا؛ فلا يمكن إدراك الأشياء خارج المفاهيم، كما لا يمكن صياغة مفهوم واحد خارج الحدود اللسانية، ولن تكون الأصوات وحدها دون الإحالة على مفاهيم سوى هواء بدون روح ولا معنى، وستظل المفاهيم جوفاء دون تصور معطيات تبنى استنادا إليها هذه المفاهيم. إن هذا الرابط هو ما نطلق عليه سيرورة التدليل ( السميوز) التي تجعل من هذه العناصر علامة مكتفية بذاتها.

وهذه القضايا هي ذاتها التي ناقشها الفكر اللغوي العربي بشكل مباشر أو غير مباشر. فوضع اللغة وطبيعتها وعلاقتها بعالم الأشياء كانت عند المشتغلين بهذا الميدان هي المدخل إلى فهم الدلالات وتصنيفها، بل يمكن القول إنها حددت مواقف لاهوتية متشعبة اتخذت من آدم وقصة تعلمه لأسماء الأشياء منطلقا لتأويلات متباينة يضيق المجال عن الإشارة إلى بعضها.

وهكذا فقد شاع عند اللغويين والأصوليين والفلاسفة وفقهاء اللغة العرب أن الأشياء لها وجود في العيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان (9). فالأول دال على المرجع، وهو ما يحدد الوجود الموضوعي للشيء، ويشير الثاني إلى المدلول، أي المفاهيم، أما الوجود الثالث فهو ما يحيل على الدال، وهو أداتنا الأولى في التعرف على العالم الموجود خارج الذات المدركة.

وسنؤجل الحديث عن طبيعة الوجود الأول، فليس مؤكدا أن وضعه يدخل ضمن تعريف العلامة، فالراجح أن التصنيف الدلالي يستند إلى المفاهيم لا الموضوعات الخارجية.

إن ما يجب التركيز عليه في هذا السياق هو هذا الترابط بين المظاهر التي يتخذها الشيء ويدرك وفقها، فهو الذي يشكل كنه السيرورة المنتجة للدلالة وتداولها. وهكذا لن يكون غريبا أن ينظر أغلب هؤلاء العلماء إلى العلامة باعتبارها سلسلة من الروابط لا كيانا أحاديا. والحاصل أن السيرورة الدلالية تستند إلى علاقات تجمع، في الغالب الأعم، بين عنصرين على الأقل، فهي ” كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول “. (10) أ

و هي “كون اللفظ بحيث متى أطلق فهم معناه للعلم بوضعه”، (11) والوضع ( أي التعاقد الاجتماعي) هو أساس التمثيل، وإليه تستند عملية المفهمة، ولهذا فإن الألفاظ عند أغلب هؤلاء” دالة على المعاني بتواطؤ لا بالطبع “، ( 12) ” فأكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف “. (13)

وعلى هذا الأساس، فإن ” معنى اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم، ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه “. (14)

وتوضح كل السياقات السابقة أن الألفاظ دالة على المعاني والأشياء لا دخل لها في تعريف العلامة، فالعالم الخارجي لا يتسرب إلى الذهن إلا باعتباره ما يستوجب النقل إلى اللسان. ومع ذلك، فإن استبعاده في تعريف العلامة لا يعني نفيا لوجوده، إن وجوده الوحيد داخل اللغة هو وجود مفهومي، فالمفاهيم ” تحل محله” بتعبير بورس.

وهكذا فإن الارتسام المشار إليه أعلاه يُنظر إليه، في المعرفة اللسانية الحديثة، باعتباره اشتقاقا لصورة من موضوع غير محدد، ويكون هذا الاشتقاق نتيجة سيرورة تقليصية تقصي العناصر الحشوية لتنتج قسما، والقسم ليس معطى خاما، بل هو بناء معقد يقوم به التسنين وتختزنه الذاكرة، ” فالعلامة اللسانية لا تربط بين اسم وشيء بل تربط بين صورة سمعية وتصور ذهني ” كما حدد ذلك سوسير بشكل قطعي.

وهذا ما تؤكده التجربة العادية ذاتها، ” فالإنسان يحتفظ من العوالم التي تأتيه عبر الحواس بمجموعة من العناصر يقوم بعد ذلك بتحويلها إلى مفاهيم من أجل غايات لسانية. فأن ” نرى” العالم معناه أن نحوله من مجرد كم مبتذل ( الكيانات المختلفة كالكائنات والأشياء ) إلى إبداعات تأويلية أكثر قوة ( السلوكات مثل الفعل والفكر ).

فإذا رأيت رجلا يقف على قارعة الطريق، فإني أدرك كيانين : الشخص والقارعة، فعملية التحديد في ذاتها تعد إبداعا تأويليا حتى وإن كان ضعيفا. وإذا حولت كل هذا إلى خطاب مثل ” إنه ينتظر الحافلة”، فإني أتصور بلورة ذهنية مرتبطة بكل العناصر التي تعد شرطا من شروط الإرسالية” .(15)

وهكذا فإن الوجود الوحيد الممكن للعالم، هو الوجود المفهومي الذي يحول الأشياء إلى كيانات رمزية تتجاوز دلالاتها على نفسها لكي تتحول إلى سند لأبعاد إيحائية ومخيالية ورمزية. فالعلامة هي أداتنا في تنظيم التجربة وإبلاغها.

