إصداراترقمنة ومعلومياتسيميائيات
أخر الأخبار

الإنسان العاري – الدكتاتورية الخفية للرقمية


لقد امتد سلطان الافتراضية في عصر الرقمية لكي يشمل كل شيء. فهي الثابت في وجودنا. فنحن لا نكف عن اللعب بهواتفنا أو لوحاتنا، إننا لا نحس بالآخرين حولنا، بل نبحث عن سلوان ومواساة وفرحة ونشوة، أو حالات استيهام، في ما تقوله الصورة في أجهزتنا.

بل إن الطفل ذاته لم يعد يتعرف على محيط بِكْر تبنيه حقائق ناطقة في وجوده المادي، فحقائق هذا الوجود وتفاصيله تأتيه اليوم بواسطة الصورة أولا، وبعد ذلك تلتقط عيناه أشياء تكون صورتها في وجدانه نسخة سابقة بُنيت في الآلة بفضل تعديلات ومضافات وتحسينات فوتوشوب، واستنادا إلى مسبقات المصوِّر ومواقفه أيضا.


لذلك لا يتردد الكاتبان في تشبيه كائنات الرقمية بعبيد أفلاطون. لقد وُضع هؤلاء في كهف مظلم تحت رحمة حراس يمنعونهم من الخروج ومن تصور عالم آخر غير عالم الكهف، وبذلك حُرموا من الشمس والحقيقة ودفء الحياة، لقد كانت ظلال أجسامهم وحدها تتحرك أمامهم وتوهمهم بأنها الحقيقة ولا شيء غيرها.

إن الحراس في ” استعارة الكهف” هاته هم أيضا “خالقو الوهم” وموزعوه في عصر الرقمية المنفلت من عقاله. فوابل الصور التي تنهال على الإنسان الرقمي تمنعه من رؤية الأشياء، كما هي في أحضان الطبيعة، لقد تحول البصري شيئا فشيئا إلى بديل كلي عن الواقع.


لقد نسي الناس ما يُصنف خارج الصورة، فالحقيقة فيها وحدها، ولم يعد من الممكن أن يستعيدوا وعيهم وحريتهم في رؤية الحياة خارج ما تقترحه الشاشة أو تدعو إليه. إنه الاستلاب المطلق، فما تقترحه الصورة كامل ومصفى وخال من تعقيدات لم يعد الذهن الرقمي قادرا على تحملها.

وكما كان نرجس عاشقا لصورته وحدها، فإن الفايسبوكي لا يبحث في الشبكة سوى عن نفسه، عن شبيهه أو نظيره. إنه “يناضل” و”يحتج” ويتمرد” في الافتراضي، وتلك وسيلته المثلى للتعايش مع واقع يحيط به النقصان من كل الجهات.

إن “أنا” واحدة لا تكفي، نحن في حاجة إلى “بديل” آخر هو الذي يغطي حضورنا في عالم موحش يحيط فيه “الأصدقاء” بنا من كل جانب، هو ما تسميه إلزا غودار ” الأنا الرقمية”، “إننا جميعا ولكن وحدنا”.


إن الصورة ليست مودعة في الكتب التوثيقية والألبومات العائلية، كما كانت قديما، إنها الآن منتشرة في كل مكان. لقد تراجعت حقائق الوجود وحقائق اللغة التي هي مصفاة وجودنا وسبيلنا إلى حقائق تُبنى في المفهومي والمتخيل، لتحل محلها حقائق الصورة وحدها، فلا شيء يستقيم بدون رديف بصري هو الذي يصدِّق على التجربة.

فما نعاينه الآن هو اندفاع أهوج نحو حالات الاستعراء والاستبصار والتلصص والاحتماء الدائم بما يأتي إلى العين ضمن قوة البصري وحده، في انفصل عن موحيات النظرة وجماليتها. وذاك هو سلوك هواة “السيلفي”، فهم يتلذذون بالصورة كما يفعل كل النرجسيين الجدد، أو كما يفعل ذلك الخائفون من زمنية تُدمر كل شيء في طريقها: إنه القلق الذي يتحكم في ” كائن منذور للموت”.


لقد تغير كل شيء في حياة إنسان القرن الواحد والعشرين، لم يعد الناس يعيشون ضمن هذه الثورة باعتبارهم كينونة مستقلة تتغذى من القيم وتنتشي بكل مظاهر العزة والكرامة والاستقلالية في القرار وفي العواطف.

لقد طمرت اللحظةُ ذلك “الثقب” الزمني الذي نطل من خلاله على المستقبل، وغطت عليه رغبات تتناسل باستمرار دون أن تقود إلى إشباع حقيقي. إننا نحيا الزمن باعتباره “لحظة أبدية”، بتعبير جان بودريار، أو ما يطلق عليه “الحضورية”، وهي صفة جديدة لزمن تخلى فيه الإنسان عن المستقبل والماضي بكل الحنين والأمل فيهما، لكي ينغمس في حاضر لا أفق له سوى نفسه.

لقد تخلى الناس عن كل شيء في حياتهم، كما يؤكد ذلك المؤلفان، تخلوا عن حميميتهم وحريتهم، وتخلوا عن حقائق واقع فعلي لكي يحتفوا بعوالم افتراضية أنستهم دفء الإنسانيه فيهم. فلا شيء في وجودهم يمكن أن يستقيم خارج الافتراضية والمواقف المبرمجة في الصور والألعاب والمعلومات التي تسربها الأجهزة الصريحة والخفية.


لقد حل ” الأيدولون” ( الصور العرضية والهشة) محل اللغة. إننا لا نبني العالم كما توحي به كلمات مطواعة أو عصية، بل نكتفي باستقبال ما تقوله الصورة وحدها. لقد تخلت اللغة عن وظيفتها باعتبارها “بيتا للكينونة”، لكي تترك المجال أمام “إيموجات” (imogi)عرضية، ما يشبه لغة تكتب بالصورة تتساوي داخلها كل العواطف.

لقد أصبح سلوك الإنسان متوقعا، وبذلك فهو قابل للبرمجة والتوجيه. لقد كان بإمكان الشرطة وكل الأجهزة السرية أن تعرف عن الناس كل شيء، إلا ما تقوله النفس لنفسها، فتلك مناطق ظلت عصية على كل الطغاة. أما الآن، فإن الفاعلين في الميدان الافتراضي يعرفون عن المرء ما خفي عنه أو ما لم يفكر فيه أبدا.

فهم يتتبعون خطواته في الإبحار ويتعرفون على ميولاته الواعية واللاواعية، ويلتقطون تفاصيل “شخصيته” من الصور التي يشاهد والبرامج التي يختار وتلك التي يرفض ومن الكتب التي يقرأ والفقرات التي يقفز عليها.

وبذلك لم يعد للفعل السياسي أي معنى، فاللوغاريتمات كافية في توجيه الرأي العام، وهي التي تحدد له ” توجهه السياسي”، كما حددت له رغباته وشكل تحققها.


يعتقد “المبحر” أنه يتحرك في المكان وفي الزمان كما يوهمه بذلك “الوجاه الرقمي”، ولكنه ليس في أي مكان في واقع الأمر، فعندما يقرر الإبحار ينفصل عن الزمن الحقيقي لكي يُلقي بنفسه ضمن زمنية بلا حدود، هي في واقع الأمر “لحظة عائمة” لا تستقر على مضمون بعينه، لأنها مدعوة إلى التجسد في صورة تتغير مع كل “نقرة”.


تــابــع قراءة المقــال ….

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية

سعيد بنكراد

د- سعيد بنكَراد؛ أكاديمي ومترجم مغربي، أستاذ السيميائيات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس. الرباط - المغرب. يُعدُّ من أهم المتخصصين في السيميائيات في العالَم العربي. المدير المسؤول لمجلة "علامات" المتخصصة في الدارسات السيميائية، نَشر عشرات المؤلفات، منها: "وهج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية" (2013)، و"النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا" (1996). وعدد من الترجمات، منها: "رسالة في التسامح" لفولتير (2015)،و"دروس في الأخلاق" لأمبيرتو إيكو (2010)، و"تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لميشيل فوكو ( 2005).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى