العملاق النهضوي الأَخير

The Last Nahdawi

كان عملاقا حين تحدى الإعاقة، وحين التحق بالأزهر، حينما ثار على الأزهر، عملاقا في حُبهِ للغة العربية وآدابها، فصار عميدا لها. كان عملاقا حين التحق بالجامعة المصرية الوليدة، فصار أول من يحصل على الدكتوراه من أبنائها.

قَبِلَ التحدي بقبوله منحة من فرنسا؛ حيث حصل منها على شهادة الدكتوراه، وأصبح ناقلا وناقدا لآدابها الكلاسيكية والمعاصرة. كان عملاقا في نقده لأبي العلاء المعري، وكان عملاقا فكريا؛ نقل إلى العربية أهم الآثار اليونانية الفكرية، وكان موسوعيا في الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع، وكان عملاقا حين نادى بحرية الجامعة واستقلالها، وكان عملاقا كوزير نادى بمجانية التعليم، وكان عملاقا حين شارك في وضع دستور يضمن الاستقلال وحرية التعبير.

كان ذلك العملاق “طه حسين” يستحق بجدارة جائزة نوبل؛ الجائزة التي فاز بها على مر القرن الكثير من الأقزام، كمفكر قد أسهم في نهضة بلاده، فقلل عدم فوزه من شأن الجائزة، وإن لم يمس العملاق.

ساهم طه حسين في نهضة بلاده بل والأمة العربية بأسرها، كما تظهر دراسة متميزة لدوره الريادي مع أمثال أحمد لطفي السيد، والشيخ محمد عبده، ورائدة الحركة النسائية هدى شعراوي وغيرهم، في خلق الأسس الفكرية والأدبية الحديثة التي تستند إليها حضارتنا العربية في القرن الحادي والعشرين وتثبيتها والتي يجب استنفارها وإعادة بعثها في يومنا هذا.

صدر مؤخرا مرجِعا اعتبره من أهم ما كُتِبَ عن عميد الأدب العربي بعنوان “النهضوي الأخير” The Last Nahdawi (2021)، بقلم الباحث المتميز د. حسام أحمد. ولم تصدر تلك الدراسة الرائدة ( للأسف ( من كبرى جامعاتنا، التي ساهم في إنشائها والعمل على استقلالها طه حسين ذاته.

بل كانت الأسبقية لدار نشر جامعة ستانفورد التي لها كل الحق في أن تفخر بهذا البحث الذي لم يكتفي بأن يتجاوز القراءة اللصيقة لأعمال المفكر الكبير بل امتد إلى الوثائق الحكومية، وأوراق المفكر الخاصة والمحاضِر الرسمية لاجتماعات قد ترأسها طه حسين؛ لتقييم دوره الريادي الذي لعبه في تاريخ الجامعة المصرية، وجهوده لضمان استقلالها الفكري، بخلاف دعوته الراديكالية لاعتبار التعليم حقا لابد للدولة أن توفره وتضمن جودته لجميع قطاعات الشعب.

واحتلت اللغة العربية مكانة متميزة في فكر وأعمال طه حسين كأستاذ وعميد لكلية الآداب لجامعة القاهرة،حتى قبل انضمامه إلى مجمع اللغة العربية وترأسه له. كما لا تغفل الدراسة دعوات طه حسين المتكررة لإصلاح الحركة النيابية في مصر؛

لإيمانه بالديمقراطية والتعددية في آن واحد وربطه ما بين الثقافة والتعليم باعتبارها الأساس الأوحد لزيادة الوعي الشعبي ومواجهة التحديات المختلفة، سواء من قوى الاحتلال الإنجليزي من ناحية، أو القصر الملكي من ناحية أخرى، أو الفساد الحزبي الذي عانت منه البلاد وتصدى له بمقالاته الصحفية، قضلا عن مواقفه تحت قِبة البرلمان.

رأى حسين في الجامعة مؤسسة مدنية مستقلة قادرة على استيعاب علوم العصر بنزاهة من خلال مناهج وطرق بحثية حديثة، لا تتشبث بتقاليد بالية من ناحية، أو تنساق وراء تقاليع غربية حديثة. وآمن أيضا بالدور العربي الذي يُمكِن الجامعة الوليدة أن تلعبه في عالمها المعاصر عن طريق مؤسسات يتم إنشاءها في دول المغرب العربي، كتونس، الجزائر والمغرب، وتصل إلى العالمية عن طريق مراكز بحثية، افتُتِحَ أولها في إسبانيا،

وكان يطمح إلى نشرها في عواصم العالم الأوروبي المختلفة؛ لتبادل الخبرات والمعارف مع أهم مفكري وباحثي الفكر الغربي من المتخصصين بل وطالب الأزهر ذاته بالقيام بدور أكثر فعالية لترجمة وتيسير معاني القرآن الكريم إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والأسبانية لإتاحة الدراسات الإسلامية لكل من تتوق نفسه لدراسة الإسلام والحضارة العربية دون أن يتمكن من اللغة العربية.

رحب طه حسين بثورة يوليو 1952، وكان من أوائل المتفائلين في خلق وإحياء ثقافة مصرية عربية إسلامية، تؤثر في عالمها العربي، مؤمنا (كما كان دوما( بقدرة الحركة على نشر الحرية والعدالة والمساواة. ورفض الثورة للدستور المقترح، انسحب طه حسين تدريجيا من الحياة العامة، إلى أن أُقصِي فعليا عن الكتابة في جريدة الجمهورية. صُدِمَ طه حسين بهزيمة مصر عام 1967، إلا أن المولى عز وجل أمد في عمره حتى شهد انتصار عام 1973، فتوفي -كما عاش- عملاقا.

حَلُمَ طه حسين (منذ أن كان شابا يافعا) بإمكانية قيام نهضة عربية شاملة، تمتد جذورها الأدبية والفكرية إلى ما قبل الإسلام، واستطاعت تلك النهضة التي أخذ عنها الغرب الكثير الالتحاق بأحدث منجزات العصر في الآداب والفنون، بل وقدرتها (بما لها من تراث) على المساهمة الفعالة في خلق عالم أكثر تحضرا، وأقل ظلما واستعبادا قادرا على رفع الضيم عن المعذبين في الأرض.

ومثلت حياته الفريدة قصة كفاح ومثابرة وقدرة على مواجهة كل التحديات الثقافية والفكرية والسياسية التي تعرض لها في كل ما تبوأ من مناصب، وكل ما أنتج من مراجع، ما زالت تمثل نقطة مضيئة في تاريخ هذا الوطن.

المصدر

Exit mobile version