III – وهذا ما يحيلنا على قضية من طبيعة أخرى، ويتعلق الأمر بالإدراك ذاته. فالتقاط العالم الخارجي وتحويله إلى كيانات تسكن الذهن على شكل مضامين لسانية ليس عملية بسيطة، فهو يشير إلى سلسلة من العمليات المنطقية غير المرئية من خلال التجربة العادية. ونكتفي هنا بالقول إن تنظيم التجربة الإدراكية عبرالعلامات، معناه بناء حقل إدراكي يقود إلى الفهم والتجريد ( إيكو).

وفي تصور بورس، فإن كل تَعَرُف على ما يوجد خارج الذات المدركة لا يمكن أن يكون سوى سيرورة افتراضية ( processus abductif) (16). فهذه السيرورة تربط بين الموضوع الماثل أمام العين المدركة وبين مجمل الخطاطات الثقافية السابقة.

فنحن نتعرف على ما يوجد خارجنا ونمنحه اسما وصفة استنادا إلى دروس الثقافة، فهي التي منحت هذا الموضوع موقعا مجردا داخل الذاكرة اللسانية وحددت وجوده من خلال خطاطة( أو خطاطات) نستند إليها من أجل التعرف على هوية الموضوع المخصوص. فلا يمكن للنسخة في ذاتها أن تكون سندا لواقعة إبلاغية إن هي لم تكن أحد التحققات الممكنة للنموذج ( ما أطلقنا عليه الخطاطة العامة ).

انطلاقا من هذا المعطى، فإن عمليات الإدراك لا تتعامل مع النسخة إلا باعتبارها السبيل الذي سيقود من جديد إلى إعادة بناء النموذج، وإذا غاب هذا النموذج غابت معه كل إمكانيات فهم العالم واستيعاب صوره المتعددة.

وهذا ما تؤكده التجربة الإدراكية العادية، فإذا صادف أن لاحظت ليلا > وأنا أسير في زقاق مظلم وجود شيء غامض وتساءلت : ما هذا ؟ ( وكان بإمكاني أيضا أن أقول “على ماذا يدل هذا الشيء” ؟ فالاستعمال اللساني يشير في هذا المقام إلى هواجس فلسفية ) سأركز حينها اهتمامي : أنسق بين المميزات، أحاول استحضار بعض الخطاطات التي توفرها لي التجارب السابقة ( أي أضع أمام النموذج الدلالي مجموعة من المميزات الغامضة )، وأشكل حقلا إدراكيا ممكنا. لقد فهمت الآن : إن الأمر يتعلق بقطة.

فلو كان الأمر يتعلق بحيوان غريب لم يسبق لي أن رأيته ( وتجهله الثقافة التي كبرت في أحضانها )، فإنني لن أتعرف عليه، قد أكون عنه انطباعات غير دقيقة، قد تتطابق مع تسمية خاطئة”.(17) إن الأمر يتعلق بالخروج من التنافر والتعدد والعودة إلي ما يشبه الوحدة المجردة للتجربة، “فعندما نحول المتعدد الحدسي ( المتنوع) إلى وحدة المفهوم، فإننا سننظر إلي المدركات كما علمتنا الثقافة أن نتحدث عنها ” .(18)

وفي هذه الحالة، فإن إدراك الشيء وتبين معالمه باعتباره كيانا مفصولا عن الذات المدركة يترادفان مع عملية التسمية. فالثابت أن التسمية ليست مجرد شيء يضاف إلى الهوية المادية الأصلية، بل هي ” سيرورة مركبة تسلك المسار التالي :

مرجع ( واقعي أو متخيل) ـــــــــــ مفهمة ( تمثيل) ـــــــــــــــــ انتقاء علامة ( تطابق نسبي)

فالعملية الأولى تستند إلى قدرة الذات المتكلمة على تمثل المرجع ( إدراك – مفهمة )، أما العملية الثانية فتكمن في البحث عن مستوى التطابق المنشود )” .(19)

وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن التسمية هي المدخل الرئيس إلى نقل العالم الخارجي من وضعه الأصلي داخل طبيعة غير محددة المعالم، إلى دائرة المفاهيم المجردة التي تمنحه موقعا داخل اللسان وداخل الذاكرة الإنسانية. فهذه الذاكرة هي وحدها التي ستقود إلى إنتاج السلوك السميائي وتقعيده. فاللغة هي التي تمدنا بكل ما نعرفه عن العالم الخارجي.

وهو ما يبيح لنا القول إن الذاكرة الإنسانية هي، في المقام الأول، ذاكرة لسانية، فالأشياء كل الأشياء تطمح إلى احتلال موقع داخل اللسان، وخارجه لن تكون هذه الأشياء سوى كم مادي بلا ذاكرة ولا مستقبل سرعان ما يبلعها النسيان.

وبعبارة أخرى، إن ” الواقعي هو القابل للتسمية. فالكلمات تلتصق بالأشياء، لتكشف عن جوهرها، وتعد الأشياء ضمانة على قوة الكلمات. وذاك هو الاستعمال الأفقي للكلام ” (20)، ” فبفضل اللغة خرج الإنسان من الهمجية ليروض الطبيعة ويخترع الثقافة والعلوم .”(21)

ولهذا يمكن القول إن العلامات هي أداتنا المثلى، بل أداتنا الوحيدة في تنظيم التجربة وتبين موقعنا داخل كون لا يرحم، فنحن لا نستعمل العلامات >كـ بدائل لوقائع لكي نتمكن من التحكم فيها فحسب، إنها تستعمل أيضا من أجل تحديد وجود هذه الوقائع ( ففي استعمالنا للعلامات نقوم في الآن نفسه ببنينة الكون، إننا نقدم هذا الكون باعتباره مكونا من ” فوق” و”تحت” ، “بارد” و”ساخن”، من “شر” و”خير”، من “رأس” و”بطن” .

إن هذه التمييزات هي بطبيعة الحال تمييزات اصطناعية، بالمفهوم الثقافي للكلمة، فالحار لا وجود له في ذاته بل هو كذلك في علاقته بسلمية ابتدعها الإنسان لكي يتلاءم مع محيطه، أما فيما يتعلق بالألم فكلنا يعلم كم هي نسبية هذه المقولة”.(22)

من هنا يمكن النظر إلى السلوك السميائي باعتباره حالة ثقافية تعد نقيضا لكل معطى، طبيعيا كان أم بيولوجيا. فالعين مثلا تبصر وستظل تبصر إلى ما لا نهاية، لكنها لن تنتج سلوكا رمزيا أي سميائيا، أما عندما تنتج حركة ويدركها الناس على أنها “غمز” ( والغمز هو الإشارة بالعين والحاجب والجفن كما جاء في لسان العرب)، فإنها ستنزاح عن الفعل البيولوجي لكي تدخل دائرة الثقافي المسنن اجتماعيا وحضاريا.

فلا علاقة للغمز بالفعل البيولوجي إلا من حيث السند المادي، والدلالة كما هو معروف لا تكترث للمادة الحاملة لها. لهذا فإن ما يجعل من هذه الحركة سلوكا سميائيا هو التسنين الثقافي الذي ينظر إليها باعتبارها فعلا رمزيا، أما العين فلا قيمة لها إلا من حيث كونها سندا لأفعال متنوعة أنتجتها الثقافة.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن أبدا أن نتصور حدودا للحياة خارج المضامين التي تحيل عليها اللغات الاجتماعية وعلى رأسها اللسان الطبيعي. فالكلمات، كما يقول إيكو، لا تعين شيئا في العالم الخارجي، إنها سند لمضامين ثقافية. فالعين لا تلتقط مرجعا معزولا، بل تحتفظ بنسخة ثقافية منه، وتلك النسخة هي المضمون الحقيقي للشيء لا مادة تكونه.

وهذا ما يحيل على تصور خاص للمرجع، فما ينتمي إلى العالم الخارجي، لا يحضر في التجربة الإنسانية من خلال أبعاده الملموسة، بل هو موجود من خلال إحالاته الثقافية. ولعل هذا ما دفع سوسير، كما سنرى ذلك لاحقا، إلى استبعاد الشيء (المرجع) من التعريف الذي يخص به العلامة، فالعلامة اللسانية عنده” لا تربط بين اسم وشيء، بل تربط بين صورة سمعية وتصور ذهني “.

وهذا معناه أن ما تحتفظ به الذاكرة اللسانية ليس مادة، بل بناء تجريدي لعالم ملموس، أي مفصلة تطال الموضوع في كل موكناته. فلا يمكن للذاكرة، المحدودة في الزمان وفي المكان، أن تلتقط الشيء في كامل أبعاده وكامل صوره وأشكال تجليه، فتلك مسألة تستعصي على الجهد الإدراكي الإنساني.

ولهذا كان احتمال وجود الشيء من خلال صورة عامة تلغي كل ما يخصص لكي تحتفظ بالعام والمشترك لتكوين القسم الذي ستغطيه التسمية هو الأمر الوارد في تعريف العلامة وفي تصور اشتغالها. فالمرجع، على هذا الأساس، لا يحضر في الذهن إلا من خلال صورة مجردة تحيل على القسم لا على النسخة المخصوصة.

فرغم أننا نبصر القط الفعلي الموجود أمام العين فعليا في “الآن” و”هنا”، فإن ما يتسرب إلى الذهن هو صورة عن هذا القط وليس القط الفعلي.

