حفل تنكري لئيم

 

   دعاني صديقي “سين واو” إلى حفل تنكري راقص تقيمه جمعية تعنى بشؤون اللاجئين في النمسا، كنتُ أقيم معه في سكن شبابي مشترك أول فترة من إقامتي في العاصمة “فيينا” قبل التحاق زوجتي بي، سألت صديقي سين:

ابتسم صديقي و بحلق عينه قائلاً:

شهق صديقي مستغرباً من تأويلي لطقوس الحفل، رشف من فنجان القهوة الصباحية و أجابني بنزعة خبث:

هذه المرة ضحكتُ من تشبيهات صديقي سين و مقارناته الطريفة، تأملتُ في أحوالنا نحن السوريين كيف انتهى بنا الأمر بسبب الأقنعة و الشخصيات المزيفة، لو ظهرنا على حقيقتنا لما عرفنا النزوح و اللجوء و الدموع و الدماء و الخراب و هذا الصمت المريب.. و قبل أن أسترسل في أفكاري باغتني صديقي سين بالسؤال الملحّ:

قلت له بحزن:

رد صديقي مندهشاً:

ابتسمت في وجه صديقي، و قلت له بصدق:


     قرأت مذكرات الشاعر أحمد فؤاد نجم المسماة (الفاجومي) بعد تلك الدعوة الماجنة بشهور، جاء في تقديم المذكرات أن شاعر الشعب المصري تعرض لملاحقة البوليس السري على أيام الرئيس أنور السادات، فسأل صاحب التقديم (كاتب المقدمة الذي نسيت اسمه للأسف) عن وسيلة مجدية للتنكر بزي لا يعرفه به البوليس و الناس، فأجابه ضاحكاً على سبيل المزح: أنت لو تستحم مش يعرفك حد!

    و اليوم بعد تسع سنوات من الدموع و الدم، أرى هذه النصيحة في محلها بالضبط، لو استحم كل سوري و نظف جسده و روحه و قلبه و لسانه و يده و وجهه و حكّمَ عقله، لما وصلنا إلى هذا الحد من الموت و التشرد و التشرذم في كل بقاع الأرض، لكننا آثرنا التنكر لعقولنا و قلوبنا و ارتدينا كل قناع رائج وفق موضة العصر:

تنكر اللص بقناع الشرطي و انخرط في صفوف حفظ الأمن، تنكر السفاح في قناع الطبيب الطيب القلب و شرع يقطع جثثنا على طاولات التشريح، تنكر السفيه بقناع الحكيم و استلم زمام الأمر، تنكر صاحب الصوت القبيح بلقب ملك الغناء و الفن و شنّف أسماعنا بصوت “جاروشة” القمح. 

تنكر المارق بقناع الشيخ، و الأفّاق بقناع الناسك البتول، تنكر الجاهل بقناع العارف و صار حكيم العصر، تنكرت القبيحة بقناع ملكة الجمال و صارت فاتنة الشاشة و الشارع و الشقق المفروشة. 

تنكرت الليرة السورية لقيمتها و صارت في الأرض، تنكرت الطائفية بقناع الوحدة الوطنية و ضربت أطماعها في كل مكان، تنكرت اللُحمة الوطنية بقناع الأنانية و صارت أرخص من اللَحمة البلدية. 

تنكر الخائن بقناع الإخلاص و قال أينك يا خلاص، تنكر الرخيص بقناع الكريم و كشف عورته بأرخص الأسعار، تنكر العبد بقناع الحر و ركع طوعاً للجلاد، تنكر غراب البين و الخراب بقناع حمامة السلم و لم تسلم منه أي روح، تنكر العدو لتصريحات التهديد و الوعيد و صار يضربنا علناً بيدٍ من حديد. 

تنكر الجار للجار و جار عليه، تنكر الكوسا للخيار و الزيت للزيتون ، تنكر الابن للأب و بالعكس، تنكر الأخ لأخيه و صرنا أخوة بالاسم فحسب، تنكرت الأم لوليدها و ذهلت عن إرضاع الصغير إلى إرضاع الكبير، تنكر الفاجر بقناع الأديب و صار واعظاً في الأخلاق…

أنكر كل سوري ما فعلته يديه و قال أنا و الله بريء ! 

   رحماك ربي، هل هذا حفل تنكري كبير، أمْ تحولت بلدي إلى حقل تنكري لئيم؟


جهاد الدين رمضان

                 في فيينا ٢١ حزيران/ يونيو ٢٠٢٠

*كلمة بالزلط عامية شامية تعني عارٍ من الثياب، ربي كما خلقتني. و الجاروشة أيضاً تسمية شامية عامية لمطحنة الحبوب، يقولون لصاحب الصوت المنكر الغليظ: صوتك مثل الجاروشة.

 

Exit mobile version