التعلم عن قرب: التفاعل المجتمعي في تعليمنا وتعلّمنا

يزداد الحديث اليوم، بخاصّة في ظلّ الجائحة، عن تطوّر التعليم وتحوّله وارتباطه بفضاءات عدّة، أهمّها الفضاء الافتراضيّ والحداثة والتطوّر الإلكترونيّ والتكنولوجيّ. فمَن مِنّا لم ينخرط بشكل أو صفة ما بالتعلّم عن بعد من خلال المساحات الافتراضيّة في العام 2020،

وكم من الأحاديث دارت حول أهمّيّة التعلّم عن بعد وربط عمليّة التعليم بأشخاص وأنظمة ومنصّات خارج حدود المؤسّسات التعليميّة، لا بل وخارج حدود الدول الجغرافيّة. وعلى أهمّيّة هذه التجربة والأبواب المتعدّدة التي فتحتها وما زالت تفتحها، إلّا أنّها لا تحتّم علينا التأمّل بالتعلّم عن بعد فحسب، بل أيضًا بالتعلّم عن قرب.


يتطرّق هذا المقال إلى التأمّل في عمليّة التعلّم وقربها من السياق والمجتمع المحلّيّ، وإلى التفكّر في أهمّيّة ارتباط التعليم والتعلّم بالتجربة والسياق والمجتمعات بوصفها مساحات وعناصر أساسيّة لتعلّم تفاعليّ وحقيقيّ.


استوقفتنا جائحة كورونا جميعًا، أمّهات وآباء، معلّمات ومعلّمين، طالبات وطلّابًا، لنعيد النظر بمفاهيمنا عن التعليم والتعلّم، وقدّمت لنا الجائحة فرصة ثمينة لم نحلم بها يومًا: ألا وهي الفرصة لنتوقّف عن المضيّ بالمقرّرات والخطط التعليميّة المبرمجة لنتأمّل بعمليّة التعليم والتعلّم، ونعيد النظر بما نعتقد/اعتقدنا أنّها مسلّمات لا يمكن تجاوزها/تغييرها في مؤسّساتنا التعليميّة. ومن بين تلك الأسئلة المهمّة التي طرحناها في تأمّلنا:


اعتدنا أن نفكّر بالتعليم خطّيًّا Linear، فيندرج تعلّم طلبتنا في سياق محدّد من السنوات الدراسيّة، وضمن مجموعة من الموادّ المقرَّرة. كما يُعدّ مجموع تحصيل الطلبة في هذه الموادّ بمثابة تذكرة الدخول إلى الجامعة وأساس صقل اهتمامات وتطلّعات الطلبة للدراسات العليا وسوق العمل. ولكن، كم من الطلبة الذين تخرّجوا في تخصّصات متعدّدة على اعتبار أنّها حلمهم للمستقبل وجدوا أنفسهم يتأرجحون بين متطلّبات وظيفة لا يستمتعون بها وبين البحث عمّا يسعى إليه القلب والروح وليس العقل فقط؟


وبينما نتأمّل في عمل هذه المؤسّسات والأنظمة، نلتفت إلى قول جلال الدين الروميّ: “إنّ قلبي كالفرجار، رجل ثابتة في الأرض… والأخرى تدور…” (ومع أنّ الروميّ كان يشير إلى الشريعة والأديان، أمّا نحن فنشير إلى السياق العالميّ والسياق المحلّيّ)، فنجد اليوم أنّ العديد من أنظمتنا التعليميّة (في العالم عمومًا والعالم العربيّ خصوصًا) تركّز على الانفتاح على العالميّة واستكشاف العولمة والحداثة (ما يجعلها جذّابة محليًّا وعالميًّا)،

الأمر الذي لا شكّ في أنّه مهمّ وجوهريّ في عالمنا اليوم، وهو بمنزلة الرجْل التي تدور في مقولة الروميّ، لكن ماذا عن الرجْل الثابتة في الأرض؟ وأهمّيّة أن يكون تعليمنا متجذّرًا في المكان، وذا علاقة وثيقة مع الآخر في سياق حضاراتنا وتراثنا وتاريخنا وأرضنا، وضمن نهج تفاعليّ وحيّ؟ فما لم تكن هذه الرجل ثابتة وراسخة وواثقة في الأرض، ستبقى الأخرى تدور تبحث عن أرض، وعن معنى وعن هويّة. 


تدعونا هذه الأسئلة إلى الالتفات إلى مكوّن التفاعل المجتمعيّ أو الخدمة الاجتماعيّة في تعليمنا وتعلّمنا ومؤسّساتنا التعليميّة، فغالبًا ما شكّلت الخدمة الاجتماعيّة والعمل مع المجتمع جانبًا رئيسًا من برامج التعليم (بخاصّة الحديثة)، والتي تتطلّع إلى صقل شخصيّة الطالب بشكل تكامليّ بدلاً من التركيز على الجانب الأكاديميّ فقط.