إن بورس نفسه لم يكن يتصور الموضوع ( العنصر الثاني داخل العلامة ) باعتباره إحالة على شيء مادي مكتف بذاته. فالبناء الثلاثي للعلامة، كما سنرى ذلك في الفصل الثاني، هو جدلية خاصة بميكانيزمات الإدراك قبل أن تكون رابطا بسيطا بين عناصر علامة.

فالأول والثاني والثالث هي لحظات مخصوصة تقود الذات إلى الخروج من قمقمها لتعقل ما يوجد خارجها ضمن سيرورة تنطلق من الأحاسيس والنوعيات التي ستتجسد لاحقا في الموجودات ( الواقعة الفعلية) استنادا إلى قانون يحول التجربة الصافية إلى نموذج قابل للإدراك استقبالا. وعلى هذا الأساس فإن الموضوع عند بورس ليس شيئا بل علامة، أي بناء ثقافيا. ولهذا يجب أن ننظر إلى الموضوع باعتباره عنصرا داخل السيرورة التدليلية ( داخل السيموز) لا مجرد شيء معزول ومكتف بذاته.

إن وجود الموضوع داخل السميوز لا خارجها هو الذي دفع بالكثيرين إلى التشكيك في مقولة ” الواقع” ذاته، فالواقع ليس معطى خارج السميوز، ولايشكل وجودا خاما مكتفبا بذاته يمتلك القدرة على التدليل خارج العلامات وفي انفصال عنها. ” فالظواهر الطبيعية في ذاتها لا تقول أي شيء، إنها لا تحدثنا إلا إذا كانت هناك تقاليد علمتنا كيف نقرأ هذه الظواهر.

وعلى هذا الأساس، فإننا سنعيش وسط عالم من العلامات، لا لأننا نحيا وسط الطبيعة، بل لأننا نحيا وسط مجتمع حتى ونحن نمارس حياتنا منعزلين عن الآخرين : فما كان للمجتمع بجميع مظاهره، أن تقوم له قائمة لو لم يبلور أسننه الخاصة في تأويل المعطيات الطبيعية (التي ستتحول حينها إلى معطيات ثقافية)”. (23)

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الواقع هو بناء ثقافي نسبي القيمة والوجود والإدراك. وهذا ما دفع الكثيرين إلى إعادة النظر في مفاهيم سادت لفترة طويلة من قبيل ” الواقعية” و” الصدق” و” الانعكاس” و” الحقيقة”. فهذه المفاهيم لم تعد لها قيمة تذكر في فهم الوقائع والكشف عن مخزونها الدلالي، لأنها تفترض أن الوقائع توجد من خلال ماديتها، في حين أن الوجود الوحيد لتلك الوقائع هو اندراجها ضمن سيرورات السميوز التي لا تنتهي، والسميوز إنتاج ثقافي للدلالات لا تعيينا لها.

IV – ألا يمكن القول إذن، استنادا إلى هذا التصور، إن السميائيات هي في المقام الأول سيرورة لتحويل العالم من الحالة السديمية والأحادية وانعدام الشكل إلى ما يحدد الأشكال المختلفة للإدراك ؟ وبعبارة أخرى، ألا يمكن أن تكون السميائيات، في نهاية التحليل، شكلنة للعالم ؟ إن كل التصورات باختلاف منطلقاتها تتفق على هذا التحديد.

فالشكلنة، في البدء وفي النهاية، هي تحويل المتصل واللاعضوي واللامتمفصل والعديم الشكل إلى موضوعات ثقافية تستدعي النظر إليها باعتبارها عصارة الفعل الإنساني وآثاره فيما يحيط بنا. فالعبارات التي نصادفها مرارا في أدبيات السميائيات الحديثة من قبيل ” إعطاء معنى ” أو ” توليد معنى ” أو ” إنتاج الدلالات وتداولها” تشير إلى جوهر السيرورة السميائية وأشكال تجلياتها.

فالمتصل (continuum) مادة عمياء بكماء لا تدل، ولا تحيل على أي شيء سوى ذاتها، ووحدها المفصلة ( إحداث شروخ في المتصل) تقود إلى إنتاج الوحدات الدلالية، أي ما يخبر عن المادة ويجعلها قابلة للإبلاغ.

وبناء عليه، فإن السيرورة الدلالية التي تقود إلى الكشف عن المعاني وأنماط وجودها من خلال مواد تعبيرية متنوعة هي ما يشكل الموضوع الفعلي والحقيقي للسميائيات. فكلمة “شجرة ” لا تدل لأن هناك طاقة معنوية حدسية مودعة بشكل قبلي في الكلمة أو في الشيء الذي تحيل عليه، إن هذه الكلمة قادرة على إنتاج معانيها من خلال سلسلة من العمليات التي لاتدركها العين المحسوسة، وهذه العمليات هي ما يشكل كل سيرورة دلالية : فـ / الشجرة/ هي مجموعة من الأصوات المنظمة وفق بناء عرفي، وهذه الأصوات تحيل بدورها على صورة ذهنية أو مفهوم خاص بالشجرة، ويعد هذا المفهوم ثالثا سيرورة تقليصية تهم العناصر المحددة لهوية الشيء في العالم الخارجي.

ذلك أن الشجرة لا تدل على كيان مخصوص : هذه الشجرة في هذا المكان وهذا الزمان بالذات وليس غيرهما، بل تدل على نموذج عام يحتوي كل النسخ الممكنة، وهذا ما يجعل من إمكانية التواصل أمرا ممكنا. وهو ما أشرنا إليه حين تحدثنا عن العلاقة بين النسخة والنموذج.

إن هذا الترابط الجدلي بين أداة التمثيل والموضوع الذي يحضر في العلامة من خلاله وجهه المفهومي يستمد قوته من طبيعته الاعتباطية. وتعد الاعتباطية في سياقنا هذا، قانونا قبل أن تكون فوضى أو تسيبا، فالذات المتكلمة ليست حرة في اختيارها للدوال من أجل التمثيل لعالم خارجي لا يمكن أن يعقل إلا من خلال العلامات ( سنعود إلى هذا المبدأ عند حديثنا عن سميولوجيا سوسير).

ومن زاوية نظرسميائية، بإمكاننا استبدال مفهوم ” الاعتباطية” بمفهوم آخر هو ” التسنين الثقافي”. فمادام كل ما يأتي من الثقافة معرضا للاندثار والتلاشي وسيطويه النسيان لا محالة، فإن المضامين التي تنتجها الثقافة هي مضامين عرضية لأنها وليدة توافق لا حصيلة لمعرفة محايثة مصدرها عالم آخر غير عالمنا.

وهذه السيرورة ليست خاصة بالكلمات فقط، فاشتغال الإيماءات والطقوس وموضوعات العالم الخارجي يخضع لنفس السيرورة ويتبع نفس القواعد. فهذه الكيانات لا تدل من تلقاء نفسها لأنها تختزن داخلها معاني مسبقة وموجودة بشكل سابق على ظهور السلوك الإنساني المتمفصل في وحدات دالة، إنها دالة في حدود وجود ثقافة تسند مجمل دلالاتها التقريرية والإيحائية على حد سواء.

وبعبارة أخرى إنها دالة في حدود قدرتنا على استحضار الحقل الثقافي الذي نستند إليه من أجل الحكم على الظواهر أو تأويل الوقائع أو فهم القيم وإدراكها.

إن انزياح الأشياء والإيماءات عن وضعها الأصلي ( المادي ) ومعانقتها لعالم لا ينتهي من الدلالات مثال على هذه السيرورة وتحديد لاشتغالها. فما يصدر عن اليد والرأس والحاجب والمنكبين والأرجل، وما يقوله الجسد وهو يتهادى مزهوا بمفاتنه، لا يعود إلى “نوعية اللحم” الذي يشكل مادة لهذه السلوكات، بل الأمر مرتبط بالتسنينات الثقافية المسبقة التي تجعل من الجسد لغة لا تقل تعبيرية عن وحدات اللسان الطبيعي.

صحيح أن” الإيمائية قد يكون لها عمق كوني، فالأمر يتعلق بتحريك الإنسان لأعضائه ضمن الأبعاد الثلاثة للفضاء من أجل الإحالة على عواطف وأوامر وسيرورات وأفكار، وصحيح أيضا أن الجسد هو ذاته في كل مكان ويخضع باستمرار لنفس الإكراهات الفيزيقية، إلا أن الأطراف المتحركة داخل هذا الجسد والإيماءات المتولدة عنها وكذا سجل الدلالات التي تستنبط منها ليست كونية، وتختلف من مجتمع إلى آخر.

فخلافا لما نعتقده أحيانا، سيكون من الصعب على ياباني أن يفهم السجل الإيمائي الصادر عن جسد فرنسي.” (24)

وفي هذه الحالة أيضا يحق لنا أن نتحدث عن السلوك السميائي المتمفصل في حركة سميوزية لها قواعدها ومنطقها. فكل ملفوظ إيمائي ( والملفوظ سلسلة من الإيماءات المنتظمة داخل نسق خاص ومنتج لدلالة خاصة ) ينتج معانيه الخاصة به، وأي تغيير يلحق بهذا النظام سيقود إلى تغيير في معاني الملفوظ.

ولهذا السبب نظر الكثيرون إلى الدلالة باعتبارها وحدات ثقافية منتظمة وفق تقابلات لا يمكن أن تدرك إلا من خلال استحضار سياق بعينه. فـ” المعنى لا يمكن أن يصبح مرئيا إلا في علاقته بالنسق المولد له”. (25)

إن ارتكاز التدليل على شبكة مركبة من العلامات معناه أن ما يحدد هويته ليس مادة أصلية مكتفية بذاتها، وليس عناصر معزولة عن بعضها البعض، بل مفهوم العلاقة ذاته. فالدال يحيل على المدلول وفق علاقة عرفية ( اعتباطية )، وتقوم هذه العلاقة، من خلال اعتباطيتها تلك، بإنتاج المعاني وتداولها وفق قواعد خاصة. فالوظيفة الأصلية للعلامة هي وظيفة اختلافية، إنها نتاج علاقة وليست حصيلة لمادة دالة بذاتها.

إلا أن العلامة ذاتها في انفصال عن وحدات أكبر لا يمكن أن تكون منطلقا لدراسة أي شيء. ولهذا السبب ” لا يمكن أبدا أن يكون هناك تواصل استنادا إلى علامات معزولة، وحتى في الحالة التي نستعمل فيها علامة معزولة- كلمة، إشارة طرقية، إيماءة يدوية – فإننا نستند إلى سياق ( …).

إن العلامات تنتظم داخل أكوان السميوز في ملفوظات وإثباتات وأوامر وتساؤلات. وتنتظم الملفوظات في نصوص أي في خطاب. ويمكن التأكيد حينها أن لا وجود لسميائيات للعلامة دون سميائيات للخطاب. إن نظرية للعلامة كوحدة معزولة ستكون عاجزة على شرح الاستعمال الجمالي للعلامات، ولهذا فإن سميائيات للفن يجب أن تكون بالضرورة سميائيات للخطاب والنص” (26). والسياق في هذه الحالة، وفي جميع الحالات أيضا، هو إشارة إلى مفهوم العلاقة ذاته.

ولقد أشرنا أعلاه إلى أن مفهوم الدلالة ذاته لا يمكن أن يتأسس باعتباره الإوالية التي تمنح للسلوك الإنساني معنى إلا استنادا إلى وجود رابط، أي وجود علاقة تجعل من الغياب فعلا للحضور. فالنفي ليس إلغاء لشيء آخر، بل هو تأكيد لحضور شيء ما ليس باديا من خلال الطرف المتحقق، فالانطلاق من الخير لإثبات الشر ليس نفيا للخير بقدر ما هو تأكيد لوجود شبكة علائقية يستند إليها الخطاب من أجل تنويع سياقاته، أي إنتاج مضامينه المتعددة.

وعلى هذا الأساس يجب النظر إلى التدليل باعتباره شبكة كبيرة من العلاقات، وتشكل هذه الشبكة، في ذات الوقت، سلسلة من الإكراهات المفروضة على المعنى، فهي ما يحدد شكل وجوده وطرق انتشاره وربما نمط استهلاكه أيضا، وكل محاولة لتحديد حجم المعنى وسمكه يجب أن تمر بالضرورة عبر إعادة بناء هذه الشبكة العلائقية (وكل قراءة هي في واقع الأمر محاولة لإعادة بناء النص من خلال إعادة بناء قصديته)، وفق سياقات ليست مرئية من خلال التجلي المباشر للنص.

من هنا فإن المعنى، باعتباره شبكة علائقية، يعد الأساس الذي ينبني عليه ” نسق العلامات”، ولن تكون السميوز، تبعا لذلك، سوى معنى منتشر يُفترض في الإجراء التحليلي أن يقوم بإعادة بناء منطقه الداخلي ( لنتصور حالة نص يتطور في اتجاهات متعددة ويقدم مع ذلك إمكانية وصفه وتحديد تخومه (.

وتلك هي خاتمة رحلتنا مع موضوع السميائيات ومضمونها. إن السميائيات ليست علما للعلامات، إنها دراسة للتمفصلات الممكنة للمعنى. فالسميوز لا يمكن أن تكون تدبيرا لشأن خاصة بعلامة مفردة، ولا علما لعلامات معزولة. إن السميائيات هي طريقة في رصد المعنى وتحديد بؤره ومظانه، إنها أيضا طريقة في الكشف عن حالات تمنعه ودلاله وغنجه.

ولهذا فالسميوز ليست تعيينا لشيء سابق في الوجود ولا رصدا لمعنى واحد ووحيد، إنها على العكس من ذلك إنتاج، والإنتاج معناه الخروج من الدائرة الضيقة للوصف ” الموضوعي” إلى ما يحيل على التأويل باعتباره سلسلة من الإحالات المتتالية الخالقة لسياقاتها الخاصة.

إن السميوز مطاردة للمعنى لا ترحم، فبقدر ما يتمنع المعنى ويتدلل ويزداد غنجه، بقدر ما تتشعب مسارات السميوز وتتعقد شبكتها وتكبر لذتها ويكبر حجم التأويل ويزداد كثافة وتماسكا ويؤدي إلى” انزلاقات دلالية لا حصر لها ولا عد ” بتعبير أمبيرتو إيكو. وعلى العكس من ذلك، فإن الفائض في المعنى يحول السميوز إلى لعبة قواعدها معروفة منذ البداية، ففي هذه الحالة يكون المعنى واجهة مفتوحة بلا خبايا ولا أسرار. وهذا ما يشكل صلب القضايا الخاصة بالدلالة وسبل الكشف عنها.

