هذا العيد

 

   حقاً إنه عيد هذا العيد، فيه فرح وانعتاق من الهموم والأحزان التي فاضت بها روحي، لا يشبه كل الأعياد التي مرت علي منذ دهور طويلة، فإنني ولأول مرة في حياتي أضاعف عيدية الأولاد عشرة أمثال، لأول مرة أعايد أخي بمبلغ من المال أضخم من كل ما سبق أن قدمه لي من مساعدات و أزيد عليها بضعة آلاف من الدولارات، لأول مرة أخرج من منزلي الصغير و أطوف البلاد لأوزع العيديات على كل الفقراء و المعوزين، لأول مرة أزور صديقي على الفيسبوك في الشمال و أجزل له العطاء، لأول مرة لا أَعِدُ أحداً  بل أعطي وأعطي بدون سؤال وبلا خشية من قلّة ما في يدي..  ما أسعدني وأنا أخطو خطواتي بثقة واطمئنان! 

   قاطع صوتي المرتفع استرسالي متسائلاً:

هل أحلم يا ترى أم هذا ضربٌ من التخيلات و الهذيان؟ 

قالت زوجتي ذلك و قد دخلت معي في حفل توزيع العيديات، و أضافت:

قبل أن يغيب وجه زوجتي عن ناظري، قفز أحدهم إلى جانبها و قال:

يا الله من أين طلعت هذه المطالب فجأة أمام وجهي؟ هل ما أراه حقيقي أم هو كابوس آخر؟ طلبت من زوجتي أن تقرصني كي أتأكد من حقيقة ما أراه أو لعلني أصحو إذا كنتُ في عداد النيام، قرصتني زوجتي من خدي و تأوهتُ، لكنني مع ذلك مازلتُ أسمع تكبيرات العيد هنا في فيينا رغم إجراءات التباعد و الغلق بسبب وباء “كورونا” الفتاك، عجيب ما أراه و أسمعه: لأول مرة تسكت المدافع و تزهر البنادق و تتصدع الزنازين، لأول مرة كلمتي لا تذهب هباءً مع الريح، لأول مرة صوتي يُسقِط الطاغية و يحرر العبيد، لأول مرة ينهض الوطن من كبوته و نحن نستفيق.

   في هذا العيد رأيتُ فيه المخيمات و قد زالت من بلدي و صارت حدائقاً للعشاق، في هذا العيد عادت “مريم” إلى مدرستها و لبست ثوب العيد، في هذا العيد غادر “أيمن” مأوى المشردين تحت “جسر الرئيس” و عاد إلى عمله الجديد، اشترى لعبة حلوة و كيس بوشار لأخته الصغرى و شالاً من الحرير، في هذا العيد عاد صديقي “عاطف” إلى معمله القديم في “الكلاسة” و عاد “أبو إبراهيم” لزيارته من جديد، عاد صديقي “أحمد” إلى عيادته في “بستان القصر” و عاد صديقي الدكتور “مصطفى” إلى مكتبه في “باب الحديد”، كما عاد صديقي الجميل “أبو الروض” يوزع ابتساماته و تحياته على الجيران في “ساحة الحطب” بعد زوال ركام الغضب من ساحات الحرب، عاد القطار من “ميدان اكبس” بعد طرد الغازي المغتصب و بناء الجسر و سكة الحديد، عاد جميع الأطفال إلى مدارسهم و عادت الطيور تغرد في بلدي السليب، كل هذا حدث في هذا العيد!. 


   استيقظتُ على صوت زوجتي و هي تهزني برفق و تقول:

هيا استيقظ لنلحق أن نتسوق للعيد قبل حلول موعدك مع مكتب العمل ظهر اليوم. 

نهضتُ من فراشي متثاقلاً مندهشاً، ثم أدركت بأنني خسرت حلماً جميلا** و لكني ما خسرتُ السبيلا. قلت لزوجتي: 


جهاد الدين رمضان

             في فيينا ٣٠ تموز/ يوليو ٢٠٢٠ 

*منحة السوسيال: مبلغ مالي شهري تقدمه الجمهورية النمساوية (و معظم الدول الأوربية) كمساعدة اجتماعية للمهاجرين و اللاجئين العاطلين عن العمل. 

**خسرت حلماً جميلا: عنوان أغنية للفنان مصطفى الكرد من قصيدة “موال” للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. 

 

Exit mobile version