إذ من المهمّ “أن نرى المدرسة بوصفها واقعة ضمن مجتمع متكوّن من مركّبات تعلّم عدّة: مؤسّسات مجتمعيّة، ومزارعين وأهل، فتغدو المدرسة مكانًا للتأمّل والتفكير في مختلف تجارب المجتمع، وتاليًا مكانًا لإنتاج معرفة، فرديًّا وجماعيًّا، معرفة تنتج من خلال فهم التجارب وربطها بالحياة” (حليلة، 2021، جلسة نقاشيّة حول التفاعل المجتمعيّ وارتباطه بالتعليم | منهجيات – نحو تعليم معاصر )


فيما نتفكّر بما جنيناه من التعلّم عن بعد، لماذا لا نتأمّل ماذا يعني لنا التعلّم عن قرب؟ وكيف من الممكن أن يكون هذا المكوّن في مؤسّساتنا التعليميّة للتحرّر من حدود المنهاج والمقرّرات الرسميّة، فيصبح بذلك مساحة تستطيع من خلالها الطالبة/الطالب طرح الأسئلة واكتساب مهارات تحوّليّة وعلاقات متينة متجذّرة في سياق ومجتمع وتاريخ.

نسلّط الضوء اليوم على أهمّيّة تطوّر التعليم وتحوّله، لارتباطه بالأرض والسياق والآخر (من دون أن نلغي أهمّيّة التطوّر الإلكترونيّ والمعلوماتيّ)، على اعتبار أنّ التفاعل المجتمعيّ هو جزء جوهريّ وأساسيّ من عمليّة التعلّم وليس برنامجًا تكميليًّا/إضافيًّا.


فلنتأمّل في بعض الأمثلة التي تجسّد هذا الفكر، والتي ليست بالضرورة مشاريع ثوريّة في التطبيق إلّا أنّها فتحات وشقوق في جدران المؤسّسات التعليميّة، نابعة من مبدأ أنّ التعلّم يحدث من خلال مصادر متعدّدة ومتنوّعة للمعرفة ووسائل مختلفة للوصول إليها:

فلماذا لا يتجوّل الطلبة، مثلًا، في أحياء مدن الدولة التي يعيشون فيها ليتعلّموا من خلال التجوال وقصص الأهالي عن تاريخ المنطقة وإرثها ويستمعوا إلى تجارب مجتمع هذه الأحياء والقرى بوصفه جزءًا من تعلّمهم لمادّة التاريخ؟

وكم من دولة في منطقتنا العربيّة تستضيف مجتمعات لاجئة من الدول المحيطة بها، فبدلاً من أن نحصر علاقتنا بهذه المجتمعات بالتبرّعات الماديّة والعينيّة (على اعتبار أنّها مجتمعات ذات حاجة)، فلماذا لا يتحاور طلبتنا مع أقرانهم من اللاجئين ليتعلّموا عن حضارتهم وتاريخهم وقصص لجوئهم (على اعتبار أنّها مجتمعات غنيّة)، فيتعاونوا نتيجة لهذه الحوارات على مشاريع و/أو قضايا مشتركة تهمّهم كأهالٍ وجيران.


ولماذا لا يتعلّم طلبتنا (خصوصًا الطلّاب في المراحل التعليميّة الأساسيّة) عن النبات والنموّ وأهمّيّة الطبيعة وعلاقتها بأجسادنا وأرواحنا وعافيتنا من خلال حديقة أو زاوية في مباني مدارسنا، يزرعونها ويعتنون بها ويروون القصص المرتبطة بها؟ فيكون لمفاهيم الاهتمام والتعاطف والرحمة والتعاضد معنىً ينبع من تجربة شخصيّة (فرديّة وجماعيّة)، بدلاً من أن تكون مفاهيم مجرّدة في وحدات دراسيّة ومقرّرات فقط.


 في كلّ هذه الأمثلة والتجارب، من المهمّ أن نتذكّر أنّ:    


من المهمّ ألّا ننزلق في تأمّلنا وتفكيرنا في التفاعل المجتمعيّ بإطار ساعات ومتطلّبات ونمطيّة في العمل، ليصبح بذلك مكوّنًا آخر من عمليّة تعليم وتعلّم محدودة، عوضًا من أن يكون مساحة تحرّر وتفكّر وتفاعل حقيقيّ.

ولنفكّر اليوم بما يفصلنا عن التفاعل المجتمعيّ والتعلّم التفاعليّ والارتباط بالمجتمع والأرض والسياق، ولنطلق العنان لمخيّلتنا وإبداعنا لنفتح من خلالها شقوقًا في أنظمتنا التعليميّة نستطيع من خلالها إعادة التفكير في جوهر التعليم والتعلّم وارتباطه بمحيطنا وسياقنا وثقافتنا ومجتمعاتنا، ولنسأل أنفسنا:

عمليّة التأمّل والتغيير نحو التفاعل المجتمعيّ وتعزيزه في تعليمنا وتعلّمنا تنطوي على مجموعة من الخيوط الرفيعة التي ننسجها أفرادًا ومجموعات ومؤسّسات في خبرات ومساحات ومنصّات متعدّدة في الصفوف عينها، وفي الموادّ التي نتعلّمها، فتصبح بمجموعها بمثابة جسر يربط ما بين مدارسنا ومجتمعاتنا، وبساط يحملنا لنتجوّل في إرثنا وتاريخنا وقصصنا وعلاقاتنا مع المكان والسياق والأرض والآخر.


موقع منهجيات

Exit mobile version