فمن جهة لا يمكن الحديث عن الدلالة إلا من خلال علاقة هي ذاتها بؤرة لسيرورة لا معطى مكتف بذاته، ولا يمكن للدلالة، من جهة ثانية أن تقف عند حدود التعيين المباشر للمراجع المادية ( ما يشير إلى البعد النفعي في التجربة الإنسانية). فالتوسط بين الإنسان وعالمه حالة مسلم بها، ولا يمكن للإنسان أن يعي ذاته ومحيطه خارج الأشكال الرمزية التي تصوغ مجمل حالات إدراكه ( وهي أدوات التوسط المشار إليها في الفقرات السابقة).

إلا أن وقوف العلامة عند حدود ما يعين ويصف أمر مناف لطبيعة المعنى ومناف لطبيعة الحياة ذاتها. فالرغبة في خلق ” محميات دلالية” نهرع إليها كلما حاصرتنا الحياة بإكراهاتها النفعية أمر طبيعي، بل ضروري ضرورة الفن ذاته. لذلك كانت العلامة أيضا مهدا لدلالات من طبيعة خاصة نطلق عليها الدلالات الإيحائية أو المعاني الثانية.

وليس غريبا أن تتطور، انطلاقا من مقترحات بورس مثلا، مجموعة من التصورات التي جعلت من السميائيات في المقام الأول نظرية في التأويل ( انظر كتابات أومبيرتو إيكو الأخيرة ). بل إن هناك من نظر إلى هذه السميائيات باعتبارها اللبنة الأولى التي استندت إلىها التفكيكية في بناء تصورها للدلالة. فأن تكون السميوز حركة لا متناهية من الإحالات فهذا معناه أن العلامة بمجرد ما تتخلص من قصدية محفل التلفظ، فإنها تنشر خيوطها في كل الاتجاهات، وحينها تكون كل السياقات محتملة، وتكون كل الدلالات ممكنة.

ولقد أبدى دريدا إعجابا كبيرا بفكرة الإحالات التي لا تنتهي عند حد كما تصور ذلك بورس. فبورس في تصور دريدا” ذهب بعيدا في الاتجاه الذي يطلق عليه تفكيكية المدلول المتعالي. فهذا المدلول سيقوم، في لحظة ما، بوضع حد نهائي للإحالة من علامة إلى أخرى.

إن الأمر يتعلق هنا بشيء مثل التمركز الذاتي وميتافيزيقا الحضور المجسدة في الرغبة القوية والنسقية التي لا يمكن كبح جماحها. والحال أن بورس كان يعتبر لامحدودية الإحالة معيارا يدلنا على وجود نسق من العلامات. فما يطلق العنان للدلالة هو نفسه ما يجعل توقفها أمرا مستحيلا. فالشيء ذاته علامة”.(27)

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه النبرة المتحمسة لفعل تدليلي لا يتوقف عند حد بعينه مصدرها تصور آخر، ولاعلاقة لها بالسميائيات، فهي مبدأ بشرت به التفكيكية ودعت إلى تطبيقه في تحليل الوقائع الإنسانية. وعلى هذا الأساس، فإن ما تدعو إليه السميائيات شيء مخالف لهذا التصور . فعلى عكس التفكيكية التي لا ترى أية جدوى من التوقف عند مدلول بعينه، فإن السميائيات تعتقد أن كل عملية تأويل تأتي بمعلومة جديدة تغني المعرفة التي تختزنها العلامة في تحققها البدئي.

وبعبارة أخرى، إنها تحيل على اختيار يقود إلى خلق سلسلة من المسارات الداخلية التي تقيم روابط فعلية أو ضمنية بين ما هو متحقق وبين ما يحال عليه من خلال السيرورات التأويلية المتنوعة. فالسميوز بطبيعتها اللامتناهية تقود المؤول إلى ترجمة علامة في علامة أخرى ضمن سيرورة تلغي من حسابها مقولة المرجع كحد مادي، لكي تستحضر نص الثقافة الذي يعد العنصر الوحيد الذي يمكننا من إرساء نقطة نهائية ضمن تدفق دلالي لا ينتهي نظريا عند حد بعينه.

ولقد كانت مقولة المؤول، كما تصورها بورس وحدد حقولها واشتغالها، مقولة هامة في تحديد ديناميكية التأويل وحركية السيرورة التدليلية. ففي كل عملية إحالة نكون في واقع الأمر ندشن لبدايات سيرورة تأويلية جديدة، فالعلامة هي مستودع لعدد هائل من الوحدات الثقافية القابلة للتحقق ضمن سياقات متنوعة، لا إحالات سرطانية تنفي الروابط بين المنطلق ونهاية الرحلة.

لقد حاولنا في هذه الصفحات أن نعرض لمجموعة من العناصر الخاصة بالهوية النظرية والتطبيقية للسميائيات، فعلنا ذلك أولا من خلال الإحالة على أصولها الفلسفية والتاريخية، وفعلنا ذلك ثانيا من خلال تحديد موضوع السميائيات وطريقتها في رصد الوقائع وبنينتها، وفعلنا ذلك ثالثا من خلال تحديد بعض الإمكانات التي تمدنا بها السيمائيات من أجل تحديد أفق تصور تأويلي خاص.

ولقد كانت خلاصتنا في هذا المجال أن السميائيات هي نظرية خاصة بالمعني وليست مجرد رصد لعلامات معزولة. ولهذا فإن السيمائيات يجب أن تقودنا في كل عملية تحليل إلى إنتاج معرفة، لا مجرد الوقوف عند تحديد مكونات الواقعة المدروسة ورصد تنويعاتها الممكنة.


  • هوامش

1- Umberto Eco : Sémiotique et philosophie du langage, éd P U F , 1988, p 10

2- انظر على الخصوص : A J Greimas : Sémantique structurale, éd Larouse , 1966

Du sens , éd Seuil , 1970

3- C S Peirce : Ecrits sur le signe, éd Seuil, 1978, p 120

4- Umberto Eco : Kant et l’ornithorinque, éd Grasset 1997, p 70

5- Umberto Eco : Le Signe, éd Labor, 1984, p 151

6- Umberto Eco : Sémiotique et philosophie du langage, éd P U F , 1988, p 10

7- فراس السواح : ” المعنى والأسطورة “، دارعلاء الدين ، دمشق 1996، ص 20

8 – ابن رشد : تلخيص كتاب العبارة، لأرسطو ، حققه الدكتور محمود قاسم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1981 ص 57

9-انظر على سبيل المثال : الغزالي : معيار العلم في المنطق، شرحه أحمد شمس الدين دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1990، ص 47

10 – الجرجاني ( علي بن محمد بن علي ) : كتاب التعريفات، تحقيق ابراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، ، 1992، ص 139

11- خضر بن علي الرازي ، شرح الغرة، ص 29 ، ذكره محمد غاليم : المعنى والتوافق ، مبادئ في تأصيل البحث الدلالي العربي ، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط ، 1999، ص27

12- ابن رشد : تلخيص كتاب العبارة، لأرسطو، ص 57

13 – ابن جني . الخصائص ، ذار الكتاب العربي، الجزء الأول، ص 40

14- ابن سينا : الشفاء، المنطق ، 3 – العبارة، دارالكاتب العربي للطباعة والنشر، تحقيق محمود الخضري ص 4 .

15- Bernard Pottier: Théorie et analyse en linguistique 1992, p . 10

16- Abduction ( الافتراض )، يميز بورس بين القياس والاستنباط والافتراض، و”الافتراض”- في الجهاز المفهومي الذي يقترحه بورس – لا ينتج معرفة مع كل مستلزماتها الدلالية، > إنه منهجية للخروج بتكهن عام دون وجود ضمانة موضوعية على أنه سيصدق على حالة خاصة أو حالة اعتيادية. إن ما يبرر هذا التكهن هو أنه يشكل الأمل الوحيد في تنظيم سلوكنا المستقبلي تنظيما عقلانيا < . إن مهمته هي أن يقوم فقط بقياس حالة غير معروفة على ما تعرفه الذات المؤولة بشكل سابق. فـ > السيرورة الافتراضية تقتضي التعامل مع التجربة التي أواجهها انطلاقا من معرفة سابقة، ويتعلق الأمر بالتطبيق الميكانيكي لحالة خاصة على مقولة سابقة ” p188 Peirce : Ecrits sur le Signe, .

17- Umberto Eco : Le signe, p 176

18- Umberto Eco : Kant et l’ornithorinque, p 70

19- , p. 47 Bernard Pottier: Théorie et analyse en linguistique

20- A kibédi Varga : Discours , Récit , Image, éd Pierre Mardaga , 1989 , p 9

21 – نفسه ص 9

22 – Jean -Marie Klinkenberg : Précis de sémiotique générale ,éd De Boeck Université, 1996, p. 38

23 -Umberto Eco : Le signe, p 17

24- Jean -Marie Klinkenberg : Précis de sémiotique générale, op cit , p 31

25- Eliseo Veron : Sémiosis de l’idéologie et du pouvoir , in Communications 28 , 1978 , p 12

26 – Umberto Eco : Le signe, p.25

27- J . Derrida : de la grammatologie , les éditions de Minuit , 1967 , p . 71

سعيد بنكراد

د- سعيد بنكَراد؛ أكاديمي ومترجم مغربي، أستاذ السيميائيات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس. الرباط - المغرب. يُعدُّ من أهم المتخصصين في السيميائيات في العالَم العربي. المدير المسؤول لمجلة "علامات" المتخصصة في الدارسات السيميائية، نَشر عشرات المؤلفات، منها: "وهج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية" (2013)، و"النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا" (1996). وعدد من الترجمات، منها: "رسالة في التسامح" لفولتير (2015)،و"دروس في الأخلاق" لأمبيرتو إيكو (2010)، و"تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لميشيل فوكو ( 2005).

تعليق واحد

  1. تحيةتقدير واحترام واعجاب لا ستاذنا أ.د سعيد بنجراد المؤلف والكاتب والمبدع شغوف بمتابعة كل ما تكتبة عن السيميائيات فانا شغوف بهذا المجال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى