رقمنة ومعلومياتصحافة وإعلام

حالة الانغمار الرقمي وأجندات الرقابة الذاتية في الإعلام الاجتماعي


  • أجندات الضبط الذاتي

في حالة الانغمار الرقمي الشبكي التي يمتلك فيها الأفراد وسائل إعلام خاصة (الإعلام الفردي)، وتستخدم فيها المؤسسات والجماعات وحتى الدول منصات اجتماعية، تزداد مخاطر التلاعب بالمحتوى والتضليل وبث الدعاية والأخبار المفبركة، ومحاولة الهيمنة على المجتمع الشبكي وتوجيه الرأي العام الإلكتروني لتعظيم النفوذ وزيادة التأثير.

وعلى الرغم من المبادرات الذاتية التي تقوم بها هذه المنصات في الإشراف على المحتوى (فيسبوك نموذجًا)، ومراقبة الآثار والسلوك الاتصالي للمستخدمين، وتحديد القواعد والمعايير الأخلاقية والضوابط القانونية والاجتماعية لضبط هذا السلوك، فإن سجل وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأعوام الماضية يؤكد أن نشاطها الاتصالي كان حافلًا بالخروقات والانتهاكات المتعمدة والمنظمة، ولم تستطع آليات الضبط والتعديل الذاتي، وهيئات الإشراف على المحتوى التي اعتمدتها هذه المنصات، أن تساعد في تنزيل تلك القواعد والضوابط لضمان نزاهتها.

وكشفت انتقادات كثيرة -بعضها لمسؤولين تنفيذيين في شبكات اجتماعية، مثل مهندسة البيانات السابقة في فيسبوك، فرانسيس هوغن- “تضارب المصالح بين ما هو مفيد للجمهور وما هو مفيد لفيسبوك”؛ حيث تضع الشبكة مصالحها أولًا، أي كسب المزيد من المال دون مراعاة القواعد والضوابط الأخلاقية في خدمة المستخدمين وتلبية احتياجاتهم المعرفية والثقافية.

وقد برزت “سياسة المصلحة أولًا” في مناسبات مختلفة كان أبرزها الفضيحة التي ارتبطت بشركة الاستشارات السياسية “كامبريدج أناليتيكا”، في العام 2018؛ إذ أظهرت تحقيقات وتقارير ودراسات كثيرة تلاعب المؤسسة بتوجهات الناخبين في دول مختلفة؛ حيث عملت في أكثر من مئتي استحقاق انتخابي بأنحاء العالم (أميركا، بريطانيا، إيطاليا، كينيا، نيجيريا…) على تقديم خدماتها الدعائية. \

وتستخدم كامبريدج أناليتيكا المعلومات الشخصية التي تحصل عليها من منصة فيسبوك من دون موافقة المستخدمين لتوظيفها في تصميم برامج يمكنها التنبؤ بخيارات الناخبين في محاولة للتأثير على مواقفهم الانتخابية عبر الرسائل الموجهة.

وظهر انحياز شبكة فيسبوك وتجاوزها للقواعد الأخلاقية في النشر عندما أفسحت المجال لخطاب الكراهية والعنصرية الذي يمارسه المستخدمون الإسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني، كما رصدت ذلك تقارير “شبكة السياسات الفلسطينية”، ولاحظت في أحد تقاريرها أن فيسبوك هو أكثر منصة ينتشر فيها التحريض ضد الفلسطينيين بنسبة 66% متبوعًا بموقع تويتر بنسبة 16% (مايو/أيار 2019).

وفي الوقت نفسه، بَنَى فيسبوك خوارزميات تقوم بحذف عدد كبير من مشاركات المستخدمين الفلسطينيين التي تضم مصطلحات بعينها، مثل: حماس، القسام، الجهاد، السرايا، وهو ما اعتبره البعض “قمعًا وتمييزًا عنصريًّا رقميًّا ممنهجًا” ضد الفلسطينيين تُستخدَم فيه هندسة الخوارزميات لمساعدة إسرائيل في محاصرة الرواية الفلسطينية للأحداث ومنعها من الانتشار.

كما وفرت منصة فيسبوك مجالًا عامًا رقميًّا لجماعات اليمن المتطرف لنشر أفكارها وحملاتها العنصرية والقومية دون تنقيح؛ حيث ينبني خطابها على الخوف من المهاجرين، خاصة في أميركا وبعض الدول الأوروبية، ومشاركة الأخبار التي تنتجها المواقع المناهضة للهجرة وعرضها ضمن تفضيلات الأخبار، والتمييز ضد الأقليات الإثنية والدينية، خاصة المسلمة، في الهند والصين وميانمار، ونشر الأخبار المضلِّلة والمعادية للإسلام والمسلمين.

وتُظهِر هذه المشكلات أزمةَ سياسةِ حالة الضبط والتعديل الذاتي والعمل الانتقائي لهيئة الإشراف والرقابة على المحتوى في فيسبوك. وسيتفاقم هذا الوضع مع انفجار البيئة الاتصالية الرقمية في الأعوام المقبلة، وامتلاك الأفراد لأكثر من منصة رقمية خاصة (مكتوبة وسمعية وبصرية)، واستمرار شركات التكنولوجيا العملاقة في العمل بمقتضى سياسة “المصلحة أولًا” لتعظيم الثروة والنفوذ، وتمكين الأفراد من منصة إعلامية رقمية دون حسيب أو رقيب، ما يفتح الباب لفوضى التدفق المعلوماتي خارج القواعد والمعايير الأخلاقية التي يمكنها أن تضبط السلوك الاتصالي في منصات الإعلام الاجتماعي.

وهنا، يصبح التفكير وإعادة النظر في التشريعات المحلية والدولية ضروريًّا لإلزام هذه المنصات وكبرى شركات التكنولوجيا بقواعد السلوك الاتصالي المنضبط للمعايير الأخلاقية لاسيما فيما يتعلق بمبادئ التمسك بالدقة والحقائق والشفافية والنزاهة واحترام الآخرين والإقرار بالأخطاء حتى تصبح هذه المعايير سلوكًا طوعيًّا للمستخدمين، وهو ما يحتاج أيضًا إلى مداخل كثيرة تربوية وثقافية. ولن يكون هذا العمل وحده كافيًا في غياب دور الشبكات والمنظمات المدنية التي يمكنها المساعدة والمساهمة في ترسيخ ثقافة الالتزام بالقواعد الأخلاقية للإعلام الاجتماعي.


مركز الجزيرة للدراسات

الصفحة السابقة 1 2

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى