تباً للفقراء !

 

   اجتمع الغلاء مع البلاء في أرض كانت تدعى سوريا، قال الغلاء للبلاء بعد التحية و السلام:

تنهد البلاء و أسند ظهره إلى حائط آيل للسقوط، قال بحرقة و ألم:

لا ابنتي “الكوليرا” أوجعت السوريين، و لا ابني “التيفوئيد” فعل، ما تمكن منهم سوى ابنتي الآفة “انفلونزا الضمير”* التي شلّتْ ضمائر العالم. 

تخيل أنني جعلت ثمن قرص الفلافل بخمسين ليرة سورية اليوم، و ما يزالون يرفضون الصدقة و لا يغضبون!. 

ما هذا العناد يا ربي؟ 

رفع البلاء ظهره عن الجدار المزعزع، أمسك بيد الغلاء و قال له:

صفَرَ البلاء بفمه مدهوشاً، ثم قال:

تابع البلاء سيره بعد توقفه لسماع الغلاء، جذبه بلطف إلى الأمام، و قال متبسماً:

تفضل يا أخي، هيا بنا، اِمشِ.


   داخل مقهى الانبطاح كان ثمة طاولات يجلس إليها “أشباح” في هيئات بشر، طاولة قرب النافذة العريضة المكسورة الزجاج عليها خمسة أشباح بثياب مبرقعة، و طاولة باتجاه القبلة عليها سبعة أشباح بثياب فضفاضة تصل للأقدام، و طاولة في الركن الشمالي الشرقي عليها بضعة أشباح بثياب ملونة و قمصان بلا أكمام، و في الوسط طاولة صغيرة يجلس إليها شبحان عاشقان بلا ثياب، لكن مع كمامات على الفم و العورة.

   جال الأَخَوَان “بلاء و غلاء” بصريهما في أرجاء المقهى، وجدا طاولة شاغرة قرب ركن تجهيز الطلبات، انبطحا عليها قبل أن تحتلها الأشباح، شاهدهما القهر صاحب المقهى فسلم عليهما من وراء البار، حياهما مبتسماً و قال:

امسح الطاولة يا ولد.

هرع “صبي القهوة” إلى الطاولة يمسحها و ينظف منافض الدخان، يجلب كاسات الماء و لا ينفك عن القول ببلاهة: أهلاً و سهلاً بضيوفنا الكرام.

خرج المعلم السيد “قهر” من وراء البار، اقترب من طاولة الأخوين بلاء و غلاء، صافحهما و جلس معهما، بادرهما بالسؤال التقليدي:

سارع الغلاء بالجواب قائلاً بنبرة لا تخلو من الامتعاض:

حدّقَ القهر في وجه البلاء المتغضن الكئيب، سأله:

هز البلاء رأسه موافقاً، جرع رشفة ماء ثم قال:

و حياة جدي الطاعون لقد أصابوني بالجنون. 

أردف الغلاء قائلاً:

تأوه القهر و شهق بعمق، ثم أشعل سيجارة “حمراء طويلة” و قال:

نظر الأخَوَان في لائحة المشروبات و المأكولات و التسالي، قال الغلاء:

قاطعه الأخ بلاء و أضاف:

فرك القهر يديه و رفع كفيه نحو السماء، قال متأسفاً:

قال الأَخَوَان معاً، ثم نهضا معاً كأنما مسّهما تيار كهرباء عالي الفولت.

ضحك القهر و شد كل منهما بيد، قال مواصلاً الضحك:

لطالما تساءلنا:

 تباً للفقراء ألا يغضبون؟

تباً للفقراء، متى يصرخون؟ 

متى ينتفضون؟ 

لكن مع الصبر لا صراخ و لا غضب و لا احتجاج و لا هم يحزنون!. 


   من بعيد و بعد سكوت المدافع و طبول الرقص على الطوابير، تناهى إلى سمع الأخوة الثلاثة و رواد المقهى الأشباح صوت شجي خافت يغني:

بيقولوا زغيّر بلدي،

بالغضب مسوّر بلدي،

الكرامة غضب،

المحبة غضب، 

و الغضب الأحلى بلدي! 

   خرج الجميع مذهولين من المقهى و الخرائب المحيطة به باتجاه صوت الغناء، و هناك من كومة ركام مدرسة الحي الابتدائية القديمة خرج فتية بعمر الورد غاضبون، شمروا عن سواعدهم و أزالوا الركام و الأنقاض و الحطام، حاملين معاول التشييد و البناء، يرددون بصوت قوي واعد خلف الفتاة “أمل” ذات الصوت الغاضب الواثق الشجي:

… الكرامة غضب 

المحبة غضب 

و الغضب الأحلى بلدي*** 


جهاد الدين رمضان 

                           في فيينا ٢٧ حزيران/يونيو ٢٠٢٠ 

*انفلونزا الضمير: عنوان مسرحية للفنان السوري الحلبي المرحوم عبد الرحمن عيد، عرضها في دمشق قبل وفاته عام ٢٠٠٧ بمشاركة الفنان الكبير زهير عبد الكريم. 

**تنبولة: تحريف لكلمة (تبولة) و هي أكلة من المقبلات السورية المشهورة، قوامها الخضار و التوابل مع برغل ناعم قليل. و في النص مقصود بها (التنبلة) أي الكسل الشديد مع اللامبالاة. و المسقّعة نوع من الخضار (مثل الباذنجان – الكوسا – القرع – البامية…) مطبوخ بالبندورة و الزيت أو باللحم. الفتّوش طبق مقبلات سوري مشهور يكثر تناوله في شهر رمضان، قوامه قطع خضار خشنة مع التوابل و الحمض بالثوم و الزيت مضافاً إليه الخبز المحمص. 

***مقطع من أغنية بيقولوا زغير بلدي: أغنية وطنية للسيدة فيروز من كلمات و ألحان الأخوين رحباني. 

 

Exit mobile version